جلال أمين في ذكراه الثانية

مَن يكتب سيرته يجب أن يتمتع بجسارة البوح بما يخجل منه غيره، والاعتراف بما فعل في حياته دون إضافة أدنى "رتوش" إلى ما كان.
الكتابة هي أقرب ما تكون إلى التطهر عبر الاعتراف بالحقيقة
الخبر لا يهمك كثيرًا ما إذا تلقاه الناس باهتمام أو بغير اهتمام

"لا يفلح في كتابة سيرته الذاتية مَنْ يتصور أنه أذكى من قارئه أو أكثر دهاءً منه وقدرة على الخداع والمراوغة وإخفاء الحقائق، أو أن بمقدوره أن يرسم لنفسه صورة "مفيش بعد كده"! .
فمَنْ يكتب سيرته يجب أن يتمتع بجسارة البوح بما يخجل منه غيره، والاعتراف بما فعل في حياته دون إضافة أدنى "رتوش" إلى ما كان، أو مراعاة حسابات تتصل بالسمعة أو الانطباع المتراكم عنه لدى كثير من الناس؛ فالكتابة هنا هي أقرب ما تكون إلى التطهر عبر الاعتراف بالحقيقة. 
ولا يمتلك القدرة على ذلك إلا قلة من البشر الذين تعد الكتابة بالنسبة إليهم غاية عليا، بغض النظر عن الأثر الذي ستتركه هذه النوعية من الكتابة الاعترافية الصادمة الممتعة من إيلام للبعض، أو غضب يصبونه على صاحب هذه السيرة إلى يوم الدين. 
وإذا قصرت كلامي على إبداع السيرة الذاتية في العربية فإنني أود أن أتوقف أمام تجربة واحد من أصدقائي المفكرين البارزين الذين تربوا في بيت أدب، وانفتحوا على الحياة الغربية، وتزوجوا بأجنبيات، وحققوا نجاحًا لا مثيل له في مجال تخصصهم الدقيق ثم حققوا نجاحًا أكبر عندما امتلكوا هذه الشجاعة على البوح والاعتراف والتأمل في أسرار الحياة والخلق من خلال سيرهم الذاتية التي نشرت في كتابين منفصلين تحت عنوانين مختلفين يفصل بينهما فارق زمني واضح أتاح لهم الفرصة للتعرف على ردود الأفعال لما نشروا. 
أتكلم هنا عن الدكتور جلال أمين، ابن الأستاذ أحمد أمين، صاحب: "حياتي"، و"إلى ولدي"، و"فجر الإسلام"، و"ضحى الإسلام"، و"ظهر الإسلام"، و"قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية"، الذي لفتتني كتبه وأنا بعد في صدر شبابي فنهلت منها، ودافعت عنها، بل وقدمت بلاغًا إلى النائب العام على صفحة كاملة بجريدة "الأخبار" المصرية التي كنت محررها الأدبي، حول سطو أحد ناشرينا المعروفين في وسط القاهرة على كتابه "قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية"، ونشر طبعة منه في بيروت خلوا من اسم صاحبه أحمد أمين، وكتابة هذه العبارة بدلًا من اسمه: "وضع مجموعة من المؤلفين" دون إدراك أن المقدمة التي وضعها أحمد أمين لهذا المعجم مكتوبة بضمير المفرد، ولا يمكن أن تنسب إلى مجموعة من المؤلفين، كما ذكر الناشر المزوّر الذي كان يبيع الكتاب المزوَّر بالقاهرة على مبعدة مئات الأمتار من ناشر الكتاب الأصلي "مكتبة النهضة المصرية" الكائنة في شارع عدلي باشا قرب ميدان الأوبرا والذي لم يكن يدري بهذه الواقعة إلى أن قدمت بلاغي إلى النائب العام. 

وفي ظل هذا البلاغ الذي أحدث رجة في الساحة الثقافية في مصر، بادر واحد من أبناء الأستاذ أحمد أمين بالتواصل معي، كممثل لورثة الكاتب الراحل، لنكمل هذه الحملة الصحفية التي خضتها، إنه المهندس الراحل حافظ أحمد أمين، الذي كان كاتبًا مسرحيًا موهوبًا، ولكن كونه ابنًا لأحمد أمين لم يساعده في أن يصبح كاتبًا ملء السمع والأبصار. 
وفي ذلك الوقت كان الدكتور جلال أمين يعمل خارج مصر، هو وشقيقه السفير حسين أحمد أمين الكاتب الشهير صاحب كتاب "دليل المسلم الحزين"، وما أن وصل الدكتور جلال أمين إلى مصر حتى اتصل بي عن طريق شقيقه حافظ وتلاقينا وظللنا صديقين، ومما دعَّم من هذه الصداقة دائرة واسعة من المبدعين والناشرين وأساتذة الجامعة الأميركية بالقاهرة التي عاد جلال أمين ليعمل بها بعد استقراره في مصر، فأسهمت هذه الدائرة من الأصدقاء وأذكر منهم الروائي الطيب صالح، وناشره المهندس إبراهيم المعلم في تمتين علاقتنا الثقافية والإنسانية. بل إنني يمكن أن أضيف إلى هذه الدائرة، السفيرة شادية فرَّاج، مساعد وزير الخارجية الآن، التي كانت سفيرة لمصر في تونس، واستضافتني على مأدبة غذاء في بيتها بصحبة صديقي الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي، وفي هذا اللقاء أخبرتني بأن صلة قرابة شديدة تربطها بعائلة أحمد أمين. 
وفي هذا الشهر الذي يوافق الذكرى الثانية لرحيل صديقي الدكتور جلال أمين الذي غادرنا يوم 25 سبتمبر/أيلول 2018 أعيد قراءة الجزء الثاني من سيرته الذاتية البديعة الصادرة عن دار الشروق تحت عنوان "رحيق العمر"، والتي سبقها نشر الجزء الأول منها وعنوانه "ماذا علمتني الحياة؟" في مايو/آيار 2007 عن دار الشروق أيضًا. 
وقد استهل جلال أمين هذا الجزء الثاني من سيرته بمقدمة ضافية جعل عنوانها "تجربتي في كتابة السيرة الذاتية" أشار فيها إلى عدة أمور بالغة الأهمية تصب في صلب موضوعي هذا. 
فقد ذكر جلال أمين أنه بعد أن نشر "ماذا علمتني الحياة؟" انهمرت عليه ردود الفعل المهنئة، بينما انتقد البعض أشياء مهمة في الكتاب، وعاب عليه البعض الصراحة الزائدة في أمور رأوا أنها يجب أن تبقى سرًا، وليس من حقه إفشاؤها. 
 كما عاب عليه البعض أنه لم يكن صريحًا بالدرجة الكافية فيما يتعلق بالمرأة والجنس. 
 ولكن الانطباع العام كان إيجابيًا؛ مما شجعه على اتخاذ خطوة أخرى كانت نتيجتها صدور "رحيق العمر" الذي هو استكمال للأول، ولكن ليس بمعنى أنه يبدأ من حيث ينتهي، بل بمعنى أنه أيضًا سيرة ذاتية، حاول فيه مؤلفه كذلك أن يستخلص ماذا علمته الحياة؟
ويوضح أنه يسير موازيًا للكتاب الأول، فهو مثله يبدأ من واقعة الميلاد، بل وقبل الميلاد، وينتهي إلى اللحظة الراهنة، ولكنه لا يكرر ما سبق قوله، وكأننا بصدد شخصين يصفان حياة واحدة، ولكن ما استرعى انتباه أحدهما، واعتبره يستحق الذكر، غير ما استرعى انتباه الآخر.
فمن المدهش حقًّا مدى غنى حياة كل منا بالأحداث التي تستحق أن تروى، والشخصيات الجديرة بالوصف - كما يرى جلال أمين- الذي دهش، وهو يحاول استعراض حياته من جديد، من كثرة ما لم يذكره في كتابه الأول، لا لأنه لا يستحق الذكر؛ بل لمجرد أنه لم يخطر بباله ذكره وهو يؤلف ذلك الكتاب. فجلس ليدون ما فاته ويرتبه، ولكن هناك أشياء أخرى تعمد من قبل ألا يذكرها، ثم رأى أنه قد يكون من المفيد ذكرها. 
ثم يضيف هذه المعلومة المهمة: "قال لي صديق عزيز، وهو مثقف ثقافة واسعة، إنه كان قد أعجب بكتابي "ماذا علمتني الحياة؟"، ولكنه كان يتمنى أن يجد فيه أيضًا وصفًا لتطوري الفكري. وقد اعتبرت هذه الملاحظة، إذ تصدر من هذا الشخص، إطراءً عظيمًا، إذ هل يعتقد هذا المثقف الكبير أن لدي حقًا تطورًا فكريًا يستحق أن يوصف؟   

galal
الانطباع العام كان إيجابيًا

لم أناقشه في الأمر، بل اعتبرت كلامه صحيحًا لأني أحب أن يكون كذلك، وحاولت في هذا الكتاب الجديد أن أشرح بوضوح أكبر، ما اكتسبته من قراءاتي وتجاربي من أفكار أثرت في تكويني، ثم ضعف أثرها أو بقيت معي حتى الآن، آملًا أن تكون في هذا فائدة للقارئ، على الأقل بإطلاعه على أفكار بعض الكتاب المهمين الذين لم تكن له معرفة سابقة ولا كافية بهم." 
ويستطرد جلال أمين قائلًا: "كانت تجربتي مع الجزء الأول من سيرتي، تجربة شيقة وسارة في مجملها، على الرغم مما أصابني قبل نشر الكتاب من قلق، وبعد نشره من بعض الأسف. 
كنت أتشوق إلى ظهور هذا الكتاب أكثر مما تشوقت لظهور أي كتاب أو مقال سابق لي، كما كنت أتهيب ردود فعل القراء أكثر من خوفي من رأيهم في أي شيء كتبته من قبل. 
كان الفارق بين هذا وذاك يشبه الفرق بين أن تلقي على مجموعة من الناس خبرًا، وأن تحكي لهم قصة ترجو أن يجدوها طريفة. 
الخبر لا يهمك كثيرًا ما إذا تلقاه الناس باهتمام أو بغير اهتمام، أما القصة فيتوقف نوع استجابتهم لها على مهارتك في إلقائها، وعلى ذكائك (أو غبائك) في اختيارها دون غيرها، وعلى خفة ظلك أو ثقله في طريقة إلقائها. 
أضف إلى هذا أن السيرة الذاتية قد تحتوي (وهي كذلك في حالتي) على بعض الحقائق أو الفضائح المتعلقة بأشخاص قريبين إليك (وعزيزين عليك أيضًا)، فيشوقك أن تعرف ما إذا كنت قد أصبت أم أخطأت بذكر هذه الفضائح أصلًا، وما إذا كان من الخطأ أو الصواب البوح بآرائك الحقيقية في آخرين، بعضهم لا يزال على قيد الحياة، ومن مات منهم لا يزال لهم أبناء وبنات على قيد الحياة. والشخصيات العامة التي تكتب رأيك فيها، لها أنصار أشداء أو أعداء أشداء أيضًا؛ فالبوح برأيك فيها لا بد وأن يغضب هؤلاء أو أولئك.