جون كيتس والهمشري في أطروحة الأدب المقارن

الفكرة المتعلقة بالإيحاء بالمعنى عن طريق استخدام الخيال المتمثل في الصور البيانية والرمز موضوع أطروحة باحثة الدكتوراه نهى حسن فرغل.
الشعر البيئي هو الذي قد يغير المجتمع، لا من خلال الدعاية ولكن من خلال التجربة الملموسة
التجاوب دون المشاركة في قصائد الشاعرين البريطاني جون كيتس، والمصري عبدالمعطي الهمشري
تصوير التفاصيل الملموسة في الواقع الخارجي لإنتاج قصيدة كثيفة

لم يكن استخدام الشعراء الرومانسيين للخيال، وبخاصة ذلك المستمد من الطبيعة، هربًا من الواقع كما يعتقد بعض النقاد، ولكنه كان محاولة لتغيير الواقع. وقد شبّه كل من الشاعر الإنجليزي جون كيتس (1795- 1821)، والشاعر المصري محمد عبدالمعطي الهمشري (1908- 1938)؛ وكلاهما ينتمي للتيار الرومانسي في بلاده وزمانه، دور الشاعر في المجتمع بدور الرسول الذي من واجبه أن يخفف آلام البشرية وأن يلهمها الخير والجمال. وبالطبع فإن دور الرسول لا يتمثل في سرد تجربته الروحية للآخرين ولكنه يهدف إلى تغيير البشرية جمعاء.
وقال المفكر الدكتور زكي نجيب محمود إن الفن كله يدور حول ذلك الإلهام أو الإيحاء بالمعنى الذي قد يُحدث تغييرًا في نفس المتلقى لا يمكن أن يحدثه الوعظ المباشر. وهذه الفكرة المتعلقة بالإيحاء بالمعنى عن طريق استخدام الخيال المتمثل في الصور البيانية والرمز هي محور مفهوم المقدرة السلبية الذي هو موضوع هذه الأطروحة التي نالت عليها الباحثة نهى حسن فرغل درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى من قسم اللغة الإنجليزية وآدابها بكلية الآداب جامعة عين شمس، بعد أن ناقشتها، صباح السبت الماضي، لجنة علمية رأسها العالم الكبير الدكتور محمد محمد عناني، وضمت في عضويتها الدكاترة: مصطفى رياض محمود "مناقشًا"، وسلفيا صبحى فام، وإيمان فاروق البقري "مشرفين".
وفي عرضها لرسالتها أشارت الباحثة نهى فرغل إلى أن جون كيتس تحدث عن مفهوم المقدرة السلبية - التي ترجمها الدكتور محمد عناني على أنها "القدرة على التجاوب دون المشاركة" - في خطاباته، ولبها هو القدرة على استقبال تجارب الحياة المختلفة بذهن متفتح. 
وينقسم هذا اللب إلى ثلاثة أفرع، أولها: أولوية الخيال والحدس، وثانيها: القدرة على قبول الأفكار المتناقضة بل والمتنافرة، أما ثالث هذه الأفرع فيتمثل في تصوير التفاصيل الملموسة في الواقع الخارجي لإنتاج قصيدة "كثيفة" كما وصفها كيتس.
وتترجم هذه العناصر الثلاثة إلى ثلاث مراحل في التجربة الشعرية أو العملية الإبداعية للشاعر الذي يتمتع بهذه المقدرة السلبية، وأول هذه المراحل هو إنكار الأنا وليس الذات، بمعنى تجميد التفكير المنطقي المبني على تحليل الأسباب والنتائج وترك الغلبة للحدس، وهذا وحده ينسف فكرة أن الشاعر الرومانسي منغلق داخل ذاته. 
وثاني هذه المراحل هو التلاحم فيما بين الشاعر والعنصر الذي يتأمله في الواقع الخارجي، أو في الطبيعة.

كل قصيدة من القصائد المختارة لهذين الشاعرين تتمحور حول صورة امرأة حقيقية لكنها ترمز إلى العقل الباطن للمتحدث الرجل

أما المرحلة الثالثة فتتمثل في القدرة على استكشاف "الجمال" الخالد وإبداع قصيدة "كثيفة".
وقد وجدت الباحثة هذه الصياغة النفسية لمفهوم المقدرة السلبية في النظرية النفسية للطبيب وعالم النفس كارل يونج (1875- 1961). فإذا اعتبرنا أن الذهن المتفتح الذي يستقبل تجارب الحياة المختلفة، والذي هو جوهر المقدرة السلبية، ليس محصورًا في تقبل الآراء المخالفة أو النظرة المختلفة للحياة من قبل الآخرين، بل يتعدى ذلك ليشمل استقبال نبضات وإيحاءات اللاوعي الداخلي، فإن الفرع الأول المتمثل في أولوية الخيال والحدس يعبر عن تقبل الغموض والإيحاء الذي تحدث عنه كل من: يونج، وزكي نجيب محمود كهدف للفن، بدون السعي المحموم لمنطقة الحقيقة. 
ويقابل الفرع الثاني الاتحاد بين الوعي واللاوعي (وكذلك بين أضداد أخرى) لبلوغ الوئام الداخلى.
أما الفرع الثالث فيقابل مفهوم يونج للرمز. فلا يمكن أن تكون هناك وظيفة رمزية لأى شيء ملموس إلا إذا تعرفت عليه التركيبة النفسية في صورته الملموسة أولًا.
ولذا فإن تصوير التفاصيل الملموسة في الواقع الخارجي يكون هو المدخل والأساس لأي قيمة روحانية قد يمثلها هذا الشيء.
وبذلك تمثل المقدرة السلبية إحدى الطرق لبلوغ ما أسماه يونج "التفرد" وهو عملية النضج النفسي التي يستطيع من خلالها الشخص أن يتفهم بعقله الواعي حقائق لا واعية، وبذلك تثري الشخصية وتكون أكثر "كثافة".
وتدلف الباحثة إلى  صلب موضوع رسالتها عندما تذكر أن شعر كل من: جون كيتس والهمشري في معظمه يعتمد على وصف الطبيعة.
 وتوضح أن منهج بحثها الذي تم من خلاله تحليل هذه القصائد المختارة لهذين الشاعرين هو النقد البيئي.
وهذا المنهج يعتمد على البحث في علاقة الإنسان بالبيئة التي تحيطه، والكيفية التي تظهر بها هذه العلاقة في الأعمال الأدبية التي ينتجها من خلال اعتبار أن الطبيعة مادة لاستكشاف الذات من ناحية، واعتبارها من ناحية أخرى، ذات قدرة على إلهام الآخرين اتخاذ منهج للحياة يحافظ على البيئة لأن إنقاذ كوكب الأرض يعد إنقاذًا للتركيبة النفسية لقاطنيه. 
وينبثق من هذا المنهج النقدي الواسع منهج علم النفس البيئي القائم على فكرة إنكار وجود حدً فاصل بين الحقيقة الخارجية والحقيقة الداخلية.
وقد أفادت الباحثة من هذا المنهج الذي أسسه تيودور روزاك، والذي يعتبر يونج من رواده، ولاسيما في تحليل الرمز والصور البيانية المستمدة من الطبيعة، ومن الصور الأولية القاطنة في اللاوعي والتي عبر عنها يونج في نظريته النفسية.
ولقد تم تحليل هذه الصور في القصائد التي وقع عليها اختيار الباحثة لتوضيح الطريقة التي يتم بها الإيحاء بالمعنى. 
وفي هذا السياق، يمكن اعتبار قصائد كل من جون كيتس والهمشري تندرج تحت مفهوم الشعر البيئي الذي قام جوناثان بيت بتعريفه بأنه ذلك الشعر الذي قد يغير المجتمع، لا من خلال الدعاية ولكن من خلال التجربة الملموسة. 
وتشير الباحثة إلى أن كيتس والهمشري لم يعبرا صراحة عن تطلعاتهما الإصلاحية في شعرهما، وإن كان كيتس قد عبَّر عنها في خطاباته، فيما تناولها الهمشري في مقالاته المنشورة.

وتنقسم هذه الرسالة إلى: مقدمة وثلاثة فصول. يتناول الفصل الأول منها تعريف مفهوم المقدرة السلبية لما يوحي به من تناقض لفظي، وكذلك ما يتضمنه من أفكار فلسفية ونفسية، مرورًا بتحليل النقاد له مما يخلص إلى أنه مفهوم كوني له وجوده القوي في كتابات بعض الفلاسفة الأجانب والنقاد العرب أيضًا.
وحيث إن هذه دراسة مقارنة فكان من الضروري أن تتضمن أراء هؤلاء النقاد والفلاسفة العرب لتثبت الباحثة أن مفهوم المقدرة السلبية لم يكن، بحال من الأحوال، غريبًا عن مجتمع الهمشري. 
وقد تم اختيار موضوعي الفصلين الثاني والثالث بناء على راي كارل يونج الذي يؤكد ضرورة اتحاد ضدين بعينهما من الأضاد المتعاركة داخل النفسية حتي يصل الإنسان للوئام الداخلي والنضج النفسي، وهما: الاتحاد بين الماضي والحاضر، وكذلك الاتحاد بين الرجل والمرأة. 
ويدور الفصل الثانى حول فكرة اتحاد ضدى بين الماضى والحاضر، والصراع الذي يتضمنه ذلك من أجل بلوغ حالة الوئام وذلك من خلال تحليل الصور البيانية والرمز في القصائد المختارة.
ويركز هذا الفصل على تصوير الصراع الداخلي للمتحدث والذي يحاول من خلاله استعادة البراءة الطفولية في الماضي والتي تمثل حالة الوئام والسلام النفسي بالرغم من ضغوط الحياة على الإنسان البالغ في الحاضر. 
وتظهر المقدرة السلبية للشاعرين في قدرة كل منهما على تصوير مختلف جوانب هذا الصراع ومختلف أوجه محاولات المتحدث لبلوغ حالة النضج النفسي والوئام.
أما الفصل الثالث، فيتناول تطبيق الإطار ذاته، ولكن فيما يتعلق بالقصائد التي تتضمن محاولة لخلق الوئام بين ضدى الرجل والمرأة. والشعور بالأبدية ذاته يستوحى هذه المرة من الاتحاد بين ضدي الرجل والمرأة من خلال مفهوم الحب الحقيقي الذي أشار إليه يونج والذي يقوم فيه الرجل والمرأة باستعادة حالة الوئام والسلام بين آدم وحواء قبل هبوطهما على الأرض. 
وتوضح الباحثة أن كل قصيدة من القصائد المختارة لهذين الشاعرين تتمحور حول صورة امرأة حقيقية لكنها ترمز إلى العقل الباطن للمتحدث الرجل. 
وهذه المرأة قد تكون مرشدة  للوئام النفسي الذي يصبو إليه المتحدث، وقد تكون ذات تأثير مدمر على المتحدث مما يؤدي إلى فوضى داخلية بدلًا من الوئام.
وحسب صورة المرأة التي يصورها الشاعر، فيتم تحليل موقع المتحدث من النضج النفسي والوئام الداخلي الذي يصبو اليه. وتظهر المقدرة السلبية للشاعرين من خلال قدرتهما على تصوير أوجه مختلفة للمرأة سواء سلبية أم إيجابية. 
وفي خاتمة الرسالة، تؤكد الباحثة أن الشعر الرومانسي لم يكن أبدًا هروبًا من الواقع بل كان صرخة متخفية.