حول سياسة تضامن كفاح – كفاح تضامن

تملق الشيوعيون الزعيم عبدالكريم قاسم والنتيجة معروفة. يتملق الشيوعيون الزعماء الجدد صنيعة الاحتلال، فلماذا يتوقعون أن تكون النتيجة مختلفة؟

يتذكر الرفاق الشيوعيون الذين قيض لهم العمل في صفوف الحزب الشيوعي في بداية الستينات من القرن الماضي، وكذلك أصدقائه ومؤيديه، أن الحزب رفع حينها سياسة شعارها "تضامن كفاح- كفاح تضامن" للتعامل مع الزعيم عبدالكريم قاسم ونظامه، بعد سياسة تضامن كلية وكاملة تجلت في رفع شعار "الزعيم الأوحد"، بعد أن أسفر النظام عن عدائه السافر ضدهم خصوصاً بعد أحداث كركوك الدامية، وخطاب الزعيم في كنيسة مار يوسف، وزج العديد من عناصرهم في السجون، وتراجع الثورة في مجالات عدة، ومهادنة القوى الرجعية، التي أعادت بسط نفوذها على العديد من المرافق، والمنظمات المهنية والديمقراطية، وتغذية الحملة المنظمة ضد القوى اليسارية والشيوعية تحديداً برضى وقبول من أجهزة الدولة، لا بل برعاية منها في كثير من الأحيان.

كانت هذه السياسية تفعّل تارة الشطر الأول من المعادلة، ليس هذا فحسب بل تبطل عملياً المفردة الثانية منه وهي "كفاح"، بحيث تتحول إلى تضامن كلي يذكرنا بسياسة "زعيمنا الأوحد" بحيث ينعدم كلياً أي لون من ألوان النقد، برغم أن عداء السلطة وأجهزتها لم يقل أو يضعف، بل أن الأمن والحاكم العسكري العام، والشرطة كانوا جميعاً ييدعون في طرائق محاربة الشيوعيين، بحيث عادت إلى الواجهة مفردات بهجت العطية مدير الأمن العام في العهد الملكي حول الفكر الهدام، والعمالة لموسكو، إضافة إلى الإلحاد والشعوبية.

كان العذر المقبول والمُبرر لإتخاذ هذه السياسة أن النظام الوطني كان مُهدداً، وهو يتعرض للمؤامرات الإمبريالية والرجعية الداخلية والإقليمية. لكن غير المبرر، والذي لم يهضم من الكثيرين، هو الزعم بأن تضامننا مع النظام تستوجبه مصلحة الثورة العالمية، وأن النظام في سياسته الخارجية تقدميا، فعلاقته مع الإتحاد السوفيتي والمعسكر الإشتراكي في تطور مستمر، وإعترافه بألمانيا الديمقراطية مثال على هذا. من المؤكد أن ليس ثمة مصلحة للثورة العالمية، وضمن أي منطق، في إضعاف وتدمير القوى التقدمية العراقية، وفي تعزيز قوى الرجعية وهيمنتها على الواقع العراقي برمته.

بتقديري المتواضع أن مهمة الشيوعيين العراقين وإبداعهم الحقيقي ليست في تقوية الثورة العالمية، وإنما في تعزيز النهج التقدمي في العراق، والذي سيترجم بداهة خدمة للثورة العالمية. الهم الأرأس للثوري التقدمي في بغداد أن يقلل من مظاهر العنت والعوز لمواطني بغداد، ويوسع فسحة الديمقراطية في عموم البلاد، أكثر من إهتمامه بالثورة في أميركا اللاتينية، فهو سيتضامن ويؤيد هذه، لكنه يتطوع لتقديم دمه دفاعاً عن مصالح أبناء بغداد والعراق، وكان من المفترض الإنتباه لطبيعة ومغزى وأبعاد الحالتين، حالة التضامن والتأييد الأممي، وحالة الإستعداد لتقديم ضريبة الدم من أجل الهم الوطني العراقي.

وبتقديري المتواضع أيضاً أن تغليب البعد الأممي على البعد الوطني، سيؤدي حتماً إلى تلاشي الحس الوطني، أو التلاعب بمفردة الوطنية بما يسوغ الإرتهان للخارج، أي كان هذا الخارج ثوياً كان أم رأسمالياً، وحتى إمبريالياً، فالعاصم من الزلل هو الوطنية، وفي حالتنا الوطنية العراقية حصراَ.

الشطر الثاني من المعادلة وهو "كفاح تضامن" لم يفعل قط، فلم نقدم سياسة "الكفاح" أولا ولا "التضامن" ثانيا، ولم نربط بينهما ربطاً جدلياً، وإن كتب ونشر وثقف فيما بعد، أي بعد سقوط النظام الوطني ومقتل زعيمه غير هذا، فهذا ليس سوى تبرير لسياسة، ليست خاطئة من حيث الجوهر، ولكن نفذت بشكل خاطئ، ولعل هذا التنفيذ الخاطئ أحد مسببات الردة، ليس ردة شباط فحسب وإنما الردة الفكرية الشاملة التي أفقدتنا في نهاية المطاف البوصلة والمعيار للحكم على الأشياء والممارسات والخطط.

كنا نخشى زيادة العيار في نقد الزعيم كيلا نكون جزءاً من الحملة الظالمة عليه، ولو أشعرنا المنقود أننا ننتقده من أجل أن نتضامن معه أكثر، إذ أن نقدنا تصويب وتقوية له، لكان هذا أفضل لنا وله، ولكننا خوفناه من نوايانا في المرحلة الأولى برفع شعار "حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمي"، ثم تملقناه فيما بعد وهو يهبط، ويهبط بالعراق إلى المصير المجهول.

نفس الخطأ يتكرر اليوم، ولكن بشكل أكثر مأساوية. اليوم لسنا بإزاء التعامل مع زعيم وطني، وإنما بإزاء التعامل مع سياسين في ظل إحتلال، جاءوا مع هذا الإحتلال، أو رضوا به، أو تعاونوا معه، وإذا كنا نتعامل مع قاسم الذي أخرج العراق من حلف بغداد، وأخرج الإنكليز من قاعدتي الحبانية والشعيبة، فإننا الآن بإزاء نظام يعيد القواعد الأجنبية إلى البلاد، ويمنح الإشراف حتى على الطرق الداخلية إلى الأجانب. وإذا كنا بإزاء زعيم وطني يسن قانوناً للأصلاح الزراعي ويبطل قانون دعاوي العشائر، فإننا بإزاء نظام يعيد الدم للحالة العشائرية ويمنحها حق التحكم بالمواطنين بدل الدولة. وإذا كنا بإزاء قائد أخرج البلد من منظومة الإسترليني، وحرر الدينار العراقي، فنحن الآن بإزاء نظام يرهن الدينار بالدولار، بحيث لا يتم تحويل دولار واحد إلا عبر أميركا ونظامها المصرفي. وإذا كنا بإزاء زعيم أصدر قانون 80 وإستعاد 99% من أراضي الوطن إلى الوطن، فإننا بإزاء نظام يتنازل عن الثورة النفطية، ويفتح أبوابه للشركات الأجنبية فيما يسمى عقود المشاركة. وإذا كنا بإزاء زعيم قدم قانون الأحوال الشخصية، الذي أعاد للمرأة كرامتها، فإننا بإزاء حكام يخجلون من إظهار زوجاتهم معهم، ويرون المرأة عورة.

كل هذا وغيره كثير يدفعنا لا إلى رفع شعار "تضامن كفاح – كفاح تضامن"، وليس "كفاح تضامن"، وإنما سياسة "كفاح – كفاح"، فلم يتركوا لنا شيئاً يمكن أن نتضامن معهم فيه.