ذاكرة الحداثة العربية

إذا أخذنا 'ألف ليلة' على سبيل المثال، كان عدد ليالي أول طبعة، كما يقول المستشرق ريتشارد فان لوين، لا يزيد على 282 ليلة.

بعد حصار بيروت عام 1982، وهزيمة المقاومة وخروجها الاستعراضي بالبحر والبر، دخلت حداثة الستينات في منعطف جديد، واختارت عباءة التراث الشعبي للتعبير عن الإحراج والخجل. ولكن هذا لا يعني بالضرورة وجود علاقة عضوية بين الطرفين. فالتراث الشفهي غير مكتوب وظهر بالأصل بدواعي التسلية والترفيه، ولعلاج جروح العامة، وتخديرهم بما ينطوي عليه من خيال وقصص غرام وفتوحات، ثم بظهور الطباعة عانى من التشذيب والحصار، وفقد أهم مكوناته وهي: التأليف الجماعي، والإضافة، والتحوير.
وإذا أخذنا "ألف ليلة" على سبيل المثال، كان عدد ليالي أول طبعة، كما يقول المستشرق ريتشارد فان لوين، لا يزيد على 282 ليلة، وكان ينقص نسخة القرن الخامس عشر حكايات علي بابا وعلاء الدين، ثم أضافها الفرنسي غالاند في القرن الثامن عشر بعد أن سمعها في حلب من ذاكرة الراهب السوري حنا دياب، وعُرفت لاحقا في دوائر الاستشراق باسم قصص الأيتام orphans ص4 لأن أبطالها شخصيات شبابية ودون آباء.

بالمثل غابت رحلات السندباد من نسخة اسطنبول ولم تظهر إلا في نسخة مكتبة باريس.  وعموما زادت المغامرات مع الزمن شراسة ودموية، وانطوت على قدر أكبر من الكراهية والأحقاد، وهو ما يعكس اختلاف نوع الرواة وواقع مرحلتهم وتاريخهم السابق (ويشمل ذلك الدين والمذهب والعرق). فوجهة نظر المماليك في الطبعة المصرية لا بد إلا أن تكشف خبايا تكتمت عليها الطبعة العثمانية. وإذا لم يحسب أحد حسابا للعنصر العربي (وهذا ينطبق على نسخة بولاق المنشورة عام 1835) فقد أعربت طبعة الآباء اليسوعيين عام 1889 عن قلق وتململ الشخصية العربية من محاولات وأدها، واستبعدت فقرات طويلة، يعتقد أنها تسيء لسمعة وأخلاق العرب. وحتى لو أنها لم تبدل استراتيجية الليالي التي تحركها غرائز وشهوات مكشوفة (مثل حب المغامرة وتلبية نداء المجهول والتهالك على الثروة والنساء) فقد حاولت أن توائم بين جانبين متناقضين، وهما الآداب السلطانية ونموذج البورجوازي الصغير الناشئ (يعرّبه عصمت سيف الدولة باسم القدم المعفرة - بمعنى الكادح الشريف)، وهو ما يفسر تلازم الأضداد في مجمل القصص، مثل التهالك على جمع الثروة والنفور من الزهد والتقشف، وحب المعرفة.

وإذا خسرت الليالي بهذه الطريقة راديكاليتها، فقد ضمنت لنفسها مكانا محترما في مشروع تعريب العقل الشعبي، وعبرت عن رغبة عامة بالتنوير والتحديث. وكانت الإضافات تهدف لتبديل الاتجاه من الموالاة للعثمانيين إلى التحالف مع منافسيهم (ويشمل ذلك طيفا واسعا من ملوك بني أمية والعباس وعددا مماثلا من قادة المماليك). 
وبذلك تكون الليالي قد دخلت ضمن مشروع تعريب متكامل تبلور على يد فؤاد أفرام البستاني ووالده بطرس البستاني والشيخ بهجة البيطار وغيرهم. وبرأيي أن أول اثنين مع الأب لويس شيخو هم أقرب لعصر الأنوار من الرموز الدينية التي رعتهم مصر والسعودية في بواكير القرن العشرين. فالمؤسسة اللبنانية عملت في سبيل وعي مستقل بالهوية بعيدا عن سلطة الباب العالي. في حين استغلت القاهرة والرياض من لجأ إليها لتوسيع نفوذها في بلاد الشام والعراق.
وقد تطورت هذه الدعوات الانفصالية بثلاث اتجاهات. تحديثي بخلفيات حضارية وتاريخية (أقبل أن أسميه المحور الجيوبوليتيكي).  وتنويري (ضمن دائرة دينية وعلمية واسعة)، وتجديدي (مثلته الرموز التي وجدت نقطة التنوير الحقيقية في الحجاز، منبع الإسلام العربي. ولا تزال هذه الرواية مجهولة هي وأعلامها بسبب بعد الحجاز عن مراكز الصراع، وللتشويش الذي لعبته مدرسة الاستشراق الغربي، وأخيرا بسبب النهاية التراجيدية لعائلة الشريف حسين وخروجها من السعودية وتمزقها بين العراق وسوريا والأردن)،  وإذا قدم لنا الاستشراق "ألف ليلة" بأسلوبه فقد تكفل بدفن معركة التعريب التي قادتها النسخ المتأخرة. حتى أن ظاهرة الموالاة (بالمعنى الوطني للمفردة) لم تقلل منها الرغبة بالانشقاق والخروج على النظام. ومثل أي شخصية بورجوازية قلقة ومغامرة حلت هذا الصدع العميق برسم حدود بين الفكرة وتمثيلاتها (كان الولاء يعود لرأس النظام مع التقليل من شأن بقية الطاقم، وكأن الأنظمة مجرد شخص رمزي وليس كيانا سياسيا متكاملا). يضاف لذلك زيادة عدد المآزق واختراع حلول فردية.  وبهذه الطريقة ضمنت الشخصيات تماسك رمزية النظام مع نفي أي شعور، ولو بسيط، بالاغتراب. وكانت مغامراتها تندرج ضمن ما يسمى بسيرة العائد. فكل مغامرة لا بد إلا وأن تنتهي بلم الشمل (وهي ميلودراما الشخصيات التجارية التي تلغي طموحاتها بالهجرة - أقرأها أيضا بالفتوحات وتوسيع رقعة أطماعها الإمبريالية  - للتغلب على  مخاطر وأوجاع المنافي والغربة. وربما لهذا السبب غابت التكنولوجيا واختنقت تحت طبقات عميقة من الحنين والانتماء المريض والعاطفي).

وفي النهاية نستطيع فرز ما وصلنا من تراث شفهي إلى نوعين:
الأول يمثله الملاحم والسير الشعبية بالإضافة إلى "ألف ليلة" (أو ما كان يعرف باسم "أسمار الليالي"). وكلها تصورات خارقة عن شخصيات حقيقية منها ركن الدين بيبرس - المشهور باسم الظاهر وفاطمة بنت مظلوم -  المعروفة بلقب الأميرة ذات الهمة. وكانت تهدف لتهدئة الرأي العام والحد من حالة الحصار والتعطيل وبرمجة علاقة الإنسان مع مجتمعه المحروم من تكافؤ الفرص.  بتعبير آخر كانت حريصة على تحقيق ما هو غير ممكن بعناصر وأدوات لا معقولة كالحل الروحي الذي يضع المعجزات والخوارق في خدمة الإنسان الضعيف.  ولحسن الحظ أن خيالها لم يعكس طبيعة وأخلاق الحرب الباردة التي كانت مستعرة بين أجنحة متنازعة في الشرق، ولكنه عبر عن الصراع اللامتناهي بين الإرادات العامة.  وإذا نظرنا إلى مارد القمقم والجني الطيب، على سبيل المثال، نجد أنهما نبوءة مبكرة عن السوبرمان والرجل الوطواط.
النوع الثاني هو الإضافات التي لحقت بالأحاديث النبوية وسيرة الرسول إلى جانب كرامات المتصوفة والأولياء.  ومن الأمثلة الشائعة عليها رواية ابن حجر وابن عباس للمعراج، فهي غير موجودة في القرآن، وتبدو تفاصيلها  دنيوية ومادية، وبالأخص الحوار الدرامي بين النبي وربه وبقية الرسل، ناهيك عن رحلاته المكوكية للاتفاق على عدد الصلوات.

وقد تطورت هذه الإضافات من مجرد اختلاف على التأويل إلى نظام رديف ظهرت بوادره بعد تحرير دمشق من المغول عام 1260 ووصول المخيلة الإسلامية إلى أخصب فتراتها.
وقد رأت الحداثة العربية في هذه الصيغ طريقة لفك العزلة المفروضة عليها، وللاقتراب من الضمير والوعي العام. ومن الأمثلة على ذلك تخلي إلياس خوري (اللبناني) عن إنتاج رواية أشياء وصور، والعودة إلى ذاكرة الأم وثقافتها - ولأساليب المؤانسة والرعاية (أو التغذية الراجعة)، وحتى لو أنه التزم بحدود ذاكرته فقد حولها من تأملات لامتناهية إلى  مكان وأشخاص (أو كتل ومساحات بتعبير دولوز وغوتاري في سياق كلامهما عن ديكنز). ويمكن تعميم، نفس الكلام، على تجربة الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل. فقد بدأ من أشخاص انتحاريين استهلكوا مخزونهم النفسي، وانتهى بنماذج تحاكي ذاتها بطريقة سرفانتس الذي يكرر ثقافة بثقافة (انظر روايته "الكائن الظل")، وهو مبدأ من مبادئ الحداثة المعكوسة التي تجدد محتواها بالانقسام والتشابه (ما يسميه دولوز وغوتاري أيضا حلقات السلسلة)، وبذلك يكون قد حكم على الحاضر أن يقتدي بلحظات مشرقة من الماضي وأن يستعيده إلى ما لا نهاية.

ويبدو أن التنقيب في التاريخ صفة لعصر الأزمات لأنه يساعد على تشكيل وهم مرضي بالهوية (وهو مبدأ الكلاسيكيين الجدد).
وقد رأى الاستشراق الغربي بذلك استثمارا مباشرا للتراث، فتداخل الحكايات والاستطراد والكولاج - أو التسلسل والتفريع والتجاور، برأي ريتشارد فان لوين، أدوات مستعارة من "ألف ليلة" أو من أدب البيكاريسك الذي تطور على هامش الحروب الصليبية (بشكل أخبار اللصوص والعصابات وقطاع الطرق)، وأضيف له المقامات والرسائل ولو أنها آداب مكتوبة. ولكن المشكلة أننا تأخرنا بالتجاوب مع هذه المصادر، وسمعنا بها بالتزامن مع بشائر عصر التنوير وظهور أعماله الهامة  مثل سلسلة روايات البريطاني رايدر هاغارد (1856- 1925)، وهو كاتب وسياسي وكان في لجنة إصلاح الأراضي. وقد اهتم بموضوعين: الأول عن مغامرات خيالية في إفريقيا، والثاني عن العالم المفقود أو المجهول ومنه ممالك وجمهوريات صورها بشكل يوتوبيا أو دايستوبيا مثل مملكة سليمان والإلهة عائشة، وهي معبودة متعدية للجنسيات، أو أنها رمز أممي نصف ديني. والرواية عبارة عن رسائل ومخطوطات يدونها مغامر يحمل اسم هوراس، ربما تيمنا بالشاعر الروماني القديم الذي أثر بتطور الشعر الإنكليزي.

 وفي الحالتين يبشر هاغارد بسياسة المستعمر الطيب (في سياق عرقي سوف يبلغ ذروته في مذكرات لورنس بطل تحرير العرب من الحكم العثماني). ولم يكن الذهن المحلي واضحا في ذهنه، وتكلم في معظم الأحوال عن طلاء أسود، ولسان أبيض، وأعتقد أنه نظر للسود من خلف العازل الوجودي. بمعنى أنه أحبهم مثل أشياء في بستان الإمبريالية، وليس بطريقة عاشق متمرد مثل بودلير.  وخلافه الأساسي مع "ألف ليلة" أنها تهدف لتحرير روح الإنسان البسيط،  بينما كان هاغارد يخطط لتحرير إفريقيا من نفسها. ويعود هذا الاختلاف لوعي كل كاتب.

فالضابط الاستعماري يعمل في خدمة مشروع توسعي يقوده الرجل القوي الأبيض، في حين أن المغامر يحرر نفسه بعدة طرق منها ارتياد الآفاق، ويجب أن تكون الرحلة بالجو أو البحر، ويعبر بهذا الرمز ضمنا عن شوق غير محدود لتحطيم كل أشكال المنع والإعاقة (كالجاذبية الأرضية المرتبطة باليابسة). وأعتقد أنه في هذا السياق ظهرت رواية "مول فلاندرز" 1722  لدانيال ديفو، وكان في وقت من الأوقات مخبرا سريا عند وليام الثالث. وتتناول روايته أخلاق المدينة، وما لحق بالفضيلة من دمار، ثم موت العائلة وتراجع قيمة العمل، وظهور الأفاقين وطفيليات المجتمع، مع تقديم لحظات مختارة من طرائف حياتهم ونجاحاتهم المخزية.  وربما هي أول رواية أوروبية عن بطل سلبي لكنه غير مرعب أو شرير.
كانت الحداثة العربية أقرب لهذا المشروع، وحتى إن حاولت أن تتشبه بـ "ألف ليلة"، فهو تشبه سطحي وخارجي.  وبرأيي يدين الكاتب العربي لهاغارد بمخطط استعلائي استفز قناعات المجتمع وبنيته، وعمل على فتحها عنوة، بدعوى الترقية والتطوير. ولا شك أن هذا الاستعلاء كان يهدف للتخلص من قيود الثقافة النائمة المغلفة بالشعارات، وللدخول في حملة نقد ذاتي تدعو لمزيد من الحرية السياسية وتحرير الذات من قوانين حكومات الطوارئ.  وفي النهاية وصل لهدفه وهو فك التحالف مع ثقافة النظام،  واللجوء لثقافة ليبرالية غير مرتبطة.
ودائما أسأل نفسي: هل كانت شهرزاد في ذهن هاني الراهب حين كتب عن جيل الهزيمة في "ألف ليلة وليلتان" أم أنه كان يفكر بفرجينيا وولف ووليام فوكنر؟؟.
وإذا تحرينا الدقة إن شخصيات الراهب مقطعة الأوصال amputated وموزعة، بمعنى أنها تعارض النسيان والإلغاء، ولذلك تشكل خطرا دائما على نفسها. ولهذا السبب حلت أزماتها المتتالية بأساليب فردية كالانتحار أو الاختفاء أو القتل.  أما شخصيات "ألف ليلة" فقد لجأت للسحر وتعالت به على نفسها وعلى الواقع، وفي أفضل الأحوال قاومت عوامل الضعف والخسارة بسيف الفضيلة والتمني.  وبالنتيجة اغتربت عن عالمها الحقيقي، وفضلت أن تعمى عنه. وفي كل الأحوال لم تلجأ للتراكم، وفرضت على الشخصيات أن تكرر محنتها لكن بأسماء وأقنعة متبدلة.

لا أستطيع أن أفهم لماذا تؤصل الحداثة العربية نفسها بأسلوب شعوبي (بمعنى صياغة مستعارة من ثقافة الهامش وليس المركز). وكلها تصورات لم تكن تدين بالولاء للنظام ولكن لجيوب عاطفية داخله، ولا ترتبط إلا بقنوات تواصل تنقصها ثقافة النخبة، وهو مشروع الحداثة العربية في الستينات. ويبدو الأمر لي كأنه إعادة تحديث أو ترقية لحداثة الستينات بمشروع حداثي أيضا ولكنه ينتمي لحلقة من حلقات الماضي. فنثر عصور الانحطاط أتى لتبديل البلاغة العربية من مدرسة الحرابة إلى مدرسة المشائين. ويوجد فرق جوهري في هذه النقلة من الإيقاع المتسارع إلى الإيقاع البطيء الذي يشبه ركود حركة التاريخ وخمول النشاط النفسي للمجتمع. وينطبق نفس الكلام على نثر الديوان المملوكي، فهو يتبع التحول من عصر الفتوحات الكبيرة إلى عصر يتحكم به الديماغوجيون والبيروقراطيون.
لقد كانت حداثتنا غريبة، وكذلك هو تأصيلها، ترقية لهذا الاغتراب، وزيادة في سعار العقل العربي وهو يسائل نفسه ويشكك بها، وبالأخص أن المرحلتين هما تفنيد لواقع الهزيمة الحضارية (ضمنا انحدار القدرات العسكرية واغتراب إن لم يكن عزل الدولة عن جدارها الاجتماعي). ومثلما كانت "زينب" لهيكل رواية فرنسية بقالب مصري أرى أن "في المنفى" لجورج سالم رواية أوروبية بقالب سوري، والنموذجان (رغم ما يدور حولهما من اختلاف وجدل) هما بداية لمرحلة أساسية من تطور الخيال عند العرب، فقد ظهر الأول عام 1913 (يوم إعلان بريطانيا ضم مصر إلى عائلة محمياتها)  والثاني عام 1962 (بعد سقوط دولة الوحدة وقيام حكومة الانفصال).

إن تأصيل الحداثة خطاب تحريضي يلبي الأوهام الاستشراقية عن هجونة وتآخي الثقافات وكأننا نريد أن نلغي مبدأ الصراع بين المجتمعات الصغيرة ومجتمعها الكبير. وكما قال إدوارد سعيد: لا يوجد واقع بريء ونقي، وكلنا مسكونون بـأحلام وأهداف غيرنا، وحتى الثقافة الأميركية التي كانت في وقت من الأوقات العقل المدبر لثقافات العالم تأثرت بأحداث عام 2001  وانتبهت للابن غير الشرعي الذي ينمو ويستفحل في داخلها.