رؤية سياسية مركبة للدكتاتور في قصة 'التمثال' لقصي الشيخ عسكر
في قصة "التمثال" لقصي الشيخ عسكر رؤية سياسية مركبة. والتركيب هنا ليس بالشكل فقط ولكنه أيضا بالمضمون.
وإذا نظرنا للحبكة، وهي إسقاط تمثال صدام في ساحة الفردوس، ثم نهب المتحف العراقي في بغداد، يمكن القول إنها حبكة شيزوفرانية أو مصدوعة. جزء يعتمد على الحفر بالماضي / ضمير الغائب. وهو أيضا على مستويين، أحدهما بعيد وحضاري - وتنوب عنه قصة الإله الآثوري شولكي. وآخر قريب ومنظور، وتمثله لحظة دخول قوات التحالف إلى بغداد. وجزء يعتمد على المواكبة / ضمير المتكلم، وأغرب شيء فيه أنه لا يجد أي فرق بين العاقل - البشر وغير العاقل - الآثار والبقايا. ولذلك كلاهما يحتل مرتبة شاهد على مرحلة أبدية وأزلية، هي مرحلة تحول الأسرة إلى دولة، وبداية التوزيع الجائر للمكتسبات.
وإذا كان الشيخ عسكر فيما مضى مهتما بمبدأ المغالبة الذي أرى أنه يمثل استعادة أو إحياء لسيرة التاجر الشاب والمغامر السندباد، فإنه ينتقل هنا لحالة اكتشاف ذاته التاريخية بطريقة الأرمني وليام سارويان، ولا سيما في قصص مجموعته "أربعون آشوريا"، أو رواية بهاء طاهر "واحة الغروب". فالمسألة ليست نزاعا على الحكم بقدر ما هو نزاع على معناه وفلسفته.
وإذا أضاف الشيخ عسكر لقصته 25 هامشا، فهو لم يهدف من خلالها التوثيق كما يفعل صنع الله إبراهيم في مجمل أعماله أو كما نرى في "العقب الحديدية" لجاك لندن. وبالعكس.
استغل هذه الناحية ليحول قصته إلى متن أعلى ومتن أدنى، أو اثنين في واحد.
الأول هو الوعي الباطن، ولا سيما أنه اتبع به تدعيم الأحداث اليومية بلغة لا تختلف عن لغة الإنشاد والتعزيم الهندوسي في "المونسمرتي" أو تعازيم بوذا في كتابه المقدس. وغلب عليها استعمال ضمير المتكلم - الضمير الأول باللغة الإنكليزية. وأضفى ذلك نكهة حضارية وروحية على الشخصيات، وحولها من أشخاص إلى نماذج وأفكار. وأيضا انتشل بهذه الطريقة شخصياته من وحل واقعها المتردي وأحاطها بهالة من نور وكأنه يكتب سيرة ملائكة أو رهبان مقدسين.
ولا أستثني أي شخصية. لا الإنسان المتأله الذي وقف في ساحة الفردوس، ولا الإله الميت المطمور تحت عدة طبقات من جيولوجيا تاريخية لعبت دور ثلاجة وليس دور ضريح أو قبر. ولا حتى كلاديس المحبوبة التي تشبه فكرة الحمل بلا دنس. وتبدو كلاديس عبد الله بمرتبة نائب إله أو مسيح رفعه القدير من الشهود إلى الحضور. فهي مديرة الأرشيف (أو خازن الأسرار)، وبنفس الوقت محجوزة لدى الأمن. بتعبير آخر مشكوك بها واقعيا وموجودة ميتافيزيقيا وفي ذاكرة لاهوتية.
والشيء بالشيء يذكر.
أعتقد أن الحبكة أغفلت ما سبق للكواكبي أن سماه "طبائع الاستبداد". ولأكون واضحا أرى أنه تكلم عن الطغيان وليس الطغاة. وكأنه لا يجد أي فرق نوعي بينهما. وبتعبير الكواكبي قرأ جانبين من الظاهرة، بالتحديد العقل والعيان، ونسي الجانب الثالث وهو التاريخ ص45*.
وبالمقارنة. وضع كل شخص في شرنقة، وعزله عن شرطه الموضوعي وكأنه جنس ثالث. جلاد جاهز وبيده السوط. ولذلك خانت القصة الهدف المرجو منها، وهو مقارنة الجذور بالفروع أو قراءة الحاضر انطلاقا من الماضي. ولهذا السبب لم تكشف لنا عن الجوانب البشرية الضعيفة من شولكي، أو عن قلق وإنسانوية كلاديس، ولا حتى عن بواكير حياة صدام الذي نشأ في بيئة مختلطة من البدو والفلاحين. وبقفزة واحدة وذكية ولماحة وضعنا الشيخ عسكر أمام بورتريه أضلاع هذا المثلث. وبهذه الطريقة دخل في ملكوت ما أحب أن أسميه "الواقعية الإسمية"، الأسلوب الذي يتناول موجودات حقيقية خارج شبكة العلاقات. بمعنى أنه ينظر للنصف المضاء من المشكلة، ويترك ما تبقى في خزانة الأسرار.
وقد غلف الجزء الثاني بالسرد. واتبع به أسلوب "المونولوغات المبصرة". بمعنى أن العين تتكلم واللسان صامت. ويكفي أن القصة مبنية على تقاطع نظر نامق الباحث التاريخي وعيني تمثال صدام. وكانت هذه النقطة مفصلية، فقد استغلها الشيخ عسكر ليدخل إلى شبكة علاقات السلطة - مع السلطة.
وأرى أن هذا الأسلوب منعطف أساسي في أدبياته. فقد اهتم في جميع أعماله بالحياة العملية، إلا هنا ينصب اهتمامه على العقل والنخبة. وغياب الأبطال الشعبيين في هذا السياق يساعد على تغريبه وعلى تدعيم فكرة سيناريو الانقلابات في بلادنا. حتى تبدو لنا عبارة عن مخطط جرى الإعداد له في الخارج وتحت مظلة أجنبية. ولذلك تعيش الأرض حالة نفي بالإكراه. وأستطيع أن أقول إن تجزيء الحبكة لمستويين، أضاف للسرد ستارا أسود باعد ما بين تاريخ البلاد ومستقبلها. وبتعبير آخر تسبب للماضي بالعمى، وبصعوبة الرؤية للمستقبل.
وهو نفس المنطق العائم الذي يميز أعمال وليام سارويان مؤلف "العجلة المكسورة". ونقاط التماثل والتقاطع بين الكاتبين متعددة.
سارويان يبني إنسان بلاده من الخارج، والشيخ عسكر يبنيه من الأعلى.
وينكر سارويان أن بيوت أبطاله هي قلوبهم، كما جرت العادة في المشرق. فالبيت له معنى رحماني، من الرحم، الأمر الذي يضاعف من علاقة الشرق بالمجتمع الأمومي المتحول. ومن المؤكد أن الأب في الأخلاق الشرقية حاليا أم مذكرة، اختلست مفاتيح كل السلطات وتنكرت بشكل رجل يحكم. وكذلك الشيخ عسكر يضع ثقة أبطاله بتوقعاتهم، وهذا ترميز تراجيدي لوهم الحمل والولادة وحق الحضانة - بمعنى التحكم والتسلط. فهو يبني كل شيء على أمنيات مؤجلة. حتى أن افتتاحية قصته تبدأ من الحفر في باطن الأرض بحثا عن المعنى الغائب، وبتعبير نامق كريم "على ما كان وما يمكن أن يكون"، وينهيها أيضا بالإشارة إلى سر يتقاسمه مع تمثال الإله الإنسان. ويترك مهمة الكشف عنه إلى زميلته كلاديس عبدالله. وأرى أنها حيلة إضافية للهروب من ما هو يومي وتعليق المضمون بما هو أزلي وحضاري. وكما ورد في الهامش رقم 25 "هذه هي إرادة الأبراج"، وهو توجه غيبي يضع السياسة على مستوى واحد مع التنجيم.
تبقى خمس نقاط.
الأولى أن أبطال هذه القصة تجريديون، فقدوا كل الأسلحة التقليدية التي كانت بين أيديهم في رواية "زيزفون البحر" و"ربيع التنومة" و"علاء الدين" وغيرها من أعمال الشيخ عسكر. فهم شخصيات بلا متاجر ولا خطط للهجرة وطلب اللجوء ودون أي نية للكدح ومعاندة الأقدار.
الثانية أن الحقيقة أصبحت في المتاحف أو تحت الأرض، وهي جوهر ثابت، ولذلك يختتم الهامش 25 بتعظيم الحضارة الشرقية، ويرى أنها مصدر لكل السلبيات والإيجابيات، وقد استعارها منا الغرب. وهذه إحدى مظاهر العصاب الجماعي المسؤول عن عدة أشكال نرجسية عامة تنظر للمجتمعات كما لو أنها هياكل متنقلة. وهي السبب المباشر بصعود العقل الروحي - أو الرومنسي الذي تحول في لحظات فارقة لعقل إجرامي وتدميري. وبلغة أوضح لشوفينية قومية - كما في حالة صدام أو شوفينية دينية كما هو حال سلفه شولكي..
النقطة الثالثة أن أجدادنا لم يعرفوا فن النحت، ولكن جاءت منحوتاتهم جاهزة من العراق والشام. وهذه فكرة استعمارية واستشراقية. وأرى أنها تعويم لحضارات وسيطة وهي بالاسم - الغساسنة والمناذرة، وكلاء البيزنطيين وبلاد فارس. وتفيد كثير من المراجع مثل بحوث السوري أحمد داود والعراقي خزعل الماجدي أن نشأة الفن التكعيبي بدأت من بلاد العرب حينما كانت أوروبا منطقة جليدية وفي حالة سبات إجباري (قبل الألف الرابع عشر قبل الميلاد كما يحدد أحمد داود - ص20)**.
رابع نقطة الجدل السفسطائي حول عروبة بلاد النهرين. ومن هو الأسبق باستعمار أرضها. الأثوريون كما رأى صدام أم السومريون كما يرى نامق. ومثل هذا الاختلاف مع القائد يضاعف من حجم السلوك التستري، ويحقن القصة بمضمونها الفعلي. وهو توسيع حالة التواطؤ - بمعنى الموالاة بالإكراه، وبالمعنى الشائع الذي استعمله جان جاك روسو في العقد الاجتماعي، وأكد عليه هيغل في كتابه عن الدولة الحديثة، وميكانيكية تشكيل طبقة العبيد وطبقة السادة. وأغتنم هذه الفرصة للتنوية بإشكالية حركة التحرر العربي. فهي بكل أفواجها إعادة توزيع لثقافة استشراقية. وإذا كان الغلاف وطنيا فالروح ترجمة غربية لجملة أوهام، تبدأ بالتحديث وتنتهي بالتأصيل. والدليل على ذلك عدم وجود ذرة واحدة من تراث السرد عند العرب. وإذا تكررت نغمة شرقية، فقد أتت في الهوامش، وبشكل أداة مساعدة، أو تابعة إذا التزمنا بمصطلحات دراسات تفكيك الغرب الاستعماري.
خامس وأخيرا. فيما أرى لا تخرج القصة عن الإطار العام لرواية الدكتاتور بنسختها اللاتينية. فالكلمة للعسكر، والبيئة حارة ومشمسة، والحل دائما بيد الجيش، سواء بالانقلابات لفرض دولة الأمة، أو بدبابة أميركية لفرض ديمقراطية مزيفة مصابة برهاب الخصاء. ولكن يغيب عنصر واحد وهو البغاء. والنساء في روايات الدكتاتور مثلهن في السردية السياسية المعاصرة للربيع العربي، لهن دور واحد وهو جهاد النكاح. وأعتقد أنها في جميع الحالات تشير لأزمة نفسية أكثر مما هي بيولوجية. وامتلاك المرأة يشبه حمل مفتاح الصندوق الأسود، وهو المجهول أو الخبيئة، وأحيانا الشيء اللامتناهي. إن لم تكن اختبارا لجاهزية السلاح.
*طبائع الاستبداد. محررها الرحالة ك. مطبوعات مصر بالكتبية بالأزهر الشريف. د/ت.
**العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل واليهود. مكتبة الصفدي. دمشق. 1991.