رمضان وفا يلخص تجربته الشعرية في 'تحويشة العمر'

رائحة التربة الشرقاوية والأصالة المعاصرة في آن واحد في المجموعة الكاملة للشاعر رمضان فؤاد السيد وفا.

إن اللامبالاة للاطلاعات الفنية اللغوية الثقافية التاريخية لشعر العامية لهو نوع من أنواع التهميش والابتذال والتعصب الفني الذي يأباه المنهج الثقافي. ولم يكن الهدف من قراءة شعر العامية هو الدعوة إلى تكريسه أو تقعيده أو اتخاذه بديلاً عن شعر الفصحى؛ وإنما قراءته بغية استكشاف الأنساق الثقافية التي يضمرها، والقيم التراثية التي يرسخها، والرؤى الفكرية والفلسفية التي يطرحها، والهموم المجتمعية التي يعبر عنها في ثوب شعري إبداعي يسلك دروبًا ربما لم تُطرق من قبل.

وهناك فرق بين الدعوة للعامية بديلاً عن الفصحى، وبين التماس الشعرية في العامية أو في الفصحى.

ونحن نطوِّف في فضاءات واحد من الأعمال الفنية التي تفيض بالشاعرية في قضاياه التي يتناولها، وفلسفاته التي يطرحها، وصوره التي يغزلها، ومفرداته  الشعرية التي يختزل فيها معاني عميقة، ورموزه وتوظيفاته للموروث الحضاري والتاريخي والديني، وقيمه الجمالية وأنساقه الثقافية.

النموذج الذي نقرأه في هذه الصفحات هو ديوان "تحويشة العمر" المجموعة الكاملة لشاعر العامية رمضان فؤاد، نستجلي فيه بعض الأنساق الثقافية المضمرة والقيم الجمالية والصور الفنية والإيحاءات الرمزية التي يزخر بها هذا العمل.

ثانيًا. عتبات الديوان

عنوان الديوان: تحويشة العمر "المجموعة الكاملة" 

أول ما يستوقفنا في هذا الديوان الشامل عدة دواوين للشاعر هو عنوانه "تحويشة العمر" المفعم بمعاني ما تبقى من العمر وخبراته، واللجوء إلى الله، واستمالة المتلقي ليتجاوب وجدانيًّا مع هذه اللمسة الدينية، وليتعاطف إنسانيًّا مع هذا الذي يحافظ على عمره.

عناوين القصائد

الملمح الدلالي العام الذي يمكن ملاحظته من عناوين هذه القصائد هو اختزالها للقضايا التي يتناولها الشاعر في مجموعته الشعرية، فقصيدة "مش كل شئ يتقال" على سبيل المثال، وقصيدة "مال الناس"، وقصيدة "شوفي يا عيوني"، وقصيدة "اعتراف" كلها تفيض بمعاني المكابدة والمعاناة الحياتية التي تعيشها الطبقة الريفية المهمشة. أما قصيدة "الرجولة"، و"مشكلتي" فتوحيان بتجربة العشق الذي يعيشها الشاعر. وفي قصيدة "معرفتي"، و"هم وخوف"، و"شوفو معايا"، و"كان زمان" ينسج الشاعر همومه  الباحثة عن لقمة العيش. ويتكون الديوان الواحد ما بين عشرين قصيدة إلى ثلاثين قصيدة، وقد اخترت عدة قصائد للوقوف أمامها والكتابة عنها وهي:

كل شئ ·      

علامة تنصيص·      

مال الناس 

شوفي يا عيوني 

سطرين·    

 اعتراف·       

الرجولة·       

مشكلتي ·    

 شبيه 

معرفتي ·       

هم وخوف 

شوفوا معايا   

 كان زمان·     

والشاعر رمضان فؤاد تتمازج فيه المفردة البسيطة بالمشاعر الإنسانية النبيلة، اختزل الشاعر فلسفته كسحابة تلقي بظلها على من يلتمس عندهم معنى الحب والعطاء والولاء، ومصدر الإلهام في وطنه، والأحلام المترددة.

مقدمة الديوان وعتباته

مش كل شئ يتقـال                 

ولا أي   شئ  يتحس  

  ولا كل  شئ   يتشاف               

والعـين  عـليه   تبص ولا  كل  من قــــال  آه    يعـرف  معـاني الحـس وإللي  كواني  يا  ناس    كان له ف حياتي النص شرب  المحبــة  حماس   وسقاني  هــــم  ويأس 

بأكتبله  ف  الكراس     وأحفظله معـنى  النص ورميتله زندي أساس    يطلع  يطــول  الشمـس 

وعـملت  خدي  مـداس     يدهس ويمشـي  وبـس 

عـارفين ده مين يا ناس    وطني عـــزيـز  النفـس 

يلخص الشاعر تجربته الشعرية في هذه المقدمة التي يحادث فيها نفسه عن عمره المحترق وقلبه المتفحم وابتسامته الدامعة والحزن المختلج بداخله. وفي محاولة لمقاومة هذه المعاناة التي تئن بها الطبقة الريفية المهمشة، يهمز الشاعر ثنائية المجتمع التي تنتصف فيها الحياة بين شقي وسعيد. وفي صورة فنية عميقة، يعبر الشاعر عن حرقة ذاته الفنية ورسالته النبيلة دون تقدير.

وفي إحدى عتباته، يستوحي الشاعر المصري الأصيل ليرشده وينصحه. يقول ببراعة في قصيدة 

معـرفتي

فين معرفتي  وفين تعليمي س  إللي بايعني  م إللي شاريني وإللي سارقني وعـينه ف عيني مصلحتي إني أقول   وأفضل أقول  

 وغـيره يطول  

ع إللي بيتعب  

 والتاني مذلول 

واحد يموت  

 ولسان مشلول 

وعـيون شايفة 

إصحى  يا أخويا  دا كلام  زور  

إوعى يا أخويا 

الأرض تبور هى مصانع الكلمة تشبعّ   ولا ترضّع   ولا تسد لإبنك زور تبقى صحيح  مش مصري أصيل   لو مركبتش ضهرالخيل لو معرفتش  لو مفهمتش لو مطـلعـتش   لو منزلتش زي السيل 

مش مصري أصيل  

وفي عتبة ثانية، ينسج الشاعر بإبداع فائق ينصح فيها شخصيةً رمزية عن بعض الأحاسيس الدفينة التي تختلج بداخله كالوجع والألم والكينونة الذاتية؛ فيتوالى الحوار المتجاوب حتى يعجز عن الإجابة فيرد بصمت متألم:   

وهم وخوف  

متفرحيش الواد بحاضر نصه وهم  ونصه خوف  لسه الليالي مضلمة      

لسه الأماني معتمة  

ومصيرنا باين ع الكفوف     نصه وهم  ونصه خوف  بعتري الأيام ولمي  حركي جوايا همي  

أول المشوار عذاب 

ثالثًا. الأنساق الثقافية والقيم الجمالية في الديوان

في قراءة "كان زمان"، سأحاول أن أطوِّف ببعض الأنساق الثقافية والقضايا الكبرى والسمات الجمالية التي استوقفتني في هذا الديوان، من خلال العناصر الآتية:

مقاومة أزمة التلقي المهيمنة على الساحة الثقافية

الهروب إلى تجربة الشاعر  في المشهد الأخير

التعبير عن واقع الطبقة المهمشة

الأحلام البسيطة بعيدة المنال

العشق العذري المكتوم والشعور بالمعصية

صورة الأب والأم

استلهام الصورة من الموروث الفرعوني  والتاريخي والديني

حكم وخلاصات تجارب

أنفاس التربة الشرقاوية وأنفاس الحياة والأصالة المعاصرة في آن واحد في ديوان مجموعة "تحويشة العمر" الشعرية الكاملة للشاعر رمضان وفا.

نعيش في هذه المجموعة الكاملة "تحويشة العمر" مع شاعر سمع عنه وقرأ له الناس من قبل في الصحف والمجلات والتلفاز المصري والعربي. والناس هم القارئون والكاتبون ومن جعلوا أنفسهم نقاداً للأدب والأدباء. ولكنى ألتمس العذر لهم جميعاً، فشعر العامية لا ينتقل – عند قلة نادرة – عن طريق الكتاب أو المجلة لأنه يبدو عند البعض دون مبرر مقبول – ابنا غير شرعي لا يجوز لهم الاعتراف به أو إعطائه حقه الطبيعي في الإرث الوطني.

ولولا حصول شاعر العامية الكبير عبدالرحمن الابنودي على جائزة الدولة التقديرية في شعر العامية لعام 2001 لكان هناك رأي أخر فيما سأضيف.

وهذا الموقف المتعصب – من قلة – من أصحاب النشر أفاد الشعر العامي بأكثر مما أخبره فقد وجد الشعراء أنفسهم في القلب المصري الكبير – مع الناس الحقيقيين أصحاب الوطن الشرعيين وهم جماهير الشعب المصري في كل مكان من بلادنا – يعطيهم بكل الحب الحق في التعبير عنه، وحمل قضاياه، وتشكيلها بلغته الحية ويأخذ منهم – باعتبارهم جزءا حميما من تكوينه - عبق الشذا الذي يفرزونه في أشعارهم، المفعمة حبا للوطن، وخوفا عليه، وانطلاقا به إلى آفاق جديدة، أكثر رحابة مما تقدم أجهزة النشر، التي لا تعنى كثيرا بهذا القلب الوطني الكبير.

نشأة الشاعر الفنية

رمضان فؤاد السيد وفا شاعر شرقاوي من فاقوس أرض الخصب والولاية والحب، يكتب منذ السبعينات ويسمع قومه ويؤثر فيهم، لأنه يعيش – قلبا وبدنا – معهم، تابع حركة الشعر العامي المتطورة في مصر عامة، والشرقية خاصة واستوعبها جيدا لاسيما شعر الموال، وراح يقدم رؤيته المتفردة شعرا شرقاويا مصريا جميلاً.

يختلف اسمه في شهادة الميلاد عن اسمه في شهادة الشعر والحياة، فهو في الأولى رمضان فؤاد السيد وفا، وفي الثانية: رمضان وفا  – وقد انعكس هذا الاختلاف الذي لم يصنعه الشاعر بل صنعه أبوه حين تمنى وهو يسميه – رسميا وشعبيا – منذ ميلاده أن يشب جامعا بين صفات حب الشاعر ونظمه. وقد شب الشاعر رمضان وفا وهو يتغذى بالشعر، ويترعرع على سماعه ممن يحيطون حوله.

ورمضان وفا ليس شاعرا، فحسب لكنه يشترك في العديد من المحافل والأنشطة الثقافية وعضو فعال وديناميكي في مجتمعه فهو معلم تربوي بالتربية والتعليم، وسبق له أن حصل على المراكز الأولى  – في شعر العامية – على مستوى الجمهورية وعلى مستوى المحافظة وكاتب مسرحي من طراز فريد من الدرجة الأولى، وسوف أخصص دراسة خاصة بما كتب من مسرحيات عديدة وله باع طويل في كتابة المقالات الصحفية ودليل ذلك مشاركته في العديد والتكريم في مؤتمر أدباء مصر والمؤتمرات الإقليمية، إلى جانب انتمائه إلى العديد من الأندية الثقافية بالشرقية.  

وقد انعكس ذلك على مسيرة الشاعر، في تناقض جاد نراه بين شخصيته السالكة مع الناس دروب الحياة، وشخصيته الشاعرة التي تتجلى واضحة في شعره، فالشخصية الأولى – التي لا تظهر في الشعر- تبدو شديدة النقد اللاذع لكل خطأ، كثيرة التأمل والتفكير، مندفعة، متحفزة دائما، كأنها قذيفة قررت الانطلاق.. أما الشخصية الثانية – في شعره – فهي شديدة الطيبة، شديدة الهدوء تمتلك طاقة عالية من دماثة الخلق، تنأى بنفسها عن الدنايا والشبهات، تعيش حياتها بين أبيات القصائد بشكل رزين متعقل، تحقق ما تريد من محبة وعشق وطاعة، دون ممالأة أو تملق، ودون عنف أو غلظة.

وعلى سبيل المثال نجد التعدد الدلالي يتدفق مندفعا في شكل موجات معنوية، عبر تدافع الصور على النحو الذي نلمسه في قصيدة "يا مولاتي":

يا مـولاتــي 

أنا كارهك يا مولاتي      

ف أناتي  وملهاتي  

ضلام ليل ك يخليني      

 أفوت الحب في عيونك  

أخون لون                              أبيع يومك                             

يكرهني ف طموحاتي  

أنا كارهك يا مولاتي  

   أنا كارهك  

كاره نفسي    

كاره يومي  

كاره أمسي 

كرهتك يوم م جيت فيكي     وشفت الناس تراضيكي 

وشفت الإبن بيعافر      

عشان يوصل ف يوم ليكي  

 وهو بحبه يندهلك                 

وإنتي الكره ف عنيكي  

أنا كارهك يا مولاتي 

الملاك منذ حقبة، هي "القلب"/"الرضا" المحمل بنبضته في السماح والصلح والتي تندفع – حين تواتي – سؤال يحمل عناب رقيق (وشوفت الابن بيعافر)؟ – سؤال أرهقه البعد والغياب وحل به الانتظار والإرهاق وتستمر الدلالة في النمو مع نمو البناء الشعري:

الـلـيـــــــــــل  

الليل بيخلي الناس بتعـوم   

مرة تنام  ومرة تقـوم ومرة يخلي البومة تـزوم 

ويعوي مع الكلب المسعور   ومرة يخلص كل النور ومرة يخلي الناس بتدور     

ومرة يهدي   ومرة يثور 

ومرة يخلي المطر يزغـرت  تحت سنابل القمح الطاهرة 

النايمة ف شونة من غير بدرة    نايمة وساكتة  تحت السفرة ومرة يأكلها السوس الظالم  تحت سنابك الخيل الظالمة والإداري والغفير   سرقة  وتبزير  عربيات أشكال وألوان تتحمل  لفلان إبن فلان غيرالإهمال  جنب العمال وشوال  مقطوع  من تحت الشوال  وسؤال  مسؤل  ميت ألف سؤال ولا حد يجاوب علي أي السؤال 

هنا تحول التوكيد اللفظي والكشف عما يخفيه الليل من ندم وتصافى والمداراة إلى نهر من الإخلاص وينبوع حنان إلى حب يكسوه الصفاء والرضا فتتعدد أصوات النداءات مضفرة بصوت الإيمان المتسائل "ومرة ياكلها السوس الظالم" ونرى المخاطب وقد أصبح هو نفسه المخاطب  فهو الانتماء ذاته (وتبريز عربيات أشكال والوان ) …..

ينتقل الشاعر في هذا النص وما يليه بالدلالة بين كل مستويات التعدد المحتملة ليحول بالفن الواعي احتمالاته إلى حقائق واقعية مؤكدة… وهو ما نراه واضحا في قصيدة "أنا مصري".

حيث تتحول الأسئلة المتفاوتة من طلب الرضا والوصال والعشق إلى باب يطرق عليه مع ابتلاء ونار من يطرق عليه فهو يطرح السؤال ويجيب في هذا الديالوج الرائع على نفسه وكأنها لوحة فنية تطرح السؤال وفى وسطها الإجابة الشافية من شئ حي  جعله ينطق وهو المصري:

أنا مصري  أيوة فقير        

  وما نيش عالم وخطير  ووصولي لدرجة مصري           بني أدم عنده ضمير  

يخليني أرفع راسي                 وأعيش دايما ف الخير 

م انا حبي لبلدي كبير 

لا عمري ف يوم راح أطاطي      

ولا أمسح جوخ لأمير        واجبي أنا عرافه كويس              

وأعمله من غير تقصير     

لا روتين بيشل حركتي              

ولا إمضى لأي وزير  

الكل بيعمل واجبه                    ف حدود مرسوم السير  

حس ف يوم بشهامتك              

لأنك مصري أصيل   

وإعرف نفسك تبقا                  وصلت لخدمة جيل  

إن أول الملامح الفنية في شعر رمضان وفا يتجلى في امتلاكه للرؤية الفنية، فهو يعرف ما يريد، لأنه يرى الواقع بوعي

المصري يتحقق ويتأكد على أرض واقعية فهو قلب المحب الذي يصبر على المحبوب بلده ويعيش في النار ويتمنى لها الجنة، لكنها جنة عجيبة وغريبة مختلفة عما صور لنا في الماضي، المصري الذي طرق عليه لم يشعر بدفئه السابق – شكله جديد .. الواقع جديد كل ما يبدو عليه جديد حتى إنه تحمل كل ما تحمله الواقع الإنساني المعاش حتى الجنون وحتى العذاب وحتى الشجن ... فلقد جعل المصري الذي لا حراك فيه كأنه إنسان له شفتان تتحرك بقدر شعوره المتحرك، قائلاً

أنا مصري  أيوة فقير         

وما نيش عالم وخطير  ووصولي لدرجة مصري           

الكل بيعمل واجبه                    ف حدود مرسوم السير  

حس ف يوم بشهامتك              

لأنك مصري أصيل   

في تواصل وتماسك رائع الجمال.

رؤية الشاعر النقدية

إن أول الملامح الفنية في شعر رمضان وفا يتجلى في امتلاكه للرؤية الفنية، فهو يعرف ما يريد، لأنه يرى الواقع بوعي في جلاء (لأولة آه  يا ولادي                                                            

والتانية  أنا ماشـي والتالتة  قاصد خير والخيرمركب حب  

بتجدف وتحدف خير).

وتأخذ رؤية الشاعر أشكالاً متعددة، يلجأ في معظمها إلى التنكر والتخفي، فيستخدم الكثير من وسائل وتكنيكات الشعر العامي الجديد، لكن هذه الرؤية الواعية لتظل في كل الأشكال – ومع كل الحالات – تقدمية وشمولية، لا تعرف التراجع أو الخذلان ويتبقى تردد الشاعر مع الشكل الفني، سمة من سمات التكنيك الفني، ويمكن لنا رؤية هذا من القراءة المتأنية لكل دواوين وقصائد "تحويشة العمر" وسأحاول – هنا فحسب – الاكتفاء بقصيدة واحدة قد أعجبتني كثيرا وراقت لي بشكل ملفت هي "بتكتب لمين" حيث يستخدم الشاعر فيها أسلوب "الحديث مع المخاطب" الذي ينجدل داخله "الحديث بضمير المتكلم" جدلاً جيدا، إلى حد بعيد .. واستخدام صيغة المخاطبة تستلزم درجة عالية من الحذر والحرص في توظيف الأفعال في الجملة الشعرية تماثل نفس درجة الوعي (بتوظيف الضمائر).

"بتكتب لمين 

بتكتب لمين يا شاعر  تدغدغ عـواطف  تهيجّ مشاعـر  وأخرك ف ورقة  ف سلة زبالة  وطفاية سجاير  بتكتب لمين يا شاعر 

بتكتب لمين يا خايب  وتدبق الفرح للغايب  وتعيش حزن الحبايب  وتعين الآهه ف زكايب  وتنام جوه المخاطر  بتكتب لمين يا شاعر    

بتكتب لمين يا حزين  وكل حرف بدمعتين  لك قلب واحد  شايل فيه الملايين  وعشان مين بتخاطر  بتكتب لمين يا شاعر  

ص70

يا أهطل  ومصالح بيتك تتعطل  وتقضي حايتك تتصور  وغيرك بيعـلى يا أهبل  يكبر يذاكر ويحاضر  بتكتب لمين يا شاعر 

بتكتب لمين يا فطين  وكل إللي عندك قمصيين  وشراب وفنلتين  ولسة ماشي ع القدمين  وغيرك راكب وطاير   بتكتب لمين يا شاعر

بتكتب لمين يا عبيط  لا عندك زرعة ولا عندك غيط  وعايش حياتك أكلك تلقيط  عيشه ضلمه ونومك تفطيط ونافش ريشك وعامل شاطر    بتكتب لمين يا شاعر  

ص75

يالي  يا أبو عقل ترللي  وتبني وتعلي  ف بيوت من الأوهام  وف محراب السذاجة  تتوضى وتصلي  وصلاتك من غير مشاعر بتكتب لمين يا شاعر 

بتكتب لمين يا كداب  وتدوق  مُر العذاب  ببلاش من غير حساب  وماشي لوحك ف الضباب  تقع وتقوم  وتعافر  بتكتب لمين يا شاعر 

بتكتب لمين يا فاشل  عشان تهرب م المشاكل  وبتعمل رزين وعاقل  ومينفعش تجمع بين لاتنين  دا  جوز لاتنين  يا قادر يا فاجر  

بتكتب لمين يا شاعر 

ص73

يا مايل  وتنافق وتغازل وتحايل  وتهني وتعزي وتجامل  موظف أو ساعي أو عامل  عشان تنشر ف السلاسل  011 نسخة تنام ف المخازن  ويا عيني فرحان إنك ناشر  بتكتب لمين يا شاعر 

بتكتب لمين يا  مجنون  وتسجل ف التليفزيون  وبدال م تاخد حقك  تدخل وتطلع مديون  ملعون أبو الكلمة إللي عشانها  بقيت مديون ملعون أبو الكلمة  إللي عشانها بقيت منجون   ملعون إللي يسيب  ولده  يكتب ويبقى شاعر    بتكتب لمين يا شاعر 

ص74

ومين فاكرك  ودايما غرقان ف همك  ترسم البسمة للناس  وتموت وحيد  ومين شايفك  وحتى ملكش خاطر  بتكتب لمين يا شاعر  

بتكتب لمين ومين سامعك  غير شوية أصحاب بتجاملك  بتمصمصلك وتسقفلك  ولو ح تطول  تنعل أبو أهلك وتسيب القاعة وتغادر   بتكتب لمين يا شاعر  

الصورة الشعرية هنا تصنعها الجملة الخبرية المقدمة التي تبدأ بها القصيدة وهي كما نرى جميلة رائعة تبد من "بتكتب لمين؟" وفعل الجملة "يا شاعر" الذي لا يقف عطاؤه ووطنيته بل يتولد منه ثلة من الأفعال المضارعة في الجملة الداخلية: (تسيب  – تغادر– ترسم – يبقى – تطلع – تسجل – فاشل) حتى يأتي جواب الشرط في الفعل/الجملة: (بتكتب لمين يا شاعر تدغدغ عـواطف  تهيجّ مشاعـر  وأخرك ف ورقة  ف سلة زبالة  وطفاية سجاير) وكل هذه الأفعال المضارعة التي تكون جملة فعل الشرط أفعال درامية، تحمل دلالات نفسية شديدة الحمل للصراع النفسي الذي يبذله المرء في حالة الدفاع عن حق الشاعر الضائع والمهضوم والمغبون "الشاعر" وهي حالة الدخول إلى الذات هربا من مواجهة الواقع ووقوف الشاعر مكتوفي الأيدي!

بتكتب لمين يا خايب  

وتدبق الفرح للغايب  

وتعيش حزن الحبايب  

وتعين الآهه ف زكايب  

وتنام جوه المخاطر  

بتكتب لمين يا شاعر    

بتكتب لمين يا حزين  

وكل حرف بدمعتين  لك قلب واحد  شايل فيه الملايين  وعشان مين بتخاطر  بتكتب لمين يا شاعر  

كل هذه الدلالات الدرامية تتحقق بمجرد محاولة تساؤل الشاعر والهروب إلى الداخل .. ويخفي رأسه في الرمال مثل طائر النعامة.. فإذا تحققت أي إذا تحقق فعل الشرط في الجملة، كان جواب الشرط النتيجة الحتمية المترتبة منطقيا من هذه المقدمة، ملائما معها:

بتكتب لمين يا فاشل  عشان تهرب م المشاكل  وبتعمل رزين وعاقل  ومينفعش تجمع بين لاتنين  دا  جوز لاتنين  يا قادر يا فاجر  

وهذه النتيجة الطبيعية هي الضياع الحتمي الذي يتحقق لكل من حاول أن يكون شاعرا عن إبداعه وعشقه للأدب، حتى لو كانت ذاته هي الهجوم، إن الاندفاع إلى الذات (وهو موقف العشق المجنون للشعر) لا يمكن في رؤية رمضان وفا الواقعية أن يصل إلى تقدير قيمة وكيان الشاعر التي يتصورها، وكل جهد يبذله من أجل الوصول إلى هذه المحاولة للوصول لقيمة أدبية وحال لسان بلده  فهو الوهم، سيضيع هباء، سيصبح المتحقق وهما، نسيجا خيوطه مصنوعة من الهواء، في واقع من التلاشي والانسحاق، ليس في الحقيقة سوى الرجاء والتوسل، من هنا لم يكن الحل في طرح الشكوى وهموم الشاعر هو المطلوب من مبدع هذه المرحلة الذي يمثله المخاطب واستخدام ضمير المخاطب في القصيدة هو أسلوب فني يعرفه البلاغيون (بالالتفات) لم يكن يقصد منه في معظم الشعر سوى اثارة المتلقي وإيهامه بأن الشاعر يخاطبه، لكنه الآن يكتسب سمه جديدة، حيث يمزج هذا الاستخدام بين طرفي العلاقة الشعرية من نسيج واحد، لأن الشاعر وهو يخاطب المتلقي مشركا إياه في العملية الإبداعية. إنما يخاطب نفسه التي يراها تراوغه، وتحاول الهرب منه نفسه، باعتبارها البديل القريب من الواقع الذي يواجهه. وتستمر الصورة الشعرية المشكلة بالفعل في صعودها، في هذا البناء الشعري، حتى تستنزف الرؤية على قدرة التشكيل فتمتزج الأبعاد، يتحد المخاطب والمتكلم، ويصبح المتلقي والشاعر واحدا غير عادي، إنه الواحد العظيم الذي تصنعه الصورة الشعرية، يجسمه ويتجسم فيه ذلك المعنى لكلمة "بتكتب لمين يا شاعر":

بتكتب لمين يا  مجنون  وتسجل ف التليفزيون  وبدال 

م تاخد حقك  تدخل وتطلع مديون  ملعون أبو الكلمة إللي عشانها  بقيت مديون ملعون أبو الكلمة  إللي عشانها بقيت مجون   ملعون إللي يسيب  ولده  يكتب ويبقى شاعر   

لم يعد في الرؤية الشعرية حل سوى اليقظة والخروج من الخذلان، أو الخروج من الدخول، إلى حيث المعركة الواجبة مع كل عوامل القهر والنفي والأبعاد.. وكل الذي أجبر الذات على التقوقع والتقلص والإحساس الطاعن بالعجز، إلى درجة أن تصبح "بتكتب لمين يا  مجنون  وتسجل ف التليفزيون  وبدال م تاخد حقك  تدخل وتطلع مديون  ملعون أبو الكلمة إللي عشانها  بقيت مديون ملعون أبو الكلمة  إللي عشانها بقيت مجنون   ملعون إللي يسيب  ولده  يكتب ويبقى شاعر".   

ويصبح الدفاع بالقلم والإبداع لا بد منه بعد أن طال زمن هروب الشاعر  من واقعه والتهرب من منحه حقه وهباته وعطاياه على المسؤولية التي تقع على عاتقه، أي هروب الشاعر من مسؤوليته التي هي أشرف من كتابة الشعر، والذي لا يمكن إعادة أي ضائع منه إلا بالعودة إليه، والتمسك به، باعتباره مقدسا (الإبداع الشعري) وطلب العون والمدد منه، لا بد من (المسؤولين) وتقديرهم قيمة وقامة الشاعر التي باتت بالية والتي لم تعد تفيد .

وكان التطهر من المر بالمر أي بالكلمة أمام الناس وعشاق الإبداع.. هي وسيلة لهذا التخلص من الإهمال واللامبالاة بالعمل الإنساني الشريف، استخراج الإبداع من أحشاء لغتنا الجميلة ونزول الشاعر أمام  الجمهور ومسك القلم.. والاستعداد بكل أسلحة الإبداع على المواجهة أمام الجهلاء والرجعيين هي الطريق الوحيد إلى عودة قيمة وكيان  – إلى جسور القيمة والقامة وجوهر الشعر الحقيقي، إنها عودة الروح إلى – الأبد – لتستقر في جسد الشعر العربي كي تمنحه الحياة وكل الحياة.

ويجب على الفعل الإنساني والشعر العربي أن يستمر في صعوده دون (ارتخاء) أو تراجع، لأن السماء ستصب جمالها على المبدعين، ولأن السكات للمبدع (وهو من أهم المحاور التي تتشكل منها تجربة القصيدة للشاعر في هذه المجموعة تحويشة العمر).

مترصدا دائما لإضفاء جذوة الإبداع التي يجب ألا تخم حتى تحقق للرؤية الشعرية نبوءتها وللمبدع قيمته الأدبية وأرادته الصميمة .

وفى قصيدة "بحبك" يقول الشاعر:

بـحـبـك       

بحبك  

حب خلاني                           

أحب الدنيا وأسامح 

وحبك  طيف كما النسمة       كنسمة بحرنا المالح 

وعهد علي يا حبيبة                 

لاحبك بكرة وإمبارح 

ما نيش كداب ولا خوان    

 ولا نسياي لياليكي 

أنا بلدي أبو الجدعان     

وكتفي زاد يكفيكي 

وكتفي التاني يرويكي        ودمي عطر يشفيكي 

أنا عادد على إيديكي      شطوط الناس مراكبية 

أنا فاكر  أنا عارف     

حدودك  مية ف المية  

أنا واقف أنا حارس    

حدود الود  بعنية  

أنا فارس أنا شاهـر     

وسيفي لوحده بالمية  

و"بحبك"، وهو عنوان القصيدة، لا يرد في لغة القصيدة سوى في أقصى نهايتها، بعد أن اكتملت دائرة البناء الشعري على النحو السابق، لذا فإنها في موضعها الذي أراده الشاعر – تأتي فاعلة ومنتجة للدلالة، ولا تنم على أنها تكرار للعنوان، والدلالة التي تقدمها جملة العنوان – النهاية هي أن الشاعر بهذه الجملة – في موضعيها – قد نقل الواقع المتشكل في القصيدة، من حالة الحيرة والدوران في فراغ التلاشي والعجز، إلى حالة الإفاقة التي تمكنه – فيما بعد – من إدارة حبيبته إلى الأمام – حيث يتمكن الواقع، الفائق من النهوض والتقدم صحيحا من كل العشق والدمع، خالصا من كل المعيقات.

التواصل والامتداد في الزمان والمكان

لعل الصورة المركبة التي تمثل العماد الرئيسي في تجربة رمضان وفا الشعرية هي أهم ما يلفت في قصائده، فلغته الشعرية تعتمد على البساطة والتلقائية كما تعتمد على التشكيل بالصورة التي تنبني مما يسميه النقاد "تراسل الحواس" والتشخيص ولا تقف عند حدود البناء البسيط للصورة الشعرية:

لقمة على جوعة بشعرة 

ملح أبو شطـة وأنا واقف 

على سقالتي ف عزالحر 

ف الشمسة وتحت النار وفوق النار وف عرقي أزرع  ك وردة 

ولجل  ك إنتي أتحمل      

ولجلك إنتي راح أكمل 

وأخطي بحور وصحاري وأوصل بيكي مشواري   وألضم عمرى ف عماري   لحد م توصلي نهايتي 

وأسلم إبني لبدايتي     

وأقول يا ولدي روح كمل لحد ما توصلي القمة 

وإوعي ياحلوة يوم تنسي     عامل عرقه كان شمة بنا 

هرمك  بنا سد ك        

بنا برج  كبنا مجدك  

حفر قنالك وأممها     

وربا ولادك  وعلمها 

وكتب جوة  أجيالك        

بدمه  كتب إسمك  

وإبتسامتك  بترضيه  وهواكي كان  يشفيه وأخر كل  أماله كان يبنيكي  وبهمة 

يعطي الشاعر في صورته للمرأة التي تتباهى بجمالها وللروح شكلاً والزمان رونقا.. وهذا الأسلوب في بناء الصورة يساعد الدلالة على التجسيم ومن ثم يمنحها قدرة على التأثير تنعدم تماما لو لجأ الشاعر إلى أسلوب الكتابة المألوف حيث الكلمات على قدر معانيها البسيطة، وهذا ما يحدث في حالات نادرة من المجموعة لتحويشة العمر، منها النصف الأول من قصيدة "بحبك" الذي نقرأ فيه هذه السطور التي لا تحمل بعد سطحها شيئا، والتي استخدمت كثيرا في الزجل التقليدي وفي الشعر.