كلمات حضنت تاريخ الوطن فارتوى الجسد حتى فاض في 'آخر حكايات سهرانة'

شاعر العامية عبده الزراع يكتب في ديوانه عن حبه للقاهرة بعشق مشبوب وروح فلاح مبتلي قادم من الريف.

بعد ما قرأت الديوان " آخر حكايات سهرانة " للشاعر عبده الزراع ـ الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة يناير/حزيران 2023 نجد أنفسنا أمام شاعر يتعرف على الذات الصانعة المبدعة التي أخرجت حصيلة فكرية شعرية للوجود وما لمسته من خلال التجربة الأولى والتجربة الثانية ذلك التراوح الثري التحاوري والصراعي المتأجج في معظم القصائد والمتمثلة بكل رموز الحب والجهود الممزوجة بالخنوع والدعة والاستسلامية والهلاك.
عن حبه للقاهرة بعشق مشبوب وروح فلاح مبتلي قادم من الريف  يتحدث مع الإنسان بكل ملامح القوة والضعف فيه فيعري أوضاعه ويضخ دماء ساخنة في الشرايين تقضي على كافة أسباب التخثر  وتجدد بدفئها ما أفسده الزمن الرخو لاستعادة الاستقامة والصمود في مدينة المعز الفاطمية القاهرة.
نقرأ في الديوان فتتراوح أمامنا الكثير من المداخل الملونة لا تدري إن كان هذا الشاعر العاشق يغازل الريف والترع  أو القرية أو القاهرة الشامخة بداخله بكبرياء أو الوطن التي تسيطر عليه من أول حرف في الديوان حتى المطاف الأخير في السطور الأخيرة من الديوان نفسه تراه يتراوح بعذابات عشقه النبيل أم إنه سجين ولهه الريف في القاهرة الكبرى الممتدة من الماء إلى الماء  فترى القرية وطناً  والقاهرة وطناً والوطن سياجاً منيعاً لهذا البلد وخطوط دفاعها وهجومها وسببا جوهرياً في انكساراته وانتصاراته فكل قصائد الديوان تحمل فيها الرمز المحبب والواضح والبسيط كما تحمل أدوات توعية وتنوير، وتصحيح أوضاع قائمة لاقتفاء مسارات إنسانية أصيلة تتجه نحو الحب المضمون في كينونة راقية، ومجتمع يعيش فيه العدل مهاباً والكرامة مصانة.
" تراتيل مساريق" بين الجمال والألم، إن ذات الشاعر وهي "الأنا" تحيك للموضوع بما يسمى بالأدب الشعبي أو الشعر الشعبي تسابق الرؤية تتلاحق بلهف مستحب القارىء  فالإهداء في الديوان يقول "إلى روح والدي الطاهرة  إلى هناء مطر الزوجة والحبيبة وآخر حكايات سهرانة في قلبي".
والوالد أو "الأب" يلعب دوراً كبيراً في حياة الغالبية من أفراد الأسرة منذ آلاف السنين ونسجت حوله قصص كثيرة.
في الحفاظ على أقوات ما يحيط به وأصبح عنصراً بارزاً ينال تقدير الجميع لما له من ارتباطات وشيجة في الاقتصاد الأسري ولقمة العيش.
أعطاه الشاعر أهمية كبرى كمقاتل عبر التاريخ والمكان  كفارس أسطوري للدفاع عن لقمة العيش أو لأية محاولات لاقتضابه أو اختزاله حيث تساهم الأم في مقاسمة الأب فيما تنتجه وتقدمه الأرض.
أما "الزوجة" فهي رمز لمحاولات البقاء أو الحياة فإن "الزوجة" المقاتلة التي كانت تاريخاً قادراً كحارسة للزوج والأراضي الخير المنتشرة في كل ربوع مصر دون أن تريق دماء، من خير الأرض .
إن رمز "ضاعت كل ملامح الشارع" الذي يتجلى في إحدى قصائد الشاعر لهي قصيدة فلكلورية يقوم بدور الراوي لما يدور من أحداث في الواقع القاهري وفي القرية والسواقي والنخيل وحور الأشجار وفلاحيه ومزارعيه بملامحهم الحزينة المكلومة من كثرة ما يعانوننه من حياكة الدسائس والحاجة .
من مصائد الضياع إلي مرافيء الحياة الكريمة.
وفي تجوال متواضع مع بعض المختارات في ديوان للشاعر : عبده الزراع والصادر عن سلسلة الجوائز بالهيئة العامة لقصور الثقافة  سنلاحظ التداخل بين ذاته الشعرية وذاته المتقمصة وكأنهما لسان واحد يروي الأحزان بالأفراح والسخط بالقناعة والتدين بالتصحيح وتوعى وتنير العقول حروف القصائد رجمها سياط على ظهور الجبناء  وقناديل ضوء للمكفوفين  ويزرع برزخ للاخراج من مصائد الضياع إلى مرافئ الحياة الكريمة يقول الشاعر فى قصيدته : " عاشق لحبات النوى " ص 59

ملوية جوانا
انحناءات الحفر
كفر الشوارع
مزلقان
آخر رصيف
فى مهجتى
من طيف قديم
راكن على حى المغيب
الشيب يطرقع
فى  صوابع  جدتى
و يبوح بتفاصيل الحواديت
الـــــورق
فصل الحدود عن حتتى
حلم البلاد اللى أنسرق
و أنا كنت إمبارح
طفل ما اعرفش البكا
ساند الاحلام على صدور
الشتا

وفي موقع آخر من قصيدة "" عيون البنفسج "" ص 33 يقول الشاعر :

يا بنفسج
أنا باعشق اللون اللي  واخد
ضحكتك
بين الكفوف
مجداف هواك
اللي راسم بسمتك
فوق الشفايف
قلبى  اللى  خايف
يمشى ف طريقه
اللى  أتولد
من رمش طاير فى الهوا
بيرفرف
عطشان لحضن الدفا
منبع  وفا
مس الوتر
فى هذه الأبيات نرى الشاعر: عبده الزراع يتجلى فى تصوير مهاراته فى مخاطبة شخوص معينة وشريحة معينة فتترجم أحساسية أملاً يكاد يكون صفواً  لليأس أو أملاً ميئوساً منه يحس كما يلاحظ أحياناً نوعاً منه التشخيص أو تقمص "الليل والنيل والصحبة" لروح الشاعر فيتحدث باسمه وإذا بنا نلاحظ كم الانكسارات النفسية والإخفاقات تتمحور وتتوالد بشكل متتال أو متسابق على شكل دوائر تكبر وتكبر تجسد حدثاً أو جملة من الأحداث والصور غارقة بالذكريات مبلولة بجمالها للصحبة وبوحا من التباريح تصل فيه مناجاته الوطنية فى حب يرادف حبه للنيل  وسخرية وامتعاضا من كم الخنوع والمذلات التى تتناءى فيها المسافات لإعادة وجه بلده الحقيقي المطموس بفعل فاعل.
إن الشعر عند الشاعر المتميز: عبده الزراع كائن حى يتنفس له شهيق وزفير  يأكل ويشرب يتجول فى بساتين الوجود المخضرة ويتسكع في شوارع المحرومين المقفرة هو الفارس وهو الصعلوك  هو الثرى الشبعان وهو الفقير  وهو إعادة الوجه المشرق للوجود بكلماته العالية الحس الشعرى فى مجال العامية.
إن الشاعر له رؤيته ورؤاه بريشته الشعرية الصادقة   أداة السرد ما هو كائن ظلماً وما ينبغى أن يكون عدلاً فى شكل حدوته على نمط التفعيلة التي عرفها الشعر الحديث وتشارك مع بقية الأدوات المستعملة في التصوير الموسيقى – لقد رأينا أن كل المقاطع الشعرية تعيش حالة لهاث وتسابق مع المقاطع الأخرى أو محاولة اللحاق بها والالتصاق بالمقطوعات الأخرى  كأحداث تتوالى فى شريط سينمائي إخراجه قائم على تكنيك القصة القصيدة.
أخيراً من خلال هذا الإبحار  المختصر المتواضع فى ديوان "آخر حكايات سهرانه" للشاعرعبده الزراع أحد أعمدة الوهج والنور فى مصر والوطن العربى --- رأينا كيف أخذ بناصيته اللغة بيد واحدة وحولها كمشرط سلس التحرك بين يديه فى عملية تشريحية للواقع الاجتماعي المصري – ابرز فيه – مواطن الخلل والعلل وبيد أخرى حمل مباضع العلاج والشفاء الذى يضخ فى الشرايين والأوردة أملاً واعداً لإنهاء كافة التقرحات عن جسد السلبيات وإعادة إشراقة الحياة لها.
إننا أمام توءم  صلاح جاهين ملحمى جديد نذر حياته من أجل تغيير سلبيات قائمة أو مفروضة ونستحق أن تقول أن عبده الزراع شاعر العامية الذى حفر اسمه وبقوة  في خارطة شعر العامية بكلمات حضنت التاريخ  فأرتوى لها الجسد والأرض معاً.