زائر وجدة.. ليس من منفي سعيدا

شخصية اليهودي القلق المستريب هي التي تحكم الكتابة عن اليهود؛ سواء عند محمد طعَّان أو غيره من الذين اهتموا في السنوات الأخيرة بالكتابة عن اليهود.
الإحساس بالشتات قائم في مواضع كثيرة من الرواية، التي يتذكر أبطالها ما فعله "نبوخذ نصر" في أورشليم، على الرغم من أنه يعود لأكثر من 2500 سنة قبل الميلاد
جزء من التربية اليهودية قائم على التلقين حتى يظل اليهودي مدركًا ما حدث في التاريخ كي تحيا بداخله الرغبة في الانتقام، أو بث كراهية الأجناس الأخرى إلى الأبد

هذه الرواية التي صدرت طبعة عربية منها عن "دار أخبار اليوم" بالقاهرة كتبها مؤلفها اللبناني المهاجر محمد طعَّان بالفرنسية كسابقاتها: "فول سوداني" التي قام بتعريبها الدكتور خليل أحمد خليل وصدرت في بيروت عن دار الفارابي عام 2006، وقد كتبها بالفرنسية ونشرها عام 1997، و"ما باحت به سارة" التي كتبها بالفرنسية عام 1999 وصدرت ترجمتها العربية عام 2001، وقد كتبها بالفرنسية تحت عنوان "نوستالجيا"، و"الخواجا" والتي صدرت بالفرنسية بالعنوان ذاته، وهي التي حازت جائزة Medec من فرنسا عام 2004، وقام بترجمتها الدكتور علي مقلد وأصدرتها دار النهار في بيروت عام 2003، و"سيد بغداد" التي صدرت بالفرنسية عام 2006 وترجمها صلاح سالم وأصدرت مكتبة مدبولي بالقاهرة طبعتها الأولى عام 2008، أما الثانية فصدرت عن دار الفرات في بيروت عام 2010، والثالثة عن دار المَحَجة البيضاء في بيروت أيضًا عام 2012، و"صيف الجراح" التي صدرت ترجمتها العربية عام 2011 عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر في بيروت، و"رحلة بهمان" التي صدرت بالفرنسية عام 2004، وترجمت إلى العربية وصدرت في بيروت عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر أيضًا، و"الحج إلى وُجدة" الصادرة بالفرنسية عام 2012 التي أتخيل أنها التي أصبحت "زائر وجدة"، ثم"لاجئو بشاور" الصادرة بالفرنسية عام 2016، ونشرت ترجمتها العربية عن "دار الفارابي" ببيروت عام 2018.
وأتوقف الآن أمام "زائر وُجدة"، التي يدون محمد طعَّان في صدرها هذه العبارة المفتاح: "ليس من منفيٍّ سعيدًا".
 ويتبعها باقتباس هذا المقطع الذي يدخلنا في خضم الحدث، للشاعر جي سيتبون:

معظم من كتبوا عن الطعان أو استضافوه تليفزيونيًا في مناسبة صدور هذه الرواية ابتعدوا عن مناقشة الأفكار الأساسية التي أودعها في هذا النص

"هل عشت في بلد عربي؟
لا، أنا عربي.
آه! اعتقدت أنك يهودي.
طبعًا أنا يهودي.
علينا أن نتفق؛ أعربي أنت أم يهودي؟
الاثنان معًا.
نصف عربي.. ونصف يهودي؟
لا، كل منهما إلى أقصى حد.
وإذا ما تقاتلا، مَنْ تؤيد؟
المراثي"
هذه الرواية من الممكن اعتبارها محاولة لاستعادة الوجود العبري/ اليهودي في الأماكن التي كان يعيش فيها هؤلاء اليهود، ثم خرجوا منها قاصدين ما يسمى أرض الميعاد أو الوطن التوراتي أو الحلم اليهودي للخلاص من الشتات. وسنلاحظ أن الإحساس بالشتات قائم في مواضع كثيرة من الرواية، التي يتذكر أبطالها ما فعله "نبوخذ نصر" في أورشليم، على الرغم من أنه يعود لأكثر من 2500 سنة قبل الميلاد، ومع ذلك فهو لا يزال يستقر في ذهن كل يهودي، ويبدو أن هذا جزء من التربية اليهودية القائمة على التلقين حتى يظل اليهودي مدركًا ما حدث في التاريخ كي تحيا بداخله الرغبة في الانتقام، أو بث كراهية الأجناس الأخرى إلى الأبد.
 ومن هنا يأتي عدم إشعار اليهودي بالأمان إلا إذا كان يعيش في الوطن المنشود، ولهذا نجد أن أغلب اليهود انجذبوا إلى هذا الوطن، فلما وصلوا إليه بدافع عقدي اكتشفوا أنه وطن لا مكان للدين فيه، فيبدأ المتدينون التفكير في الخروج منه، ولكن إلى أين؟ فالعودة للبلدان العربية التي هجروها مسألة مستحيلة، ولذلك فهم يوجهون بوصلتهم نحو بلاد المهجر في الغرب ليكونوا أوطانًا بديلة.
وهذا الرجل الذي عاش في وُجدة المغربية، وماتت زوجته ودُفِنت في ثراها، قرر أن يموت هناك ويرقد إلى جانبها في وجدة.
وسنرى أشياء غريبة في هذه الرواية تشعرنا بمدى الإحساس بالشتات الذهني لليهودي؛ فهو يرفض أن يقيم في وطن الميعاد كما يؤمن، ولكنه في الوقت ذاته يريد أن يموت مرتاحًا من الناحية الدينية، فيقرر أن يحمل كيسًا من الرمل من أرض ميعاده ليفرشه في قبره ويُسجى عليه فيكون بذلك قد جمع الحسنيين؛ أن يرقد على أرض الميعاد أو التي كان يظن أنها أرض الميعاد، وأن يجاور من أحب في المكان الذي أحبه وآواه واحتضنه وجعل منه إنسانًا ناجحًا. 

novel
وعي باطني مشترك بين اليهود 

في تصوري. هذا هو محور الرواية التي تدور حول إحساس اليهودي المغترب بالهجرة. 
خذ مثلًا هذه العبارة التي يقول فيها: "طلب المتوفى من الجراح أن يوارى إلى جانب زوجته لكنه أصر على أن يدفن معه أيضًا محتوى كيس من الرمل الثمين".
 فاليهود عندما يرغبون في أن يدفنوا بعيدًا عن الأرض المقدسة يحملون حفنة صغيرة من ترابها لتذرّى على أجسادهم أثناء الجنازة. وهذا جزء من إحساس أي يهودي.
والسؤال: لماذا لا يدفن في الأرض التي اختارها دينه؟
يقول البطل إنه حمل كيس الرمل معه إلى كندا حينما هاجر، ثم حمله من كندا إلى المغرب لأنه لا يستطيع أن يعيش في الوطن الذي اختير له كوطن للميعاد، كما لا يستطيع أن يدفن من غير أن يكون في الأرض التي قيل إنها أرضه. ولذلك فقد تحايل على الأمر بحمل هذا الكيس.
والرواية تصور الحياة العلمانية التي يعيشها هذا المجتمع بصورة عجيبة؛ فالرجل الذي لا تحمل منه زوجته لأنها عاقر، يختار امرأة - لا للزواج - ولكن لتكون حاملة للجنين. بعد أن يخصبها فتنجب الطفل، ثم يعود هذا الرجل إلى زوجته الأولى بهذا الطفل. وهذا في عرف كثير من المتدينين نوع من أنواع الزنا، ولكن ما يعرف باسم "تأجير الأرحام" لا يرى العلمانيون غضاضة فيه.
 ولكن يترتب على هذا الإنجاب في كثير من الأحوال مآس بين الآباء وهؤلاء الأبناء المصنّعين. 
دعونا ننظر إلى تاريخ اليهودي الذي يحمله في عقله ووجدانه، فالمؤلف يتكلم عن المنشأ الأساس لليهود في "وجدة"، ويريد أن يؤصل لليهود الذين خرجوا من الأندلس بعد طرد المسلمين منها، وقد كانوا يعيشون معهم هناك في سلام.
وتريد إحدى شخصيات الرواية أن تؤصل لكون هؤلاء اليهود استوطنوا المغرب قبل أن يستوطنها الرومان أنفسهم، تشير إلى وجودهم في المغرب قبل ظهور الإسلام. 
ويقول  الجراح مخاطبًا ابنة صديقه المتوفى، ردًّا على سؤال: إلى ما انتهت أبحاثها عن أصول يهود المغرب: لقد أخبرني والدك بموضوع بحثك، فترد: أصول اليهود في هذا البلد مبهمة ومتشابكة جدًا، ومع ذلك فهناك بعض الأدلة والحقائق الدامغة؛ فالأعمدة الرومانية المملوءة بالقطع المعدنية المسكوكة بالأحرف العبرية في فولوبيليس على سبيل المثال دليل لا يمكن إنكاره على وجود اليهود في هذا البلد قبل ظهور الإسلام بزمن طويل، وهو ما يعني أن اليهود أتوا إلى هنا بعد تدمير الهيكل مباشرة. وأجرؤ على أن أدعي أن اليهود جاءوا إلى هنا قبل الرومان، عندما اقتحم نبوخذ نصر أورشليم وسبى اليهود إلى بابل كعبيد، وهناك كان أولئك الذين رافقوا الفينيقيين في تجارتهم الساحلية مع شمال إفريقيا. وهذا الوجود تثبته القبائل البربرية المتهودة، وشواهد القبور، ولذلك فعندما أتى يهود إسبانيا المطرودون إلى المغرب اكتشفوا متفاجئين أن هناك يهودًا سبقوهم إلى هذا البلد. ولكن الأمور تتعقد عندما يتعلق الأمر بالرغبة في معرفة من هم اليهود الحقيقيون؟
وباستثناء هذه القبائل البربرية المهتدية يتحدث التاريخ الحديث عن اهتداء جماعي لليهود في ظل حكم "الموحدين"، وفي الواقع عاش اليهود سابقًا أهل ذمة أي أنهم قُبلوا في المجتمع على اعتبارهم من أهل الكتاب، وعاشوا إلى حد ما حياة مستقرة شرط أن يدفعوا الضريبة المتفق عليها، إلى أن كان الموحدون فألغوا وضع الحكم الذاتي لليهود، وأجبروهم على اعتناق الإسلام أو الهجرة. وفي الحقيقة لم تغير هذه الأسلمة الباطنة جوهر النفوس. وقد ألزمهم السلاطين ارتداء لباس يميزهم، ومع ذلك فعندما تحسنت الأوضاع لاحقًا اختار جزء كبير من اليهود البقاء على إسلامهم. 
وقول المؤلف: "اكتشفت مثلًا أن السكان اليهود في بعض المدن من مثل بوعرفة اهتدوا قطعيًا إلى دين محمد".
هذا الجزء اللذي سقناه من الرواية واضح أنه جزء بحثي، وهو يريد أن يؤصل لليهود، لا قبل الحضارة الإسلامية التي عاشوا في رعايتها في الأندلس، بل وقبل أن يأتي الرومان إلى المغرب. 
ثم يرتد المؤلف بالتاريخ إلى ما قبل الميلاد بـ 2500 سنة عندما دمر نبوخذ نصر الفارسي الهيكل في أورشليم وسبى اليهود واتخذهم عبيدًا، ففر بعضهم إلى بعيد فكان هذا البعيد هو بلاد شمال إفريقيا أو المغرب، فعاشوا هناك في أمان وسلام.
ونتساءل: وما الغرض من هذا الاستقصاء الغريب لتاريخ اليهود في هذا العمل المفترض أنه روائي؟
فإذا كان اليهود عاشوا في ظل الدولة الإسلامية، ثم عاشوا في ظل الدويلات المغربية إلى عصرنا الحديث، ثم انتقوا من المغرب بإرادتهم إلى حيث ما أطلقوا عليه "وطنهم الموعود" أو "أرض الميعاد"، فماذا يريدون بعد ذلك؟ 

إذن واضح أن لا شيء يعجبهم، فلم تعجبهم البلاد التي استضافتهم والتي عاشوا فيها كأبنائها، ولا أعجبتهم البلاد التي وصفوها على أنها أرض الميعاد، واختاروا أن يذهبوا إلى العالم الجديد أو بمعنى أدق العالم الأرقى والأغنى، فالذهاب إلى كندا وأميركا هو توجه نحو حياة أفضل من الحياة التي يعيشونها في بلادهم الأصلية في المغرب، أو في غيرها. فهم لا يريدون إلا أن يكونوا على الدوام على سطح المجتمعات، وهذا مُكَوِّن قار في أعماق الشخصية اليهودية.
 ولنا أن ندرك أن اليهود تاريخيًا لم يعملوا بالزراعة ولا بالصناعة لأنهما تحتاجان إلى الاستقرار، ولكنهم اشتغلوا بالتجارة، وبالذات تجارة الذهب ومشغولاته لأن هذا يمكنهم من أن يحملوا أموالهم أينما كانوا ويرحلوا إلى أي مكان. 
وفي النهاية يمكن أن نقول إن شخصية اليهودي القلق المستريب هي التي تحكم الكتابة عن اليهود؛ سواء عند محمد طعَّان أو غيره من الذين اهتموا في السنوات الأخيرة بالكتابة عن اليهود.
ومحمد طعَّان طبيب ولد عام 1951 في جنوب لبنان، ثم ارتحل إلى أدبيجان في ساحل العاج، وتلقى تعليمه في عدة دول إلى أن تخصص في الطب في فرنسا عام 1978. وعندما حضر إلى القاهرة بمناسبة صدور طبعة من الترجمة العربية لهذه الرواية عن "دار أخبار اليوم" في معرض الكتاب في دورته 51 (عام 2020) أوضح أنه يطبب النفس البشرية بالإنجليزية، بينما يكتب الأدب بالفرنسية لتوصيل ما يقتنع به من حقائق عن وطننا العربي وما يمور به من أحداث وصراعات إثنية إلى الغرب. وبعد ذلك تأتي مهمة من يقوم بتعريب نصه لنقرأه نحن الناطقين بلغة الضاد.
وفي الختام أقول إن هناك وعيًا باطنًا مشتركًا بين اليهود يرتبط بتاريخهم المشتت خلال الأزمنة المتعددة والأمكنة المتباعدة. وأرض الميعاد تمثل لليهودي أكثر من مدلول ديني؛ فهي رمز ترتكز هويته عليه أينما ذهب. ولنأخذ مثلًا "أينشتين"، الذي عاش في ألمانيا وسويسرا ثم الولايات المتحدة، وهو عالم يهودي لم يعرف عنه التدين أو الالتزام بالطقوس والعبادات، ولكنه كان مهتمًا بإسرائيل إلى آخر عمره. وكاتب الرواية، أو بطلها، يبدو أنه يفتقد ثوابت الهوية، وربما لهذا يعتبر نفسه عربيًا ويهوديًا من هذه الزاوية. 
والسؤال المهم؛ ما هي القيم الإنسانية التي تطرحها الرواية باليقين أو بالشك، وهو سؤال مهم إذا كنا نتحدث عن أدب إنساني، لا يهم بأي لغة يطرحه كاتبه. 
وقد لاحظت أن معظم من كتبوا عنه أو استضافوه تليفزيونيًا في مناسبة صدور هذه الرواية ابتعدوا عن مناقشة الأفكار الأساسية التي أودعها في هذا النص، ربما خشية الصدام مع السائد أو الخوف من التأويل.