"سرد الذات" .. رحلة أمير عربي 

في "سرد الذات" للشيخ سلطان القاسمي نرى طرحاً إنسانياً شفافاً يتحدث ببساطة عن تفصيلات صغيرة تشكل رؤية متكاملة عن السيرة الذاتية للأمير الأديب.
القاسمى يحرص على التوثيق والنقل الأمين لوقائع التاريخ مهما كان المقصود منها هو إسقاطها على واقعنا المعاصر
موقف مثير للإعجاب له عدة دلالات موحية

كُتبُ التراجمِ الذاتية والسِيَر للسياسيين ورجال الدولة ليست كثيرة فى عالمنا العربية، فنحن لسنا كالغرب فى قدرته على المكاشفة والمصارحة والتحدث بشفافية وبساطة دون تعقيدات وعوائق. وفى قراءتك لكتب السيرة الذاتية عن حكام مصر كمحمد نجيب والسادات ستجد وقائع سياسية ورؤى عمومية ليس فيها خوض في التفاصيل الصغيرة، إنها رؤى سياسية لقائد سياسي.
أما في "سرد الذات" للشيخ سلطان القاسمي نرى طرحاً إنسانياً شفافاً يتحدث ببساطة عن تفصيلات صغيرة تشكل رؤية متكاملة عن السيرة الذاتية للأمير الأديب. وهي المرة الأولى التي قد تقرأ فيها كتاباً للسيرة الذاتية للسَّاسة على الطريقة الغربية الشفافة، لا على الطريقة العربية المتحفظة. 
لم يكتفِ الشيخ سلطان القاسمي بنَيل درجة البكالوريوس في الهندسة الزراعية بالقاهرة في أوائل السبعينيات حتى بعد أن صار حاكماً للشارقة، فأتبعها بنيل الدكتوراه في التاريخ من جامعة إكسيتر بالمملكة المتحدة عام 1985، وحتى هذا لم يكن كافياً لإشباع نهمه للعلم. فنال الدكتوراه في الفلسفة بأطروحته البحثية: "الجغرافيا السياسية للخليج". كان واضحاً ميله الكبير للتاريخ وحبه للغوص في حقائقه لتمييزها عن الكثير من الزيف الذي تم دسه عمداً في تاريخنا العربي.
حتى في رواياته الأدبية وأعماله المسرحية حرص الدكتور سلطان القاسمى على التوثيق والنقل الأمين لوقائع التاريخ مهما كان المقصود منها هو إسقاطها على واقعنا المعاصر.
بدا حرصه على التراث الإماراتي واضحاً حتى قبل تنصيبه أميراً على الشارقة، ففي أحد المواقف ذات الدلالة يحكى د. سلطان القاسمي كيف أنه كان بالقاهرة عندما سمع بِنيَّةِ أمير الشارقة هدم حصن الشارقة الأثري، فسارع بالسفر خصيصاً مُخاطِراً بفقد امتحان مهم، للحيلولة دون هدم الحصن. واستطاع إقناع الحاكم للعدول عن قراره، وبقيَت أجزاء من الحصن بعد هدم معظمه، فعاد للقاهرة ولحق الامتحان بأعجوبة. وبعد أعوام من تلك الواقعة افتتح د. سلطان القاسمي حصن الشارقة بعد ترميمه عام 1995 وتحويله إلى متحف من أجمل وأرقى متاحف الشارقة. 

هذا الموقف المثير للإعجاب له عدة دلالات موحية، منها أن الدكتور الأمير المُقبِل على مستقبل عصري كل ما فيه لامع وحداثي يتشبث بكل قوته بالجذور، ويحرص كل الحرص على إحياء التراث بكل تفاصيله وجزئياته.
لقد اكتشف عندما سارع لمنع هدم الحصن، أن عمليات الهدم لم تُبقِ منه سوى أحد الأبراج، فاستمات على منع هدمه فيما هُدِم، واستعان بالصور والقياسات الهندسية والتصميمات المتاحة ليعيد ترميم بقية الحصن وقتما استطاع! 
وعندما أتمَّ ترميم الحصن كان حِرصُه الأكبر هو تزويده بتاريخ الشارقة كاملاً، مقروءاً ومرئياً، بحيث صار متحفاً يروى تاريخ الشارقة والقواسم.
أىُّ إخلاصٍ وأى تفانٍ للتراث وللتاريخ وللجذور!
الغريب أنه برغم تعلقه بالحصن لم يسارع لبنائه مباشرةً بعد توليه الحكم! كان واضحاً أن هناك أولويات تشغله قبل الحصن، أهمها بناء الإنسان. كان حرصه الأكبر على التثقيف والتعليم وتحريض النشء على الغوص فى بحر المعرفة الذى صار اليوم بلا مرافئ ولا حدود، من أجل بناء جيل هو الآن من القادة.