شاعر البحر والحوريات والنوارس.. وداعًا

فروسية طمان وشموخه وهو يلقي قصائده كان يفتن زوجته، وهي التي عايشت ولادة تلك القصائد التي استلهم فيها الأسطورة.
أحمد عبدالمعطي حجازي اعتنى بقراءة قصائد البحر التي ميزت ديوان طمان لا سيما وأنه عمل لسنوات ضابطا في القرات البحرية المصرية 
شعر الشاعر سعي دائم يبحث فيه صاحبه عن عالمه ويصل إليه قصيدة بعد قصيدة ومرحلة بعد مرحلة حتى يمتلكه كله ويرفع عليه رايته

لعبت خديجة خُشانة دورًا ملموسًا في الاعتناء بموهبة زوجها الشاعر السكندري الكبير فؤاد طمان، الذي غيبه الموت عنا قبل أيام، وذلك من منطلق إيمانها بأصالة موهبته، وبأن فن فؤاد طمان سيكتب له البقاء.
فكانت هذه الزوجة - الحبيبة بمثابة الحاضنة لموهبته، بل أستطيع أن أقول إنها كانت من أشد المعجبات بقصائده، ويشي بذلك اهتمامها بحضور معظم أمسياته التي شهدتها المحافل المختلفة بالقاهرة والإسكندرية.
وأتصور أن فروسية طمان وشموخه وهو يلقي قصائده كان يفتنها، وهي التي عايشت ولادة تلك القصائد التي استلهم فيها الأسطورة، أو التي رصد فيها صور الإسكندرية وتحولاتها، ولطالما أفتتنت بشعره القومي الذي تناول فيه انتصارات الحلم القومي وانكساراته، هذا الحلم الذي كان طمان أحد المؤمنين به.
وأذكر أنها دعتني يومًا لتناول الغذاء في بيتهما، بمناسبة دعوتي لتدشين "جائزة فؤاد طمان في الشعر القومي" التي رعتها الصفحة الأدبية لجريدة "الأخبار" المصرية، وقت إشرافي على تحريرها.
وكانت خديجة في قمة السعادة لارتباط اسم زوجها بجائزة تعتني بالشعر القومي وتهدف لحفز همم الشعراء لمعالجة قضايا العروبة.
وقد أدركت هذه السيدة المنحدرة من أصول أرستقراطية، كيف تتعامل برقي مع رموز الشعر العربي الذين يستقبلهم زوجها، وفي مقدمتهم: أحمد عبدالمعطي حجازي الذي أولى موهبة فؤاد طمان اهتمامًا حقيقيًا، فرشحه لينضم إلى عضوية لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، وكان حجازي لا يرفض له طلبًا لإلقاء شعره في الإسكندرية، وكذلك كان الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبوسنة صديقًا لفؤاد طمان، وفاروق شوشة، والناقد الدكتور محمد عبدالمطلب، والدكتور حسن طلب، والدكتورر أحمد بلبولة، وكبار شعراء الإسكندرية، وكثيرين غيرهم، فقد كان الرجل يتمتع بالقبول من كل من يتعامل معه.

هذه اللغة بما فيها من تضمينات ورموز تجسد تاريخ الإسكندرية القديم والحديث وتعبر عن طبيعتها الكوزموبوليتانية

وفي المحيط العربي ربطته صداقة بعبدالعزيز سعود البابطين وكان مستشارًا قانونيًا له، كما كان صديقًا للساعر السوري علي عبدالكريم الذي عمل لسنوات في مصر، ولعدد من شعراء لبنان والمغرب والكويت والعراق وغيرها.
وقد استمعت لرأي الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي في شعر فؤاد طمان. فقد اعتنى حجازي بقراءة قصائد البحر التي ميزت ديوان طمان لا سيما وأنه عمل لسنوات ضابطا في القرات البحرية المصرية. 
وعنه يقول حجازي: لو كان عليَّ أن أُعَرِّف الشاعر فؤاد طمان بكلمة مختصرة لقلت إنه شاعر إسكندراني، أو شاعر البحر والحور، كما قال هو عن نفسه في إحدى قصائده. فالإسكندرية ماثلة في كل شعره.
الإسكندرية كما يراها ويعيشها. والإسكندرية كما يتذكرها ويحن لها ويقف على أطلالها.
 والبحر حاضر دائمًا في شعره، والحوريات حاضرات في الصورة، وفي خلفية الصورة؛ الرمل، والريح، والمدّ والجزر والاتساع والمدى، والمعلوم والمجهول، والواقع والأسطورة.
ويضيف حجازي قائلًا: وأنا عاشق للإسكندرية والبحر، وللحور، وللشعر، وصديق قديم لفؤاد طمان. وقد عدت أخيرًا إلى أعماله التي أهداني منها طبعة جديدة، فقرأتها مجتمعة قراءة جديدة تواصلت فيها مفرداتها، كما تتواصل الكلمات في الجملة المفيدة وتنطق بما لم تكن تنطق به من قبل.
لأن شعر الشاعر سعي دائم يبحث فيه صاحبه عن عالمه ويصل إليه قصيدة بعد قصيدة ومرحلة بعد مرحلة حتى يمتلكه كله ويرفع عليه رايته.
وهكذا تكون قراءة القاريء للأعمال الكاملة مختلفة عن قراءته للمفردات.
ويوضح حجازي أن فؤاد طمان شاعر إسكندرانى، والبحر حاضر في شعره بقوة. تمامًا كما هو حاضر في شعر غيره، وبخاصة شعراء البلاد والمدن المطلة على البحر، ومنها الإسكندرية التى كان البحر موضوعًا من موضوعات شعرائها بأجيالهم المختلفة، ولغاتهم المتعددة.
ويشير حجازي إلى أن البحر موجود في الشعر البطلمي؛ صورًا عابرة واستطرادات عند بعض الشعراء، وموضوعًا أصليًا عند بعضهم الآخر.
والبحر موجود في قصائد شعراء الإسكندرية في العصور الإسلامية، ومنهم ابن قلاقس الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلاد.
والبحر يزداد حضورًا في دواوين شعراء الإسكندرية في هذا العصر من المصريين والأجانب: عبدالرحمن شكرى، وخليل شيبوب، والقباني، والأنصارى، والعتريس، وكفافيس اليوناني، ومارينيتي، وأونجاريتي الإيطاليين. فضلًا عن الشعراء الزوار الذين مروا بالإسكندرية، أو الذين أقاموا فيها بعض الوقت مثل: أمل دنقل الذى نذكر له قصيدته البديعة "إجازة فوق شاطىء البحر".
والبحر حاضر عند هؤلاء جميعًا. لكن حضوره في شعر البعض يختلف عن حضوره في شعر غيرهم.
وبالطبع نجده في قصائد فؤاد طمان التي لا نستطيع أن نميز فيها بين الشاعر والبحر والإسكندرية؛ ففي هذه القصائد تتحاور هذه الأطراف الثلاثة وتتفاعل وتتحد وتصبح عالمًا تتداخل فيه الصور، وتتجاوب الأصوات والأصداء:
رمانى "أبوللو" على لجج البحر،
قال: هنا ستغني وتتبعك الكائنات
لك الآن هذا المدى الأزرق الأزلي
وهذا الفضاء الرحيب
على الماء عرشك
ليس يشاركك الملك إلا النجوم الزواهر حينًا
وحينًا تشاركك الملك تلك الغزالة
والأرض ليست لك، الأرض للبؤساء العبيد
وللآثمين الطغاة!
في هذا العالم تتوارد الخواطر، ويرى الشاعر الذي ينظم بالعربية ما يراه الشاعر الذي ينظم بالإيطالية أو الفرنسية. 
والعلاقة التي وجدها فؤاد طمان في هذه الأبيات بين البحر والحرية، من ناحية، وبين الأرض والطغيان، من ناحية أخرى، وجدها شارل بودلير قبله بقرن ونصف في قصيدته "الإنسان والبحر" التي ترجمتها حنين عمر، وتبدأ هكذا:
أيها الإنسان الحر، دائمًا ستعتز بالبحر
البحر مرآتك
إنك تتأمل روحك في الامتداد اللا نهائي للجنة.
وحين نقرأ المقطع التالي الذي يبدأ به فؤاد طمان قصيدته "أنشودة أورفيوس الأخيرة":
وأورفيوس في الأساطير اليونانية شاعر مغنٍ هبط إلى العالم الآخر ليستعيد حبيبته من الموت، فسحر بغنائه الآلهة التي أذنت له باصطحاب حبيبته إلى الدنيا شريطة ألا ينظر خلفه:
يقولون إني خصب الخيال
أرد النجوم لأبراجها
وأعد الرمال
وأوقظ محبوبتي من سبات الرحيل
وأمضي بها في شطوط الأبد
أطارحها في البحار الغرام
وأنجب منها الجميلات فوق الزبد
وفي سورة الحب والبغض
اجتاح مثل العواصف أفق المحال!

نقرأ هذا المقطع فنرى فيه ما يذكرنا بالمقاطع الأولى في قصيدة الشاعر الفرنسي سان جون بيرس "الفلك ضيقة":
الفلك ضيقة، ضيق مضجعنا
امتداد البحر ما أوسعه. وكعرض السماوات والأرض
ملكنا في حجرات الهوى المختومة!
نعم. فالبحر والحب شيء واحد كما يقول المترجم التونسي مصطفى القصري، وهو يقدم ترجمته العربية لهذه القصيدة.
ولا بأس من استطراد آخر تزداد به الفكرة وضوحًا، وهو من قصيدة خليل شيبوب "البحر مرآة الحياة":
أرى البحر مرآة هذي الحياة
فهو يحاكي مداها اتساعًا
وأبعاده مثل أبعادها
يضيق على الفهم أن تستطاعا…
وقد وضع الله حدًا له
وحدًا لأعمارنا وانقطاعا
فنحن كأسماكه في الوجود
يغول الكبير الصغير ابتلاعا
وأعمارنا كقراراته
انخفاضًا إذا اختلفت وارتفاعا
وأيامنا مثل موجاته
تجىء سراعًا وتمضى سراعا!
هكذا نرى أن البحر في شعر فؤاد طمان ليس مجرد موضوع، وإنما هو عالم أو حياة بكل ما في الحياة من تجارب وهموم كبرى، وتفاصيل يومية، وصور يستدعي بعضها بعضًا.
إنه وهو يتحدث عن البحر يتحدث عن الإسكندرية. إسكندرية الماضى، وإسكندرية الحاضر. الإسكندرية كما يعرفها، ويعيشها، البيت والأسرة والمرأة والعمل.
وهو مقبل على الحياة، لكنه يرثي نفسه ويرثي أصدقاءه الراحلين.
 يسترسل في الحلم حتى يُصَدِّق أحلامه ويجعلنا نصدقها معه.
ثم يفتح عينيه على الواقع الأليم؛ فيبكي ونصدقه فنبكي معه. لأننا نجد أنفسنا فيما يقوله عن نفسه، في أحلامه، وفي أوهامه وآلامه:
لا شيء ينقصني؛ فعندي كل ما أحببت، واشتهت العيون
بيتي على الميناء تعرفه الجميلة والنوارس والسفن
تأوي له ريح الصبا وتمر مسرعة به ريح الشمال
يطل من أعلى على مربى المحار
ومهد ربات البحار
غدوت وحدي في المدينة سادن الربات
وحدي كاتم السر الدفين!
وهو يسترسل فيقول:
في عشي الوردي جارية منعمة
أبوها من ملوك الروم
ناضرة متوجة على عرش الصبابة والفتون
أنا محور الدنيا لديها
لا ترى فيَّ العيوب
جرت أغاني العشق في دمها
وصهباء التلهف والجنون
يقول ويسترسل، ونحن نصدقه، لأنه يحسن القول ولا يفتعله، ثم يصحو من حلمه، أو وهمه الواقع فيحدثنا عنه ونحن نصدقه، لأنه يحسن القول فيه ولا يفتعله.
في العالم السفلي موتى في الجحيم
على البسيطة مركبات السبي مترعة
بأحزان الصبايا
حفها الحراس
آباء المدينة في الطريق إلى القبور أو السجون
وأنا هنا مازلت منتشيًا
تغيب بي السلافة في مروج الوهم
أهذي تحت أجنحة الطيور الزرق
والشهب التي تنهل ساطعة على مر القرون
لا شيء ينقصني.. لدي بدائع الدنيا،
وأسرار الكواكب كلها…
في الضفة الأخرى المشانق والعويل،
وحكمة الطاغوت ضاحكة مجلجلة الصدى
وحماقة البشر الذين استسلموا لطغاتهم
حذر المنون!
الآن ينقصني الذي سلبته مني الريح
مسرعة مقهقة.. وينقصني اليقين!
لغة سلسة رائقة ومثقفة، تختزن الكثير وتوحي به ببساطة. أشعار القدماء والمحدثين، العرب والأجانب، امرؤ القيس، والمتنبي، وإيليا أبو ماضي، ومارينيتي. القرآن والتوراة. التفاصيل النثرية والتركيبات المجازية والتواريخ والأساطير، والأوزان التقليدية، إلى جانب الأوزان الحرة.
 هذه اللغة بما فيها من تضمينات ورموز تجسد تاريخ الإسكندرية القديم والحديث وتعبر عن طبيعتها الكوزموبوليتانية.
 نستطيع أن نقول إنها لغة إسكندرانية.