شاعر سوري ينظر إلى العالم بعيون القصيدة

عماد أحمد: يتفق الطبيب والشاعر الذي أكونهما على محاولة خلق المسرة في قلوب الآخرين.
الشعر السوري أمام انعطافة كبيرة على صعيد المعنى والشكل، وربما تكون فرصة مناسبة لاستيقاظ كل الأسئلة والأجوبة العالقة في الحلق منذ أبد بعيد
الشعر ربما يمرض ولكنه لا يموت وأراهن في قادم الأيام على أسماء ستدهش العالم بعطائها الشعري

قبل دخوله كلية الطب، كان حريصاً على التفوق في اللغة العربية، وبعد أن التحق بالكلية وتخرج طبيبا بقي وفياً للغة العربية، ثم جعل الشعر أولى اهتماماته، وها قد بدأ يسير بخطوات أكثر من واثقة على دروب الإبداع وبدأ ينتج لنا أدباً فيه الكثير من الجمال، وما أجمله حين يظل مصراً على خلق المسرة في قلوب الآخرين طبيباً ومبدعاً. قال عماد أحمد: بدأت علاقتي باللغة في سنوات الطفولة الأولى منذ تعلمت كيف أفكك الحروف وأركبها لأحصل في كل مرة على معنى جديد وأثر مختلف. وكان حرصي على التفوق في العربية مرهوناً بحرصي على التفوق الدراسي والالتحاق بكلية الطب التي كانت حلم كل الطلاب وعائلاتهم. وفي الوقت نفسه كان الشعر فسحة للتنفس والتنافس ومساحة للهروب من ضغط دراسة الطب أولاً والعمل في حقوله لاحقاً ولا يزال كذلك إلى الآن.
يتفق الطبيب والشاعر الذي أكونهما على محاولة خلق المسرة في قلوب الآخرين، وقد استفاد أحدهما من الآخر بقصد أو بدونه، فالطبيب منح الشاعر فرصة أوسع للالتقاء بالناس ومشاكلهم والشاعر هذّب نفس الطبيب وقلّم أحاسيسه ليكون أكثر رحمة وهدوءاً. أما إذا أردنا التحدث عن أمراض الإبداع العربي فالحديث ذو شجون ونحن بحاجة إلى بروتوكولات علاجية طويلة وجهود جبارة وجادة على صعد كثيرة.
إن الشعر هو أول اهتماماتي الإبداعية وآخرها وإنني أربط كل ما هو جميل بالشعر فقد أحب أغنية لكلماتها، وقد أحب امرأة لعذوبة حديثها وقد أحب نفسي إذا أعجبتني قصيدة كتبتها. أنا هكذا فعلاً أنظر إلى العالم بعيون القصيدة.

الكلمات في نظري تتكاتف مع بعضها البعض مثلما تفعل السواعد والأكتاف وهنا يشكل لي الشعر وطناً بديلاً ولو كان افتراضياً

وقد أصدرت مجموعتي الشعرية الأولى "على ساق واحدة"، وأتركها لتأخذ فرصتها في القراءة والنقد أولاً وهي خطوة جديرة بأن تتكرر وإن جاءت متأخرة.
ويرى عماد أحمد أن الجميع يتفقون على أن الشعر السوري أمام انعطافة كبيرة على صعيد المعنى والشكل، وربما تكون فرصة مناسبة لاستيقاظ كل الأسئلة والأجوبة العالقة في الحلق منذ أبد بعيد. وقال: أنا شخصياً أؤمن أن الشعر ربما يمرض ولكنه لا يموت وأراهن في قادم الأيام على أسماء ستدهش العالم بعطائها الشعري الذي يليق ببلد قدم الحرف والعمارة للعالم منذ آلاف السنين.
وعن قصيدة النثر يرى أنها ليست وافداً غريباً علينا ويمكن أن تجد لها جذوراً جينية في التراث العربي القديم منذ نثر المتصوفة في كتابات ابن عربي والسهرودي ونصوص الجاحظ و التوحيدي. ولكن غياب المعيار الحقيقي لتقييمها ساهم في إبقاء هذا الشكل الشعري عالقاً في منتصف المسافة بين كونه شعراً أو لا، ومع ذلك أرى أن قصيدة النثر قد خطت خطوة أبعد من التوقعات على الأقل.
غير ان النص الشعري يظل نصاً شعرياً وتظل مكوناته هي ذاتها ولا يشكل العروض إلا جزءاً يسيراً من الوزن والإيقاع، وأنا هنا أتفق مع الناقد المغربي محمد الصالحي إذ يقول "إن الشعر العربي نسق كلي يستوعب عدداً لا نهائياً من الأشكال الشعرية بما فيها قصيدة النثر التي ليست سوى إمكان إلى جانب الإمكانات الأخرى".
لو نتفق على معايير تميز الجيد من الرديء أنفع من أن نختلف على اعتمادها كشكل من أشكال القصيدة العربية. 
   ـ ما هي العوامل التي تؤدي إلى انحدار مستوى الشعر؟ وماذا على الشاعر أن يفعل حتى يطوّر أدواته ويوفر للمتلقي المتعة الجمالية، ولا يقع في تقليدية مملة؟
وعن العوامل التي تؤدي إلى انحدار مستوى الشعر يرى عماد أحمد أن أهم هذه العوامل انشغال الشاعر بعالمه الداخلي متجاهلاً ما يحدث حوله ومتوهماً أنه عالم ثري إلى أن يجد نفسه تائهاً في فراغ كبير. والغموض الذي أصبح سمة بارزة في شعر هذه الأيام وقد تجلى ذلك في غياب الموضوع عن النص الشعري فلا يعرف المتلقي عما يتحدث الشاعر ويستصعب الوصول إلى الفكرة أصلاً. فضلا عن الانتشار الواسع الذي تحظى به الرواية العربية حتى أن بعض الشعراء المعروفين تحولوا إلى روائيين وهنا يكمن السؤال الملحّ علينا هل ابتعد الشعر أم اقتربت الرواية أكثر؟! بالإضافة إلى التغير الرهيب الذي يجتاح حياتنا بكل تفاصيلها والانحدار إلى  الماديّ على حساب الروح وحاجاتها والدور السلبي الذي يلعبه القسم الأكبر من الإعلام وكما يقال "إن التكنولوجيا اختصرت وانتصرت".
سألناه عن دور اللغة في نجاح النص، فقال: إذا كان النص الأدبي يستمد وجوده من التقائه بالمتلقي فإن الرسالة التي يستخدمها الأديب لهذا الغرض تعتمد في جوهرها على اللغة التي تشكل الأساس الثابت لأي نص. 

Poetry
الشعر يقوم أصلاً على الصورة 

ربما على أحد غيري أن يتحدث عن اللغة التي أستخدمها في نصوصي ولكنني أحاول جاهداً أن أستعمل الكلمات المألوفة وأتحاشى العناصر غير المهمة أملاً في الوصول إلى نص قريب من القارئ دون الإغراق في التسطح أو الغموض.
أما عنن الصورة الشعرية فيرى أن الشعر يقوم أصلاً على الصورة منذ أن وجد إلى هذا اليوم، حتى أن الجاحظ يقول "إن الشعر فن تصويري يقوم جانب كبير من جماله على الصورة الشعرية وحسن التعبير". وعليه فإن الصور الشعرية المكثفة تتيح لك كشاعر الخروج عن المألوف والتقليدي وتبرز براعتك في ربطها برباط واحد يشكل في النهاية النص المشحون بما تريد.
وعن النقد الأدب في سوريا يرى الشاعر عماد أحمد أن النقد الأدبي يعيش في سوريت - ومنذ عقود وإلى الآن - حالة ركود انعكست سلباً على عملية الإنتاج الأدبي عموماً فثبطت الهمم ووضعت المنتِج والمنتَج في دوامة من التشاؤم واليأس. وفي الوقت الذي يغلب فيه الطابع التنظيري على النقد وعدم توفر دقة المصطلح النقدي ينصب اهتمام معظم النقاد على إنتاج أدباء الصف الأول بينما يهمل أدباء الصفين الثاني والثالث، وليس جديداً أن أقول إن مئات الكتب التي تنشر سنوياً لم تجد إلا العقوق النقدي والإهمال وإذا كان الأديب محظوظاً ربما يحظى بقراءة سريعة وخاطفة عن منشوره المسكين في مكان ما.
ويؤكد أنه لا يختلف اثنان على أن الناقد الجاد الموضوعي يعيد اكتشاف النص ويقدمه للقارئ كما يفعل عالم الآثار بقطعة أثرية حين يقدمها للعالم دون المساس بكينونتها.
ويضيف أن الشكل التقليدي للقصيدة ظلّ سائداً ومسيطراً لما يقارب 15 قرناً الأمر الذي أضفى نوعاً من القداسة والهيبة على النص القديم مما يهيئ القارئ للتأثر والدهشة سلفاً، إضافة إلى تناول الشعراء القدامى مواضيع عامة قريبة من الناس في قوالب مألوفة.
ويرى أن الأزمة الحقيقية للشعر الحديث تكمن في أن القصيدة مغلقة على نفسها ويلزمها منجم لفك طلاسمها، وقد قابل القارئ هذا الغموض بشيء من التراخي وقد أسهم النقاد كذلك في تفاقم الجفاء وأزمة الثقة بين الطرفين باستخدامهم لغة ملغزة تتفوق على ألغاز الشاعر وغموضه أحياناً.
وعن تأثير البيئة في إبداعه يقول أنا ابن هذه البيئة فعلاً.. تتدفق في عروقي ملامحها المالحة وتتشكل في روحي فصولها المتداخلة مثلما تشكلت في حاراتها وشوارعها على مر تلك السنوات، ولا بد أن تلتقي حين تقرأ لي بامرأة شامخة بثوبها الكودلي وهباريها أو بموال كردي عتيق أو بتنهيدة أرملة أرمنية لا تتوقف عن طبخ الذكريات على نار هادئة.
وهو يصف المشهد الثقافي والأدبي في منطقة القامشلي راهناً، قائلا: لقد تباطأت عجلة المشهد الثقافي مثلما تباطأ كل شيء منذ بداية الحرب، ولا يتعدى الأمر في أحسن الأحوال بعض المحاولات الفردية الخجولة هنا أو هناك إضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي، الناس مشغولون بلقمة العيش والبحث عن سقف آمن أكثر من انشغالهم بالكلمة واشتغالهم عليها.
ويختم بقوله: القصيدة تجبرني أن أفهم نفسي وتمنحني فرصة حقيقية للتفكير فيما بعد الآن، وإن الكلمات في نظري تتكاتف مع بعضها البعض مثلما تفعل السواعد والأكتاف وهنا يشكل لي الشعر وطناً بديلاً ولو كان افتراضياً.
يذكر أن عماد أحمد طبيب وشاعر سوري من مواليد القامشلي/ التنورية / 1982، حاصل على شهادة الدراسات العليا والبورد العربي في اختصاص طب الأطفال من جامعة حلب بدرجة امتياز، صدرت له مؤخراً مجموعة شعرية بعنوان "على ساق واحدة"، نالت استحسان النقاد والقراء على حد سواء. ينشر نتاجه الأدبي في الدوريات المحلية والعربية، ويعمل حالياً في عيادته الخاصة في مدينة القامشلي.