شاكر عبدالحميد بين الدخان واللهب

الدخان قد يرتبط بالخفة والهدوء وحالات الانطواء والصمت والكآبة والتأمل وغياب الحيوية والحزن، وكذلك بغياب الوعي من حيث ارتباطه بالمخدرات.
الإنسان يظل يتقلب بين الظل والنور، بين العتمة والنور، بين الكآبة والمرح، وهكذا تكون القرابة بين الهوس والاكتئاب
اكتشافات علم النفس أضاف إلى معرفة الإنسان أمورًا أبعد من تعرفه على هيكله الخارجي (البدن)

نحن في حاجة لأن نعرف أنفسنا المعرفة التي تساعدنا على محاولة فهم سلوكياتنا ودوافعنا كبشر.
ومن المؤكد أن اكتشافات علم النفس أضاف إلى معرفة الإنسان أمورًا أبعد من تعرفه على هيكله الخارجي (البدن) فاكتشف الإنسان أن أمراض النفس موجودة وقائمة وليست أقل خطرًا من أمراض البدن، بل قد يكون العكس هو الصحيح، فإذا كانت أمراض البدن في أشد حالاتها إيلامًا تؤدي إلى الصراخ، فقد استطاع الطب أن يتغلب على الألم العضوي بعقاقير ومسكنات مهدئة أو مخدرة، أما الألم النفسي فلا فرار من تحمل نتائجه التي تظهر في سلوكيات غريبة، ربما يكون السأم والاكتئاب والحزن بعض مظاهرها، بل قد يصل الأمر إلى الجنون أو الانتحار العقلي أو الانتحار الكلي.
وما يقدمه الدكتور شاكر عبدالحميد في أحدث كتبه "الدخان واللهب" الصادر قبل أيام في القاهرة عن دار العين هو محاولة للاقتراب من هذه الحالة المرضية الخطيرة التي مر بها رجال ونساء من أفضل البشر ذكاءً وقدرات ومواهب في شتى مجالات الإبداع الأدبي والفني.
وقد اختار المؤلف لكتابه هذا العنوان الملغز "الدخان واللهب"، فماذا  قصد به؟
يقول: الدخان واللهب من صفات النار، وقد ارتبطت النار - رمزيًا وأسطوريًا - باسم "بروميثيوس" وتعني في اليونانية (ذلك الذي يرى المستقبل، أو هو الرائي مستقبلًا Pre-metheus وقد جاء ذكره في "محاورة بروتاجوراس" التي تحدث فيها أفلاطون عن فن الصناعة وربطه بأسطورة بروميثيوس، ذلك الذي كان مدفوعًا برغبته في مساعدة البشر إلى الحركة بعيدًا عن الأرض، نحو ضوء الشمس. حيث النار هبة المهارة في الفنون.. أما الدخان فصوره مرتبطة باللهب وزاخرة بالدلالات والتأويلات، وهي قد تكون صالحة للتعبير عن حالات الطبيعة وتحولات النار، كما أنها قد تكون كذلك قادرة على تفسير حالات وتحولات شتى خاصة بالطبيعة الإنسانية الفردية أو الجمعية.
فالدخان قد يرتبط بالخفة والهدوء وحالات الانطواء والصمت والكآبة والتأمل وغياب الحيوية والحزن، وكذلك بغياب الوعي من حيث ارتباطه بالمخدرات.
 بينما قد يرتبط اللهب بالتوهج والحيوية والهوس والانبساطية والحركة والبهجة والفرح".
وإذا كنا قد اعتدنا ربط الحديث في أمور النفس بعلم النفس الذي وضع أساسه الحديث فرويد في أواخر القرن التاسع عشر، فإن هذا الكتاب الذي وضعه شاكر عبدالحميد يعود إلى قرنين قبل هذا التاريخ مشيرًا إلى الطبيب البريطاني توماس ويليس 1621-1675. وقد لعب دورًا مهمًا في علوم التشريح والأعصاب والطب النفسي، وألف عددًا من الكتب ذات الأهمية في سياقها التاريخي، وفي طبعة خاصة من أعماله الكاملة وردت إشارات إلى مرض الهوس - الاكتئاب، فمن خلال صور مجازية جميلة شبه ويليس الاكتئاب بالدخان، وشبه الهوس باللهب، وهذا هو المصدر الذي استقى منه شاكر عبدالحميد عنوان كتابه، فهو حديث عن عدد من أهم أمراض النفس التي تصيب الإنسان الذكي شديد الحساسية، وهي أمراض: الهوس أو الاكتئاب ومحاولة الحديث أيضًا عما يعرف بالجنون بأنواعه المختلفة منذ عرفه الإنسان وعانى منه كثيرًا إلى أن وصل إلى العصر الذي يحاول فيه أن يفهم ويحلل.

المؤلف استطاع أن يضع يده عللى حالة إبداعية خاصة في الشعر الحديث هي قصيدة الشاعر صلاح عبدالصبور "رسالة إلى الله" من ديوانه "أحلام الفارس القديم"

والفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشيل فوكو الذي جاء بعد ثلاثة قرون من توماس ويليس ليبدي إعجابه الشديد بروح الملاحظة لدى ويليس وأيضًا صفاء تصوره الطبي وأيضًا تلك الكيفية التي وصل من خلالها إلى وجود قرابة عميقة بين هذين المرضين، وهي قرابة يرى فوكو أنها  تقودنا إلى مسوخ غريبة، فبعد الاكتئاب يجب معالجة الهوس الذي يملك الكثير من عناصر التشابه مع الاكتئاب لدرجة أن الإصابات تنتقل من هذا إلى ذاك.
وكما يقول فوكو، فالحالة المرضية صور بلاغية جانحة جامحة تصبح فيها العقول في حالات الاكتئاب سوداء غامضة حتى أنها تُسقط ظلامها على صور الأشياء لتشكل داخل نور الروح ما يشبه صعود الظل، وما ذلك الظل الذي يصعد داخل الروح؟ إنه ظل تلك الذات وقد أصبحت أشبه بالظل، ذات تتمنى أن تتوارى وتغيب عن الناس والوجود ترجو أن تظل خفية مخفية لا ينظر إليها أحد، ولا يدرك سر عذابها أحد.
 فالإنسان يظل يتقلب بين الظل والنور، بين العتمة والنور، بين الكآبة والمرح، وهكذا تكون القرابة بين الهوس والاكتئاب.
ويشير المؤلف إلى أن فوكو أبدى إعجابه الشديد بالصور المبتكرة من جانب طبيب متبحر في علوم التشريح والأعصاب والطب النفسي، وقال معلقاً عليها: "إن اللهب في حركته الحيوية يبدد الدخان، إلا أن الدخان عندما يسقط، فإنه يخنق اللهب ويخمد وضوحه".
فإذا كان الحديث عن الإنسان يؤدي إلى مثل هذه الحالات، فكيف يكون الحديث عن الإنسان الأرقى، أو الأكثر حساسية.. أو الفنان، سواء كان رسامًا مصورًا أو شاعرًا أو مبدعًا قصصيًا أو روائيًا أو إذا كان مبدعًا للألحان التي يقتطفها من الهواء ليصنع منها كونشرتو أو سيمفونية أو سوناتا.
 كيف يصاب هؤلاء الناس ولماذا؟ وما ظاهرة الإصابة عندهم؟ أهي أنواع من الجنون؟ أم من فرط العبقرية؟ أو درجة أعلى من الحساسية الإنسانية الراقية؟
 يقول شاكر عبدالحميد عن بيتهوفن إنه فكر ذات مرة في الانتحار، وإنه كان كما وصفه معاصروه، يتعاطى الخمور بشره، وإن مزاجه كان حادًا عنيفًا.
 ويضيف كذلك إن برليوز قد أصيب في فترة من حياته باكتئاب عنيف، وإنه كاد يقتل نفسه، وإن بروخين كان يعاني من انهيار عصبي، وأدخل مستشفى للأمراض العقلية، وإن برامز ربما كان قد مات بعد إصابته بتسمم في الكبد نتيجة إدمانه الكحوليات، أما تشيكوفسكي فقد كان مصابًا بمرض الهوس - الاكتئاب، ويعتقد البعض أنه انتحر في نهاية حياته بعد ما قيل عن ميوله المثلية، ووصول تلك الأخبار إلى القيصر الروسي ذاته، وإن هوجو وولف قد مات مجنونًا، وإن مالر كان يعاني من الهوس والاكتئاب، ومن عصاب الخوف من الموت.
وهناك أيضًا دلائل على وجود تاريخ طويل من المرض العقلي في عائلة "رحمانينوف"، وعن أنه أصيب باكتئاب حاد، كما أنه أهدى الكونشرتو الثاني للبيانو الذي ألفه إلى طبيبه النفسي.
أما شومان فقد كان هو المؤلف الموسيقي الأكثر تأثرًا من بين هؤلاء الفنانين بالمرض؛ فقد عانى من نوبات متكررة وعنيفة من الاكتئاب الحاد عبر حياته، وقد حاول الانتحار مرات عدة، كان آخرها في سن الثالثة والأربعين، ثم إنه توفي في مصحة نفسية في سن السابعة والأربعين.
هذه شواهد لظواهر يمر بها الإنسان بصفة عامة، والإنسان الأرقى والأكثر حساسية، بصفة خاصة، بعد أن اكتشف العلم أنواعًا من الأمراض لا ترتبط بالبدن وإنما تؤثر عليه وهي الأمراض التي أصبحت تعرف بـ"الأمراض النفسية".
والذي يحاوله المؤلف الدكتور شاكر عبدالحميد في هذا الكتاب القيم هو أن يستدعي تلك الشخصيات الشهيرة على مستوى العالم أجمع، وما حدث لها من أسباب أدت إلى سقوطها في براثن هذه الحالات المرضية التي لم ينج منها كثير من العظماء.
وقد استطاع المؤلف أن يضع يده عللى حالة إبداعية خاصة في الشعر الحديث هي قصيدة الشاعر صلاح عبدالصبور "رسالة إلى الله" من ديوانه "أحلام الفارس القديم". فقد جسد صلاح عبدالصبور، كما يرى المؤلف، ربما أكثر من أي شاعر آخر في العربية تلك الحالة الخاصة من الاضطراب النفسي والألم التي يسميها العلماء اضطراب الهوس – الاكتئاب.
وقد جسد فيها مقاومته ومعاناته وهواجسه وآلامه الليلية والنهارية المتواصلة في مواجهة ذلك "الكلب الأسود" الذي هو الاكتئاب الذي كان لا يكف عن نهشه وتعذيبه، فقال:

هذا الكتاب لا يمكن أن يلخص أو يُختزل، لأن نماذج هؤلاء الذين أصيبوا بهذه الضربات القدرية يختلف التفصيل في كل حالة منها عن غيرها

"حزني ثقيل فادح هذا المساء
كأنه عذاب مصفدين في السعير
حزين غريب الأبوين
لأنه تكون ابن لحظة مفاجئة
ما مخضته بطن
أراه فجأة إذ يمتد وسط ضحكتي مكتمل الخلقة
موفور البدن
كأنه استيقظ من تحت الركام
بعد سبات في الدهور
لقد بلوت الحزن حين يزحم الهواء كالدخان
فيوقظ الحنين، هل نرى صحابنا المسافرين
أحبابنا المهاجرين
وهل يعود يومنا الذي مضى من رحلة الزمان؟
ثم بلوت الحزن حين يلتوي كأفعوان
فيعصر الفؤاد ثم يخنقه
وبعد لحظة من الإسار يعتقه
ثم بلوت الحزن حين يفيض جدولًا من اللهيب
نملأ منه كأسنا، ونحن نمضي في حدائق التذكارات
ويعلق شاكر عبدالحميد: "هكذا وصف صلاح عبدالصبور وعلى نحو بالغ الدقة والبراعة حالة الهوس- الاكتئاب في إحدى قصائده، فصور ذلك الترواح ما بين الضحك والحزن والمتعة والعذاب، فقال: (حزني ثقيل فادح هذا المساء)".
ويستطرد شاكر عبدالحميد في كتابه لتحليل الحالات التي تشرح هذا الموضوع وتعلله، وربما تكون أشهر شخصية فنية في العالم كان لها أثر مدوٍ في الألم النفسي وما زال، هو الفنان العالمي فان جوخ الذي ألقى الكثير من الأضواء الكاشفة على أزماته النفسية وحساسيته الإنسانية في أحد فصول كتابه ولعله يكون أكثرها إثارة وإيثارًا.
ومثل هذا الكتاب لا يمكن أن يلخص أو يُختزل، لأن نماذج هؤلاء الذين أصيبوا بهذه الضربات القدرية يختلف التفصيل في كل حالة منها عن غيرها، وبالتالي لا يمكن أن نتخذ من فرجينيا وولف أنموذجًا لغيرها من الحالات، لأن كل حالة لها ظرفها الخاص وأسبابها التي تفصلها وتفرق بينها وبين غيرها من الحالات، وإذا كان هناك ما يمكن أن يكون قاسمًا مشتركًا بين كل هؤلاء الرجال، فهو تلك الحساسية الشديدة المرهفة التي تجعل رفة الهواء تطرف نفس صاحبها كزئير الريح عند الرجل العادي.