عبقري المصريات وأسرار إعادة اكتشاف الآثار

المصريون اعتادوا أن ينتظروا مع كل اكتشاف أثري الدكتور زاهى حواس مرتدياً قبعته الأميركية المميزة ليحدثهم عن تفاصيل هذا الاكتشاف.
الخبرة العملية الطويلة، وسعة الاطلاع، والقدرات الإدارية والدبلوماسية والإعلامية هي من أسرار نجاح حواس وتفرده
حواس كان ينتوى دراسة الحقوق ليصبح محامياً، وهالته أحجام الكتب الضخمة التي سوف يقبل على دراستها

لدَى كل اكتشاف أثرى حديث .. يعاود عالِم الآثار زاهي حواس الظهور على الساحة، وحقَّ له أن يعود. بل هو لم يغِب أبداً عن دائرة الفعل والتأثير فى حقل الآثار قط.
المصريون اعتادوا أن ينتظروا مع كل اكتشاف أثري الدكتور زاهى مرتدياً قبعته الأميركية المميزة ليحدثهم عن تفاصيل هذا الاكتشاف بطريقته الحماسية العفوية الممتعة. 
لقد صار رمزاً حقيقياً مؤثراً في علم الآثار المصري، تاركاً بصمة علمية لا شك أنها ستظل تؤثر في أجيال تالية من دارسي وباحثي علم المصريات في مصر وخارجها.
ليس لدينا كثيرون مثله.
الخبرة العملية الطويلة، وسعة الاطلاع، والقدرات الإدارية والدبلوماسية والإعلامية .. هي من أسرار نجاحه وتفرده. 
وكعادةِ أي ناجح، تعرَّض زاهي حواس لعدّة حملات تشويه لم يكترث لها، وواصلَ عطاءَه في دأب خلال السنوات الماضية، كأنه كان ينتظر أن يتفرغ لمنجزاته الأثرية والعلمية في مسيرته التي ما زالت تثمر وتنبض بالعطاء الفياض.
رحلة البحث عن المجد
بالصدفة البحتة بدأ كل شيء في حياة زاهي حواس.
كان ينتوى دراسة الحقوق ليصبح محامياً، وهالته أحجام الكتب الضخمة التي سوف يقبل على دراستها، فقرر تغيير مجال دراسته. والمصادفة هي التي قادته لدراسة مجال الآثار في كلية الآداب. وكان مجالاً بِكراً جديداً في ذلك الحين.
ترَبَّى لديه الشغف بعلوم المصريات بمرور الزمن حتى غرق في أسراره. ما يعني أنه اكتشف عشقه المفقود وطريقه الذي اختاره لنفسه اكتشافاً. فكانت رحلة اكتشاف الذات هي رحلته الأولى قبل رحلاته الأخرى التي دامت وتعددت.
ويبدو أن عمله في الحفريات الذي امتد لأربعة عقود كاملة علَّمه كيف يحفر بعمق وبإصرار، حتى في حياته العملية. فهو لم يكتف بعمله الروتيني كمفتش للآثار، وإنما واصل دراساته وأبحاثه في مصر وأميركا، فنال زمالة فولبرايت في المصريات في فيلادلفيا، ثم الدكتوراه في الفن والآثار في أواخر الثمانينيات. كما لم يكتف بكونه أمين عام المجلس الأعلى للآثار، ولا بتوليه منصب نائب وزير الثقافة، لكنه كلَّل مسيرته المهنية بارتقائه كرسي وزارة الآثار قبل أن يحال إلى التقاعد.
غير أنه استمر على نشاطه ودأبه بعد الستين، بل ضاعف من نشاطه لنكتشف أنه بات نجماً في عدة أفلام علمية بأرقى القنوات العالمية المتخصصة، إذ شارك في تقديم عدة حلقات من البرنامج التليفزيوني الأميركي: "Digging for the Truth"، وفي برنامج: "Chasing Mummies" على قناة التاريخ: "History channel". بالإضافة لعدة عروض تقديمية في قنوات ديسكفري وناشيونال جيوجرافيك العالميتين. 
 وفي عام 2006 اختارته مجلة التايم كواحد من بين أهم مائة شخصية مؤثرة في العالم. 
ولا يزال شغفه واهتمامه بالاكتشافات الأثرية الحديثة في تنامٍ وازدياد. حيث شارك مؤخراً في الإعلان عن مكتشَفات وادي الملوك، التي تنبأ بها منذ مطلع الألفية الجديدة في نهاية كتابه الشهير: "الفرعون الذهبي".
إعادة اكتشاف توت عنخ آمون
كان هذا العنوان الأخير في كتاب زاهي حواس الأشهر: "الملك الذهبي - عالم توت عنخ آمون" الصادر عن مكتبة الأسرة عام 2009، وقد حوَى بين دفتيه قصة أعظم اكتشاف أثري في القرن العشرين، والذي فتح الباب واسعاً لمزيد من الاكتشافات الأخرى ومزيد من الفهم لأسرار التاريخ المصري الفرعوني. 

zahi
محاولات دراسة مومياء الفرعون الذهبي بالأشعة المقطعية

وبالرغم من الحجم المتوسط للكتاب، إلا أنه ضم عدداً هائلاً من المعلومات الشيقة المزودة بصور بعضها كان يُنشَر للمرة الأولى عن قطع أثرية مخبأة في مخازن المتحف المصري لم تُعرَض للزائرين من قبل.
إنها قصة الفرعون الذهبي كاملة، بعد أن تتابعَت الاكتشافات الأثرية وتوالَت الدراسات العلمية المتخصصة، حتى اكتملت قصة الفرعون أو كادت.
غير أن التطور التقني المذهل أغرى الأثريين لاستخدام طرق جديدة لإعادة فهم أسرار الحياة والموت عند ملوك الفراعنة، وخاصةً الملك الذهبي الصغير "توت عنخ آمون" الذي تحوم حوله وحول عصره الغوامض والتكهنات والأسرار التي لا يزال هناك خِلاف حولها حتى اليوم.
شاركَ زاهي حواس في محاولات دراسة مومياء الفرعون الذهبي بالأشعة المقطعية، لكنه رفض تقنية فحص الحمض النووى "DNA" واعتبرها غير مجدية في اكتشاف جديد، أو ربما كان متخوفاً من إساءة استخدام هذا النوع من الأبحاث أو التوسع فيه.
لم يكن هذا هو كتابه الوحيد، ولا كتابه الأهم، لكنه كان الأول والأشهر.
بعد ذلك قام بإصدار عدة مؤلفات، خاصةً بعد أن ترك له التفرغ مساحة وقتية استطاع ملئها بتسجيل حصيلته العملية الطويلة، هكذا صدر له كتاب "40 سنة حفائر" الصادر عن الدار المصرية اللبنانية، وهي الدار التي ساهمت قبل ذلك في إصدار كتابه الأول: "الملك الذهبي".
وفي مقدمة هذا الكتاب الأخير يكشف لنا زاهي حواس عما يعتبره الكتاب الأهم له وهو كتاب: "Valley of the Golden Mummies" الذي أصدره في أميركا بتشجيع من الناشر الأميركي الجامعى: مارك لينز. 
في كتاب 40 سنة حفائر الممتع إعادة اكتشاف من نوع آخر، حيث نكتشف "زاهي حواس آخر" غير الذي عرفناه سابقاً.
إعادة اكتشاف زاهي حواس 
من أهم مميزات شخصية الدكتور زاهي حواس  البساطة والتلقائية سواءً في لقاءاته أو في كتاباته التي لا تقل إمتاعاً عن إطلالته الإعلامية. إنه نموذج متكامل للمرشد الأثري الفذ. وهو ما أثبته لدَى مرافقته للرئيس أوباما في 2009 عند زيارته التاريخية لمصر.
تلك البساطة نلحظها في مقدمة كتاب 40 سنة حفائر، التي أطال فيها الحديث عن فريق عمله الذي رافقه في حياته العملية والبحثية. لنكتشف الجانب الإنساني لدى د. حواس، وهو لا يقل تميزاً عن جوانب تفوقه ونجاحه الأخرى.
حدثَنا في هذه المقدمة عن عدد المرات التي تم تكريمه فيها سواء في مصر أو خارجها. وحصوله على وسام الجمهورية من الطبقة الأولى. إلا أن المثير للدهشة أنه اعتبر تكريمه الأعظم هو التكريم الذي ناله من أهل قريته بدمياط، وكيف أنه غالبَ دموعَه خلال احتفاء مدرسته القديمة وحوله أقاربه ومعارفه وأهل قريته به!
لقد أحاطت زاهي حواس دائماً اتهامات بالأنانية وحب الظهور الإعلامي، وهي اتهامات لم يسلَم منها أي باحث أثري حقيقي منذ هيوارد كارتر حتى اليوم . 
إننا فى حاجة إلى ألف أثري وعالم مصريات مثل زاهي حواس، خاصةً في قدرته على الدعاية لآثار مصر بطريقة شيقة. وهو الأمر الذي نفتقده في علماء الآثار وغيرهم من العلماء الذين يتجاهلون دور الإعلام لإبراز جهودهم البحثية، وهو الأمر الذي فطن له زاهي حواس واهتم به.
في أكثر من مناسبة اهتم زاهي حواس بالضغط على كلماته عندما يتحدث عن ضرورة وجود علماء مصريات يفوقون الأجانب كفاءةً وقدرة. وأن تلك هي الضمانة الوحيدة لاسترجاع آثارنا المنهوبة، والحفاظ على ما تبقى منها لدينا.