عزمي عبدالوهاب يطل على وجوه تطل من مرايا الروح

الشاعر المصري يرى أن كتب السيرة الذاتية تمثل حياة أخرى لم يعشها القارىء، بل هو يتفرج عليها.
الكاتب مغرم بالتفاصيل الصغيرة، التي يسكنها الشيطان
نحافة شيخ التربويين حامد عمار كانت عاملا نفسيا مؤثرا بحث عن حل له في لندن

منح الشاعر المصري عزمي عبدالوهاب كتابه الجديد "وجوه تطل من مرايا الروح" عنوانا مراوغا، فقد يظنه من يقرأ الكتاب من عنوانه ديوان شعر، لكنه إن فض الغلاف وقرأ ستواجهه مقاربات لأكثر من ثلاثين سيرة ذاتية عربية كتبها مفكرون وأدباء ونقاد، والكاتب الذي يستدعي وجوها من ذاكرته لتطل من مرايا روحه متحدثة عن نفسها، لم يفتش في سيرهم مثلا عن مواجهة التابوهات بأنواعها خاصة بالنسبة لسير الكاتبات، لم يكن يعنيه ذلك فهدفه كان تقصي روح الإنسان في تجربته وكيف عبر عنها بقلمه. 
وهو يرى أن كتب السيرة الذاتية تمثل حياة أخرى لم يعشها القارىء، بل هو يتفرج عليها. فهو كما قال في المقدمة "مغرم بالتفاصيل الصغيرة، التي يسكنها الشيطان، فقد كان همي أن أبحث عن الجانب الخفي في حياة هؤلاء الكبار، وقد سجلوه بأنفسهم، كأن يتحدث العالم عبدالعظيم أنيس عن تخلفه الدراسي ورسوبه في الابتدائية، ومعايرة زملائه الصغار لعيب خلقي في فمه، أو نرى كيف كانت نحافة شيخ التربويين حامد عمار عاملا نفسيا مؤثرا بحث عن حل له في لندن". 
وهكذا تمضي فصول الكتاب، الذي يواصل كاتبه المراوغة فيكتب تحت عنوان "أنا واحد من هؤلاء" معلنا انتسابه إلى من أحبهم واختار أن يحدثنا عنهم، وهو في المقال يتماس مع سيرته الذاتية التي يومىء إليها بمقارباته لسير الآخرين الذين أحبهم وتبع خطاهم وتركوا أثرا على روحه.
يقول: ”1964 سنة كبيسة فعلا، فمواليد هذا العام تفتحت أعينهم، بعد ثلاث سنوات من صرختهم الأولى، على صرخة وطن، بقيت منه في الذاكرة النوافذ المدهونة بالأزرق، تلاه مشهد رمزي بعد ثلاث سنوات أيضا، لتابوت يحمله طلاب المدارس، يلفون به شوارع القرية، أنا واحد من هؤلاء، الذين رأوا نعش عبدالناصر الرمزي، وصوره والأعلام الكبيرة، تمر من أمام البيوت".
حرق المراحل
ينقسم الكتاب داخليا إلى ستة فصول يضم كل منها مقاربة لأكثر من سيرة يلتمس الكاتب خيطا واصلا بينها يجعل منه عنوانا للفصل، فسير الشعراء مثلا يجعل عنوان الفصل الذي يضمها "شعراء الحزن والموت المقيم" بينما الفصل الأخير وعنوانه "نساء في وجه العاصفة"، يضم أسماء مثل لطيفة الزيات، وفدوى طوقان، وفاطمة المرنيسي.  

وجوه
عزمي عبدالوهاب

لم يختلف إلا في الفصل الأول "داخل سياق ما" حيث يعرض تحت عنوان "الماركسي الصغير" لسيرة شخص غير مشهور وهو الوحيد الذي لم يذكر اسمه ولم يكتب سيرته، تولى الكاتب عنه كتابتها ذاكرا أنه أحد معارفه، وأنه "ضرب رقما قياسيا في حرق المراحل، فقد انتمى إلى جماعة الإخوان قبل أن يصير ماركسيا، فقاطع الأصدقاء القدامى وأعلن عن انتمائه الجديد بأن كتب على باب غرفته: يا عمال العالم اتحدوا. وفي الداخل حملت الجدران صورا لكارل ماركس وأنجلز ولينين وجيفارا، لكنه لما سافر إلى باريس تحول وصار بوذيا، وعاد إلى القاهرة ليطبع كتب "كريشنا مورتي" لكنه سرعان ما واصل عادته في التحولات "عاد صاحبي سلفيا، وبنى زاوية تحت بيت أبيه، واستقدم لأجلها مقيم شعائر، من أصدقاء مرحلة الجلباب الأبيض القصير، وانقطعت بيننا السبل"، هذا الشخص المجهول يثبت الكاتب سيرته ليكون مقابلا  أو نقيضا لأصحاب السير الذين قبضوا على نار قضاياهم، فكان نصيب الشعراء الحزن والموت، والنساء واجهتهن العواصف، بينما عاش المفكرون "سنوات المصادرة والسجن والدم"، فربما الثمن الفادح الذي دفعوه كان السبب في  حدوث التحولات المتعاقبة لذلك الماركسي الصغير.
سيرة شخصية
هكذا يبدو أن عزمي عبدالوهاب أومأ إلى سيرته الشخصية عبر تناوله ذي المنحى الذاتي للسير المشار إليها، تماما كما قال عن سيرة الشاعر قاسم حداد، فقد كتب على غلاف كتابه "سيرة شخصية لمدينة المحرق" والحقيقة أن حداد حين يكتب عن المكان يكتب عن نفسه، فهو أيضاً، لمن يعرفه "أشبه بمدينة الأبواب المفتوحة دائما، وكأن تلك المدينة كانت اقتراح المستقبل الإنساني بالنسبة لأجيالنا"، هكذا يؤكد قاسم حداد، فطوال رحلة الحياة من الطفولة إلى الكهولة لن يرى حدوداً فاصلة بين داره وعائلته، وبين الدور والعائلات الأخرى، أليس نص حداد الشعري ذاته هو نص الأبواب المفتوحة على الطفولة والعالم بكل تقاطعاته؟
كذلك صلاح عبدالصبور لم يكتب سيرته الذاتية، لكنه يكتب سيرة عقل وقلب، حاول بهما أن يفهم نفسه أولاً، ومن ثم العالم والشعر، وها هو يبدأ بمقولة سقراط اعرف نفسك، ويرى أن تلك الجملة حولت مسار الإنسانية إذ سعى هذا الفيلسوف إلى تفتيت الذرة الكونية المسماة بالإنسان، والتي يتكون من تناغم آحادها ما نسميه بالمجتمع، ومن حركتها ما نطلق عليه اسم التاريخ، ومن لحظات نشوتها ما نعرفه بالفن.
لذلك يواجه عبدالصبور نفسه بمقولات النقاد حوله بأنه شاعر حزين، فيقول "لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني، ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شللي، شهوة لإصلاح العالم، إن شهوة إصلاح العالم هي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلا منهم يرى النقص، فلا يحاول أن يخدع عنه نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه".
ممارسة الوقاحة
من الشائع أن لويس عوض كتب السيرة الأجرأ في تاريخ العرب، لكن عزمي عبدالوهاب يرى أن سيرة الدكتور شكري عياد التي قدمها في كتابه "العيش على الحافة" هي الأجرأ، هي الأجدر باللقب، فهو يفتتحها بالسؤال: لماذا أكتب قصة حياة هذا الإنسان؟ ويجيب: لقد ظل السؤال يلحّ علىّ، حتى بعد أن قطعت في مشروع الكتابة ذاته شوطاً غير قصير. ويضيف "دعك من تصديق القراء أو تكذيبهم، ما الصورة التي تريد أن تعطيها لنفسك؟"، فلا الكذب وحده ولا الصدق وحده، ولا أي مزيج منهما يمكن أن يجعل لهذه الصورة قيمة تستحق تسويد الصفحات وإضاعة وقت القراء، لا بد أن يكون للأصل ذاته قيمة، وكان عياد يرى أن الكتابة مسألة وقاحة، ظل شكري عياد متردداً كثيراً أمام فعل الكتابة إلى أن يقتنع بأنه يريد أن يتحدث مع القارئ حديثاً حميماً، وكما يقول: "أريد أن أنفض حياتي أمامك، وأنا أول من يعرف أنها حياة تافهة، لعلي أحاول أن أجعل منها شيئاً مهماً بالكتابة، أهذا هو السبب في السؤال الذي يطل برأسه في رأسي كلما حاولت أن أمسك بالقلم لأدخل في مشروع الكتابة من جديد؟". (وكالة الصحافة العربية)