عهد كمال شلغين يستجوب 'الهوية العربية'

الباحث الحاصل على الدكتورة في الفلسفة اختصاص الفكر العربي المعاصر يطرح في كتابه اسئلة حارقة عن ازمة الهوية ويرى ان على المثقفين العرب أن يحافظوا على ذاكرتهم ويتصدوا بشجاعة لقضايا اللحظة.

هل نجح المفكرون العرب في إظهار العمق الحقيقي لأزمة الهوية التي يعاني منها المواطن العربي جراء ما يواجه من تعقدات على مستوى الواقع المعيش؟ أم أنهم هم أنفسهم في حلهم لهذه المشكلة قد صدروا أساسا عن هويات مسبقة ينتمون إليها وقرؤوا الواقع المأساوي للهوية العربية عامة في ضوء هوياتهم الخاصة؟ وبذلك هل هم قد وفقوا بالفعل في اجتراح رؤى ذات طابع كلي تتجاوز حالاتهم المشخصة؟.. تساؤلات يطرحها الباحث السوري د.عهد كمال شلغين الحاصل على الدكتورة في الفلسفة اختصاص الفكر العربي المعاصر، وذلك في كتابه "الهوية العربية صراع فكري وأزمة واقع". 

يدرس شلغين ويحلل أشكال الانتماء الواقعية والمعبرة عن الهوية، متوقفا عند الهويات التي لازالت فاعلة في وعي الانتماء كالهويات: القبلية، الدينية، الإقليمية، القومية. مؤكدا أن مشكلة عربية راهنة يعيشها العرب في واقعهم المعيش، وفي وعيهم وسلوكهم وخطابهم السياسي والإيديولوجي والفلسفي، فسؤال الهوية العربية مازال حاضرا في الوعي العربي وبشكل أزمة حقيقية، ولأن هذه الدراسة تطمح أن توضح لنا واقع العرب في معالجتهم لقضاياهم المصيرية، كان عليها أن تبحث في صورة الوعي العربي المتمثل في مجموعة أيديولوجيات مازالت فاعلة في أي خطاب عربي عن الهوية، خصوصا مع ظهور مفاهيم عالمية تحاول طمس الهويات والقضاء على القوميات. وأيضا العمل على الوصول إلى رؤية مستقبلية لمسألة الهوية، ومصيرها أمام مفاهيم عالمية جديدة تهدد الهويات بالاجتثاث والتدمير.

يرى شلغين في كتابه الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب أن بين ظهرانيينا الآن منازع شتى لجماعات بشرية كل واحدة منها تسعى بكل قوة للحصول على هوية خاص مزعومة للنكر للهويات الأخرى؛ بل تهدف إلى إلغائا وتهميشها. فالأزمة السياسية التارخية الآن، والتي يعانيها كل فرد منا تقودنا إلى الإحباط الشديد وإلى اليأس وفقدان الثقة بالأنا قبل الآخر وبالذات قبل الموضوغ، فهذه الأزمة عينها أثبتت لنا أن ثقافة الهوية في مجتمعنا عي ثقافة السيف والرأس المقطوع؛ أي ثقافة جماعية غالبة من البشر، ينضمون تحت لواء مذهب أو طائفة أو عرق أو عقيدة، ويتلبسون كل ذلك بوصه هويتهم، وانطلاقا منها يحددون معنى وجود من يغايرهم وقد يكون هذا التحديد إما بالقتل أو الطاعة أو التبعية أو باللامبالاة وهذا في مجمله سيان لأنه لا يوجد اعتراف حقيقي من قبل أبناء أية هوية مزعومة بوجود حقيقي لهوية أخرى تغايرها.

ويؤكد إن واقع الحال يظهر لنا خطابات متنوعة إلى حال التناقض، وكلها تروم إيجاد حل لمشكلة الانتماءوكلها يدعي الصدقية المطلقة بامتلاك الحقيقة المطلقة. ومن هنا صار الإنسان العربي حائرا بائرا لا يدري إلى أية هوية ينتمي، فالكثرة الكاثرة من الهويات طغت عليه، فلم يعد بوسعه من حيث إثبات ذاته إلا أن ينغلق على نفسه ويعود إلى انتمائه الخاص، فمشكلة إيجاد هوية كلية، أفضت نظرا لتعدد الخطابات الفكرية التي تزعم البحث عنها من أجل إعادة صياغتها وتشكيلها إلى بذر نوى لهويات منبثقة خطأ عن مشكلة إيجاد هذه الهوية الكلية نظرا للتناقض في الأسس النظرية التي قامت عليها محاولات المفكرية العرب المعاصرين. فأية هوية يمكن أن تسود وأي خطاب يمكن أن يسيطر وأية عقيدة يمكن لها أن تحكم العقول في عالم عربي يحكمه التمزق؟.

ويشير شلغين إلى أن الهوية تشكل مجموعة من الخصائص التاريخية واللغوية والنفسية التي تفصل بين جماعة وأخرى؛ الأمر الذي يجعلها تخرج من إطار الثبات، فهي نتاج حركة متعاقبة لجملة من الشروط التي تفرض على كل مرحلة مجموعة من التحولات النوعية في المجتمعات البشرية، وتؤدي إلى حدوث نوع من عدم التوازن والاستقرار بين القديم الموروث والجديد الذي يسعى لتعيين وجوده، ولكي نعي هذا التغيير والتطور لابد من وعي الخلفية التاريخية التي ولدت هذا التغير، والعوامل التي أسهمت في حدوثه. وأما نحن العرب فكثيرة هي الأحداث التي توالت على منطقتنا وغيرت مسار التاريخ العربي، فمن دولة الخلافة التي انتهت برحيل العباسيين وما رافقها من صراع على السلطة بين الممالك المحلية، إلى مرحلة جديدة بدأت بالتدخل الأجنبي الذي عمل على فرض وجوده عسكريا مستغلا حالة العرب في تلك الحقبة، فالعرب لم يكنوا قد استوعبوا بعد التغير الكبير المتجسد في انهيار دولة الخلافة التي استمرت قرونا عديدة، ليجدوا أنفسهم أمام واقع جديد تمثل بالتبعية للآخر، رافقها حالة من الضعف الثقافي، إذ أن المنطقة العربية عموما أصبحت خاضعة لسيطرة الحكم العثماني الذي استمر مدة طويلة، بنتقل العرب بذلك من مرحلة الخلفاء إلى مرحلة السلاطين، مع وجود رابط مشترك بين المرحلتين تجسد في العامل الديني الذي لعب دورا كبيرا في استمرار الحكم العثماني مدة طويلة، إلى حين ظهور قوى عالمية جديدة تسعى لفرض هيمنتها على الآخرين، ترافق ظهورها مع ضعف الحكم العثماني، لتبدأ مرحلة جديدة من الهيمنة تمثلت بالغرب الذي بدأ زحفا برتغاليا، ثم احتلالا بريطانيا فرنسيا، للمنطقة العربية، ولكن هذه المرة من دون وجود أي رابط بين كلا الطرفين، سواء كان رابطا ثقافيا أم حضاريا أو حتى دينيا.

ويقول شلغين أن مستقبل الهوية العربية اليوم يتوقف على مدى وعي العرب لمشكلتهم وذاتهم وقدرتهم على بناءهويتهم وتجديده بشكل متكامل، لتكون قادرة على النهوض بالأمة وتعزيز مشاعر الانتماء لدى الإنسان العربي. ويمكن أن تتبلور في ثلاثة عناصر رئيسة ننافح عن عروبتنا بعناصرها الثلاثة الوطن والأمة والدولة؛ "الوطن بوصفه الأرض والأسلاف، أو الجغرافيا والتاريخ وقد أصبحا كيانا روحيا واحد، يعمر قلب كل مواطن، الجغرافيا وقد أصبحت معطى تاريخيا والتاريخ وقد صار موقفا جغرافيا". فهذه اللحمة بين تاريخ المنطقة العربية وبين جغرافيتها له مد روحي في نفس كل مواطن عربي يؤمن بعروبته وانتمائه إليها. و"الدولة بوصفها التجسيد القانوني لوحدة الوطن والأمة، والجهاز الساهر على سلامتها ووحدتها وحماية مصالحها وتمثيلها إزاء الدول الأخرى"، فالدولة تعني السيادة والاستقلال وبهذا المفهوم تتحقق الحرية، وبذلك يمكن أن يكون شعور الإنسان العربي بهويته وانتماؤه إلى الدولة الواحدة هو عامل قوة وظهور في العالم، فالسيادة هي أبرز سمات هوية الدول لأن الدولة كمعطى حضاري هي  تعبير عن فئة أو شعب ما.

ويلفت إلى إن المصالح العربية لا تزال في حيز الفكرة، ولم تتحقق بعد على أرض الواقع، ولعل العامل والعائق الأساس في عدم تحققها يعود إلى أن النظام السياسي الحاكم في هذه الأقطار، بالإضافة إلى الضغوط الخارجية التي يتعرض لها العرب، إذ إن المنطقة العربية قد تعرضت لضغوط خارجية، أميركية وأوروبية بالدرجة الأولى في سبيل ثنيها عن مشاريع التكتل والتكامل والاتحاد، بل عن التعاون الاقتصادي الجاد والمتميز، وقد أسهم وجود الاحتياطات النفطية الكبرى والرخيصة والوفيرة معا، كما أسهم التعاطف الغربي مع إسرائيل، والموقع الجيوسياسي المتميز للعالم العربي بين القارات الثلاث، في تعميق هذه الضغوط وتنويع التدخلات الخارجية للتحكم في مصير المنطقة ككل، ومنعها من الخروج من تحت السيطرة الغربية، وقد كان لهذه التدخلات دور كبير في تحطيم آمال العرب الوحدوية، وتقييد حركتها وإحكام السيطرة عليها.

ويخلص شلغين إلى أن هناك قوى عاتية اليوم تحاول جاهدة أن تلعب بالذاكرة من خلال عبثها بحقائق الجغرافية والتاريخ والأحلام والآمال والثوابت، وكل مواجهة لا تنطلق من ذاكرة وجغرافيا وتاريخ وأحلال وثوابت.. ستكون مشوهة وزائفة.. ويكفيها زيفا أنها لا تدرك من أين وإلى أين تسير. ونقطة البداية في هذه المواجهة هي أن يحافظ المثقفون العرب على ذاكرتهم، وأن يتصدوا بشجاعة لقضايا اللحظة، إذ إن هناك قضايا رئيسة ملحة مطلوب معالجتها بوضح ومباشرة، تأتي في المقدمة قضايا التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومواضيع الحرية، بما في ذلك حرية الاعتقاد وقبول الرأي الآخر والسيادة والاستقلال، والقضية الأبرز اليوم هي الصراع العربي الإسرائيلي على ضوء الحقائق الجديدة التي نتجت عن تفرد الولايات المتحدة الأمريكية بالهيمنة على القرار الدولي، وتوقيع حكومات عربية عديدة على معادات سلام مع إسرائيل، وقيام أخرى بإقامة علاقات سياسية واقتصادية مع هذا الكيان. كل هذا الأحداث والمسائل التي مازالت عالقة هي ذات مباشرة بمشكلة الهوية العربية، وإن التصدي لكل هذه القضايا أمر في غاية الأهمية إذا أرادت الأمة أن تحافظ على وجودها وتشكل وعيها بهويتها، وتواصل مسيرتها بجدارة واستحقاق، والحل، ربما يكون ويتم بتفكيك الواقع العربي ومعالجته وإعادة تركيبه بعقل مفتوح وآذان واعية.