'غربة الشيح' تطرق أبواب الهوية وثقافة الرفض

رواية السعودي عمرو العامري تحكي عن الهجرة إلى الخارج بحثاً عن الرزق بعيداً عن الموطن والأهل، وتتفرد بطرح موضوع شائك تفادته الرواية السعودية طويلا.

أثناء القراءة في عتبة عنوان رواية "غربة الشيح" للروائي السعودي عمرو العامري قد يسأل القارئ عن المعنى لكلمة "الشيح" وخاصة عندما لا يملك القارئ معلومات كافية عن مسميات النبات، فيلجأ إلى البحث عن المعنى كما لجأت وبحثت، فعرفت أنه نبات جبلي عطري يتزين به الرجال والنساء ويضعونه على رؤوسهم، وهذا بمثابة تتويجاً للجمال على الرؤوس فكل جميل يحتفي به على الرأس وحتى في الأقوال الشائعة في الحياة يقال للشخص على رأسي دليل على الاعتزاز والافتخار.

والنبتة نبتة "الشيح" يعشقها الإنسان الجبلي كما يعشق أرضه وأغنامه، فهو يتناغم مع الحياة وينسجم معه برغم تحولات الحياة وقسوته. فذاكرة الإنسان الجنوبي المنحدر من أعالي الجبال مثخنة بالأحداث الجسام وبالأساطير البطولية ولذلك نجد حياته حب، وعشق، ومغامرة من أجل اكتشاف الحياة. فقد شهدت حياة الإنسان المنحدر من جنوب المملكة منذ عقود هجرة داخلية إلى الحجاز وفي بعض الأوقات إلى نجد وقد عالج الكاتب عبده خال قضية الهجرة الداخلية في روايته "مدن تأكل العشب" وكذلك بعض الروايات السعودية ومنها رواية "جنوب جدة شرق الموسّم"  لعمرو العامري عالجت قضية الهجرة الداخيلة وأيضاً متابعة أحداث الحرب الدائرة في اليمن الشمالي وقتئذ بين النظام الملكي والنظام الجمهوري في نهاية خمسينيات القرن العشرين. فرواية "غربة الشيح" تحكي عن الهجرة ولكن هذه المرة الهجرة إلى خارج الوطن السعودي بحثاً عن الرزق بعيداً عن الموطن والأهل.

فطالع الشخصية الرئيسية في رواية "غربة الشيح" وهو الشيح نفسه أي النبات المعطر الذي هاجر خارج حدود بيئته الجبلية فبللته أمواج البحار مبحراً من جيزان إلى مصوع في اتيريا ومن ثم إلى بربرة في الصومال، وأيضاً إلى عدن  في الجنوب العربي في زمن الاحتلال البريطاني.

ويرسم لنا الكاتب خريطة جغرافية متقاربة بين المدن التي تقع على البحر الأحمر والعلاقة الإنسانية بين سكان تلك البلدان برغم أختلاف العراق، وأختلاف اللغات، والمعتقدات الدينية، فنجد أن الهجرة والبحث عن لقمة العيش في تلك البلدان البحرية هي التي توحد الناس برغم تنوع الثقافات وأختلافها. فثقافة سكان تلك البلدان تتشكل في التجارة عبر البحر والتي تصقل شخصية الإنسان وتعلمه التعايش والتكيف مع ثقافات تختلف عن ثقافته وهويته. فطالع شخصية جبلية عاشت في أعالي الجبال في جنوب المملكة العربية السعودية في القرن العشرين.

وبعد أن بدأ طالع الجبلي يحث الخطى نحو الجبال ورعي الأغنام في الأودية مع أقرانه تصدمه الحياة بموت والده مبكراً وأصبح طالع يتيماً تراعاه أمه وبعد أن شب عن طوقه قرر طالع الرحيل مع تذمر أمه شمعة من هذا القرار خوفاً عليه من تلقبات الحياة، ولكن الفتى طالع نبذ الخوف من قلبه وقد حمل في قلبه العتب والحنق على أمه التي أتخذت قرارها بالزواج من شخص له نفوذه الديني في القرية والتي وأصبحت الزوجة الثانية لهذا الرجل بعد أن غادر طالع إلى صبيا.

استقر طالع في صبيا لأيام معدودات، ولكن حنينه وأفقه وحلمه أبعد إلى أوطان وموانئ أخرى. فسمع عن الحياة الكبيرة خارج وطنه الذي ضاق به فرسم له خريطة في قلبه فوجد قلبه يقوده إلى مرافئ وموانئ ومدن خارج وطنه تعج ببشر مختلفي الأوطان والثقافات. فأبحر طالع ومعه حلمه بالتجارة متجهًا إلى موانئ القرن الإفريقي فحطت به أقدامه في مرسى فاطمة في ارتيريا وشاهد لمسات الطليان على جدران بيوتها، وكذلك الشوارع المنظمة، ورأى الانفتاح فقابل في رحلته العرب وغير العرب وبعدها  وبلا موعد تقذف به الحياة إلى بربرة في الصومال ويتعرف على "عنبرو" زينب الصومالية التي كانت تعيش وحيده في بربرة منتظره من ينقلها إلى أخيها الذي يعيش في عدن المدينة التي كانت حلم الكثير للعيش فيها. مرة أخرى الأقدار تسوق طالع  للرحيل إلى مدينة عدن ويترك زينب وبربرة خلفه وفي عدن طاب له المقام وتعرف على التجار والتقى بشخصيات متعددة ومنهم التاجر الباعلوي الذي كان له الأخ، والصديق، والأب والذي قاده إلى التجارة ومعرفة عدن التي عاش فيها السنوات الأخيرة قبل رحيل بريطانيا. فشاهد في عدن الحركة التجارية وهي تبدو غريبة عليه، ولكن هناك من هم أقدم منه في المدينة معرفة بأحوالها السياسية والاقتصادية وقد نصحوه بالرحيل إلى جدة لأن الحياة في عدن بدأت تتغير للأسوأ وبدأت الجاليات ترحل بعد رفع شعارات الثورة ضد المستعمر البريطاني.

وفي شوارع المعلا وفي أحد المطاعم قابل بالصدفة زينب الصومالية تعمل في مطعم فقرر أن يتزوج بها وبعد الزواج عاشا فترة في عدن وأنجبا البنات، وبعد حياة غير مستقرة رحل إلى الحجاز بعد رحيل معلمه الباعلوي الذي سبقه إلى الحجاز والذي علمه الحياة التجارية في عدن وعمل معه فيما بعد في جدة وكون طالع له تجارة، وبعد عقود من تجارته وغيابه عن أمه شمعة اضطر طالع إلى زيارتها في منطقتهم في الجنوب للبحث عن هويته لكي يحصل على التابعية السعودية وهذا لم يتم إلا بشهود ومنهم شيخ منطقته الموظف من قبل الدولة. فكانت الصدمة الأولى النكران له ولم يشهد أولاد عمه وتنكروا له وهذا التنكر له أسبابه لأنهم استولوا على أرضه وكان يقلقهم عودته بعد ثلاثة عقود،  وكانوا يعتقدون أنه عاد إلا لكي  يسترجع أرضه.. وبعد الواسطات منحت له الجنسية وعاد إلى جدة إلى زوجته زينب الصومالية وأخبرها بالتطورات وفي قلبه غصة لم يخبر زوجته بهذه الغصة وهي عدم قبوله من قبل جماعته في جدة والبعض يتحاشى مقابلته لأنه تزوج "عبدة". وكتم هذا الوجع في جوفه وبعد مشاكل أسرية في المدنية الكبيرة جدة التي لم تمنح لزوجته الهوية السعودية، فأخذ زوجته وباع كل ما يملك في جدة ورحل إلى الجبال التي يعرفها وتعرفه وقرر أن يعيش هو وأسرته بين أهله وقومه. 

"وعندما وصل وأقبلت العشيرة للترحيب به من كل مكان شعر بالسعادة والاطمئنان، ولو لا صوت نشاز وضحكة مكتومة قالها أحدهم من خلف الصفوف ولم يعرف أن طالعًا سمعها.

-وصل زوج الجارية وبناته.

والتفت طالع نحو الصوت والذي كان قد اختفى وعرف أن غربته ابتدأت الآن".

بهذا المشهد الأخير من الرواية تنتهي أحداثها، وقد تكون  هذه الأحداث مستمرة إلى اليوم في هذه الحياة، فقد نجد أسر وعوائل فقدت الهوية ومازالوا يبحثون عنها في ركام الماضي . فبرغم حياة طالع المتعددة وهجرته لأوطان أخرى واكتسابه لثقافات متعددة وجد أن الثقافة المحلية ترفضه ولاتعترف به ولا بأسرته وقد تسحقه هذه الثقافة كم سحقت الكثير من قبله الذين عاشوا بدون هوية، ودفنوا ولا هوية ولا وطن لهم إلا قبورهم، فموضوع الهوية من أصعب الموضوعات التي لم تتطرق لها الرواية السعودية وبرغم بحثي المستمر في الرواية العربية ومنها السعودية أجد أن هذه رواية تطرح سؤال الهوية، وهو السؤال والموضوع الذي لم تتطرق له الرواية السعودية من قبل.