فاروق حسني يخوض مغامرة إبداع اللوحة دون مخطط مسبق!

قصر عائشة فهمي بالزمالك يحتضن أحدث لوحات فاروق حسني التي أبدعها خلال العامين 2018، 2019.
أمل نصر: لا يزال فاروق حسني  يطلق عوالمه الحرة بإقتدار في انحياز مخلص للغة الشكل
الفنان يقدم في معرضه مشاهده التجريدية بحالتها الهيولية، وعناصرها التي تتخذ طريقها للتشكل دون إلحاح في استكمالها أو غلقها في هيئات محددة سلفًا.
الفنان لم يرسل دعوات خاصة لمسؤول أو صديق لحضور الافتتاح

أعرف فاروق حسني منذ نيف وأربعين عامًا، ولا تزال ذاكرتي تحتفظ بطزاجة اللقاء الأول وتفاصيله الكاملة التي جرت، هنا، في هذا القصر المنيف المطل على النيل بالزمالك في شارع عزيز أباظة الذي كان يحمل من قبل اسم "شارع المعهد السويسري".
 فهنا، في "قصر عائشة فهمي"، وبالتحديد في القاعة الموجودة في الطابق الأرضي من القصر، التقيت بهذا الفنان المصري الشاب الأنيق العائد لتوه من سنوات عمله في باريس مديرًا للمركز الثقافي المصري هناك.
كان في تلك الليلة يحتفل بافتتاح معرض لوحاته في هذه القاعة المطلة على النيل، بعد أن كان يعرضها هناك على ضفاف "السين".
كان المكان غاصًا بالتشكيليين، والنقاد، والإعلاميين الكبار، ونجوم السينما والمسرح، وبعض الساسة، وفي تلك الليلة عرَّفني "فاروق" بشقيقته الصغرى "يسرية"، قائلًا: "سونيا أختي، جاءت من الإسكندرية، هي وزوجها المهندس عوف، ليحضرا افتتاح المعرض".
وفي تلك الليلة تعرفت أيضًا بوالدته التي أدركت على الفور أنها الطاقة الروحية التي تملأ روحه؛ فهي التي آمنت بموهبته كفنان تشكيلي منذ صدر شبابه بعذ أن فقد والده، وهي التي كانت تشتري منه اللوحة بمجرد أن ينتهي منها، لتثبت له أن عمله موضع تقدير الغير، وفي بيتها بحي الأنفوشي بالإسكندرية، وجدت بعض تلك اللوحات صغيرة الحجم التي كان أغلبها في فن "البورتريه"، ورسم الطبيعة السكندرية.
ووالدته التي لم تكن الابتسامة تفارق وجهها ذي الملامح الإنسانية النبيلة، هي التي كانت تحرص على الإعداد للاحتفال بكل مناسبة جميلة تتعلق بابنها الأثير إلى قلبها، وهي التي كانت تعتني بأصدقائه الذين يصبحون - بعد أول لقاء معها - من أعز أصدقائها، وكانت تسأله دائمًا عن أخبارهم، حتى أنه عندما بدأت تتملك منها أمراض الشيخوخة، وكان فاروق وقتها مديرًا للأكاديمية المصرية للفنون في روما، كلمني من إيطاليا، ودعاني للقائه في مطار القاهرة، لنتحرك معًا إلى الإسكندرية لنطمئن عليها، ولكم كانت سعيدة بتلك الزيارة. 

أعود للقاء الأول بفاروق حسني هنا في "قصر عائشة فهمي"، وأستعيد بعض الوجوه التي صافحتها عيناي في معرضه، ومنها: الكاتب المسرحي سعد الدين وهبة، وزوجته الفنانة سميحة أيوب،، والكاتب الروائي محمد جلال الذي كان – آنذاك - مديرًا لتحرير مجلة "الإذاعة والتليفزيون"، والخزَّاف محيى الدين حسين، والفنان التشكيلي أحمد فؤاد سليم الذي كان مديرًا لمجمع الفنون الذي يدير أنشطة قصر عائشة فهمي، والدكتور سمير سرحان وزوجته الكاتبة نهاد جاد، والفنانة ليلى عزت التي كانت مالكة العقار الذي استأجر فاروق حسني شقته القاهرية فيه، في أهدأ مناطق ضاحية المعادي،..،..
واستمرت متابعتي لرحلة فاروق حسني الفنية، كمبدع ومسئول عن العمل الثقافي، لا في مصر وحدها، بل في دول كثيرة، ولمست كيف يختلف أداء هذا الفنان عن كثيرين غيره، وكيف يمتلك القدرة على أن تضع بصمة لا يمكن أن تنمحي عبر السنين من عقل ووجدان من عرفه  ولو مرة واحدة.
ولذلك لم أستغرب هذا المشهد الذي وصفه سفير فرنسا الحالي في مصر بأنه لم يسبق أن حدث في افتتاح معرض قنان تشكيلي في العالم كله؛ فالبشر الذين تم تقدير عددهم بالألوف، توافدوا على قصر عائشة فهمي الذي سكنت قاعاته جميعها أحدث لوحات فاروق حسني التي أبدعها خلال العامين 2018، 2019، والتي يواصل فيها تجربته التي بدأها في الثمانينيات من القرن الفائت، ولاقت إستحسانًا وهي تجربة "الكولاج" أي التصوير المضاف إليه مقاطع من أعمال فنية أو عناصر تدخل في حضن اللوحة ليوصل الفنان معنى يحرص على أن يصل من خلالها إلى جمهوره.
وأستطيع القرل إن فاروق حستي انشغل طويلًا بهذه التجربة قبل أن يُقدِم على تنفيذها. وقد  كنت ألاحظ إعجابه الشديد بواحد من أساتذة فن الكولاج في مصر، وهو الفنان منير كنعان، الذي كان مستشارًا فنيًا لدار "أخبار اليوم" وقد زاملته فيها لسنوات طوال.
 وقد حرص فاروق حسني على أن يقيم معرضًا له في أكاديمية روما عندما كان مديرًا لها. وهناك 18 لوحة "كولاج" في معرض فاروق حسني، من المقاسات المتوسطة والكبيرة، ولعل أهمها هي هذه اللوحة التي أطلق عليه الفنان "تحية إلى بيكاسو"، وقد وظَّف فيها جزءًا من إحدى لوحات "بابلو بيكاسو"، وهي التي لفتت إنتباه السفير الفرنسي في مصر إليها فعبر عن إعجابه الشديد بها. 

fine arts
الفنان بريشته

وهنا تجدر الإشارة إلى أن قوام المعرض 62 لوحة لم تعرض من قبل، يغلب عليها اللون الأثير لفاروق حسني، وهو "الأزرق"، إلى جانب لون آخر يلعب أحيانًا دورًا رئيسًا، وهو "الأوكر"، ويستخدمهما الفنان بدرجة يقوم بتجهيزها بنفسه. 
وهناك لوحتان رسمهما فاروق حسني منذ فترة، وكان يضع إحداهما خلفه في مرسمه، وهي لوحة "الحلم"، ولوحة البورتريه الشخصي الذي رسمه لنفسه، وقد رأى الفنان ايهاب اللبان، مدير مجمع الفنون، الاستعانة بهما لاستكمال سيناريو العرض، فوضع كل لوحة منهما في غرفة مستقلة. 
وفي تقديمها لكتالوج هذا المعرض نقول الدكتورة أمل نصر: لا يزال الفنان المصري الكبير فاروق حسني  يطلق عوالمه الحرة بإقتدار في انحياز مخلص للغة الشكل، وإيمان بقدراتها الباذخة على الطرح والعطاء، فهو يواصل بجسارة مغامرته التجريدية التي تطرح فروضها الجديدة في هذا العرض عبر مسارين رئيسين: التصوير، والتصوير المضاف إليه بعض المقاطع الفوتوغرافية بتقنية الـ"كولاج".
وبينما تظهر حالة العمل - في جانب كبير من التجربة التصويرية  للفنان - كحالة هيولية يبدو فيها وكأنه يطرح المادة الأولى التي تتشكل منها عناصره قبل أن تتخذ هيئتها. 
تنبت في هذا الهيولي بعض العناصر، وقد بدأت في اتخاذ  صورة أولية لها من خلال بنيات لونية وخطية ينكشف منها آثر الجدل الدائر بين الفنان ومقومات مادته التي يصنع منها عمله الفني، ومدى استعدادها وقبولها للتشكل وفق تخيله، ونستطيع أن نجد هذا الجدل مصورًاً بين مادة بقيت غفلا في دفقات من اللون المطلق النقي والخطوط الشاردة، من جهة، وبين هيئات بدأت في التشكل لاتخاذ صورة أو علامة ما، وذلك في أثر أشبه بقوة الطبيعة في إرادتها وفعلها، وإدراك لكيفيات البناء وامتلاك لطاقة حيوية كبيرة وقدرة على خوض مغامرة إبداع اللوحة دون مخطط مسبق، وعلى استنفار الطاقات البنائية الخاصة بمادة الشكل التي تجعلها تستجيب للصورة التى ستحل فيها. 
من هنا يقدم لنا فاروق حسني في معرضه الأحدث 2020 مشاهده التجريدية بحالتها الهيولية، وعناصرها التي تتخذ طريقها للتشكل دون إلحاح في استكمالها أو غلقها في هيئات محددة سلفًا.
وتحت عنوان "الوقوع في فخ التأويل" تشير الدكتورة أمل نصر، رئيس قسم التصوير بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية، وهي الكلية ذاتها التي تخرج فيها فاروق حسني من قسم الديكور قبل عشرات السنين، إلى أن أعمال فاروق حسني تضعنا أمام قضية تلقي الاتجاه التجريدي في الفن، وقضية تناوله نقديًا؛ فعندما نتحول من لغة الشكل إلى لغة الكتابة نكون قد وقعنا حتمًا في فخ التأويل، وإذا كان هناك من يرى أن الشعر لا يترجم من لغة إلى أخرى حتى لا يفقد جانبًا مهمًا من جماليات لغته الأصلية أثناء عملية الترجمة، فما بالنا بالتنقل بين لغتين: لغة النص البصري ولغة النص المكتوب! لكننا نقع – لا محالة - في هذا الفخ طالماً دخلنا كطرف ثالث بين الفنان وعمله الفني؛ فالفنان - حسب مقولة جادامير - يحول تجربته الوجودية، من خلال الشكل، إلى معطى ثابت يتركه مفتوحًا للأجيال القادمة، هذا الشكل الفني الثابت يجعل عملية الفهم والمشاركة ممكنة، وتصبح مساحة التأويل هي المساحة الذاتية للمتلقي الذي يضيف ذاته إلى العمل من خلال تلك العلامات البصرية التي يحاول أن ينفتح على عالمها الخاص.
 ورغم أن التأويل - من جهة - يخل بأمانة الإخلاص للتجريد، فإنه - من جهة أخرى - يساعدنا في استقبال العاطفة الخاصة بالشكل والإصغاء للغته الخالصة وإفساح للجانب الذاتي في تلقي العمل. 

أعود إلى هذا القصر العجيب الذي يضيف اليوم إلى سجل تاريخه الحافل بالأحداث، هذا الحدث الذي كاد أن يودي بحياة الفنان الكبير فاروق حسني من فرط تزاحم الحشود الجارفة من المحبين من أصدقائه الذين يعرفونه، ومن هؤلاء الذين لم يشاهدوا إلا آثاره الفنية، أو الذين أعجبوا بمواقفه الوطنية ومبادراته التي لا يمكن أن تنمحي بصمته من عليها، ومنها "المتحف المصري الكبير GEM" الذي كان لإنشائه قصة طويلة نسج فاروق حسني خيوطها في خياله قبل أن يدخل في تفاوض مع الرئيس الراحل محمد حسني مبارك لإقناعه بأهمية إنشائه.
أقول إن هذه الجماهير غير المسبوقة في افتتاح مناسبة ثقافية، وهذا العدد الكبير من كاميرات الفضائيات، ومن ممثلي وكالات الأنباء العالمية، ومندوبي المواقع الإلكترونية حجب اللوحات عن العيون، وأجهدت الفنان الذي كان مطلوبًا منه أن يجيب عن الأسئلة، ويستجيب لفضول المعجبين، ويحتمل ألوف الصور السيلفي التي يود رواد المعرض أن يحتفظوا بها معه، بل ويوقع على كتالوج المعرض لأرقام مهولة من الحضور.
حتى أنني ما أن صافحته - أنا والكاتب أيمن السميري - حتى أدركنا أنه أوشك على الدخول في أزمة بسبب ألوف الأفواه التي قضت عل أي أمل في التنفس الطبيعي، وحسنًا فعل الصديق الكاتب الصحفي وائل السمري عندما فتح له طريقًا، سمح لسكرتيره محمد حسين بسحبه إلى خارج القاعة العليا بالقصر إلى القاعات السفلى، ولكن الحشود من طلاب كليات الفنون الجميلة، وغيرهم من الشباب، وكذلك هذا الحضور اللافت من أصحاب الجاليريهات الخاصة الشهيرة، ومندوبي الصحف وكبار الضبوف الذين وصلوا للمكان ولم يتمكنوا من الصعود إليه، فوجدوها فرصة للقائه في قاعات الطابق الأرضي، مما فاقم الحالة الصحية له فقام الفنان إيهاب اللبان، مدير مجمع الفنون بإدخاله إلى مكتبه، وبعد وقت قصير تولى مدير مكتبه محمد حسين توصيله إلى المنزل القريب من مكان المعرض. 

fine arts
فاروق حسني أحد أعمدة القوى الناعمة لمصر

وبذلك يكون هذا هو أول معرض يغادره فاروق حسني قبل انتهاء موعد افتتاحه، فقد ترك القصر في التاسعة مساءً،  بينما كان مقررًا لحفل الافتتاح أن ينتهي في العاشرة، فضلًا عن أنه، ولأول مرة أيضًا، لم يتمكن من العودة للمعرض للقاء رواده في صباح اليوم التالي للإفتتاح.
بقي أن أقول إن الرجل لم يرسل دعوات خاصة لمسؤول أو صديق لحضور الافتتاح أو لتوضيح أن موعد الافتتاح قد تعدل بسبب الحداد بعد رحيل مبارك، ومع ذلك حضرت العديد من الشخصيات الرسمية والفنية من تلقاء نفسها، وفي مقدمتها عمرو موسى الذي قال: "فاروق حسني هو أحد أعمدة القوى الناعمة لمصر".
ومن بين الوجوه التي ميزتها في هذا الافتتاح الفنانتان: ليلى علوي، وإلهام شاهين، والفنانان حسين فهمي ويحيى الفخراني، والمهندس نجيب ساويرس، والموسيقار هاني شنودة، والمهندس إبراهيم المعلم، والدكتورة مؤمنة كامل، ومنير فخري عبدالنور، ومحمود أباظة، والدكتور هشام الشريف، وطارق وفيق، والدكتور مصطفى حجازي، والدكتورة منى مكرم عبيد، والدكتور زاهي حواس، والتشكيليون: جورج البهجوري، ونازلي مدكور، وسمير فؤاد، والمايسترو شريف محيى الدين، وحرم سفير بريطانيا، و..،..،.. وغيرهم.