فدوى القاسم مفرد جامع للإبداع كتابة وتشكيلا

التشكيلية الفلسطينية ترى أن كل الأجساد جميلة ويجب أن تحترم، لأنّ هذا الجسد، حيث نسكن الآن، هو كل ما نملك.
فدوى القاسم تبحث عن المعنى الجسدي المتجاوز بمختلف تجلّياته
اشتغال الفنانة على الجسد المؤنّث في أعمالها

يتطلّب ولوج عالم الفنانة التشكيليّة فدوى القاسم رصانة في اقتفاء ملامح المنجز الفنيّ وسبر أغواره، حيث تضعك الخطوات أمام طرق متعدّدة، في كلّ منها مسالك داخليّة وفرعيّة، فالفنانة تنسج خيوط حضورها عبر تيمات إبداعيّة متنوّعة. تجد نفسك أمام تجربة ثريّة ممتدّة المشاريع بين التشكيل والكتابة القصصية والترجمة. وهذه الإشتغالات لا تأتي في سياق مزاجي أو ممارسة وقتيّة، بقدر ما هي نماذج واقعية لمشروع الفنان والمثقّف بصورة عامّة، وتكريس حضوره الراهني والعملي في المشهد الإبداعي.
نحن إزاء تجربة فنيّة مائزة، لا باقتدار المنجز الفنّي ولكن بحضور مشروع إبداعي ينتمي قلبا وقالبا لمشاغل صاحبته فرديّا، وعبر انفتاحه على المواجهة الجمعيّة، من ناحية العمل على قضايا الراهني ومآلات الإلتزام بما يطرحه العالم على الذات الإنسانيّة من تمظهرات وإفرازات ووقائع.
النشأة والمنجز الإبداعي عموما
تعدّد الأمكنة في حياة فدوى القاسم ساهم في تشكيل جسد ثقافي تفاعلي ومنفتح، قادر على الإثراء والتجدّد بدون طمس الملامح الذاتيّة أو الإختباء وراء الخطوط الحمراء. الفنانة أصيلة فلسطين وولدت بالعاصمة الليبيّة طرابلس وعاشت فيها لفترة من الزمن، كان الإرتحال تيمة واضحة في حياتها حيث عاشت بعد ذلك بين دول متعدّدة، بريطانيا، كندا، الإمارات ليستقرّ بها المقام في الفترة الأخيرة بإسبانيا.

تقول الفنانة عن نفسها بأنّ "روحي غجرية" نتيجة هذا الإرتحال وتنويع أمكنة العيش بصورة غير ثابتة. الفنانة - التي درست إختصاص أدب إنكليزي وتحصّلت على بكالوريوس من جامعة شيلر ببريطانيا - نحتت مسيرة متنوعة في الإطار الفني والثقافي، وقامت بتوظيف إختصاصها الأكاديمي في منجزها، وهي تكتب باللغتين العربية والإنكليزيّة؛ وقامت بترجمة عدد من المؤلّفات لكّتاب عرب أمثال: الحبيب السالمي، محمود شقير، حياة الرايس، بسيم الريس.
كما قامت بإصدار عدد من المؤلّفات الخاصّة باللغتين العربية والإنكليزيّة. وفي رصيدها ثلاثة كتب باللغة العربيّة: رائحة حب الهال (دار شرقيات، القاهرة)، لحظة الخروج من الجنة (دار شرقيات، القاهرة)، يوميات كائنات صغيرة (دار جود ودار الجميرا).
وكتاب بالإنجليزيّة Paradise No More (دار جود) انثولوجيات قصصيّة وشعريّة  نشرت في بريطانيا وأميركا، إلى جانب الإصدارات والترجمة. نشرت الكاتبة عديد القصص بأكثر من صحيفة ومجلّة عربيّة؛ أخبار الأدب في مصر، البيان في الإمارات، مجلة الآداب في لبنان، القدس العربي في لندن، مجلة بنيبال في بريطانيا، النهار في لبنان.. إلى جانب مشاركة لمدّة عامين في مهرجان الإمارات للأدب، إلى جانب معارض فرديّة وجماعيّة في دبي ومعرض مجوهرات غير تقليديّة في دبي.
المنجز التشكيلي ومشروعيّته عموما
في مدار الممارسة التشكيليّة يمكن أن نرى كمّا هائلا من الإشتغالات والأنساق المتشابهة. وسط هذا، تكمن الرجاحة في البحث عن المائز من الأعمال والتجارب. الباب مفتوح للجميع، وخاصّة في ظلّ ما توفّره وسائل الإتّصال من سوق إستهلاكيّة دون ضوابط. إختلاط الحابل بالنابل ساهم في تسهيل صفة الفنان التشكيلي وتواترها؛ حيث إن التعريف يأخذ في هذه المدارات الصفة التقنية البسيطة - إتقان الرسم - بعيدا عن ضبط المعنى، صلب ماهية التشكيل وما يوفّره من خلق وإبداع. بيد الأغلبية أن ترسم، لكن ليس بيد أيّ كان أن يصبح فنانا تشكيليّا. الأمر محكوم للأبعاد النوعية والقدرة على الخلق، بعيدا عن الإختصاص بصورته التقنية الأكاديميّة.
هنا تكمن فرادة الفنانة التشكيليّة الفلسطينيّة فدوى القاسم، التي تمارس الفنّ التشكيلي في إطار مشروع جمالي وقيمي، متجاوز لسلطة السائد، ومنغمس في أتون الإجتراح اللوني، لإكتشاف مآلات أخرى للمعنى. فنّانة تجنح بتجربتها نحو أفق التعبير عبر تيمة المفرد؛ الذي يمثّل جوهر تفكّرها وقناعاتها، وتعكسه في منجزها التشكيلي كصورة لذائقتها المفردة والجمعية في آن. تخلق مساحات من التفكّر، تجعل من المتلقّي فاعلا في ملاسنتها وفي إنشاء علائقيّة تأمليّة ناضجة مع اللوحة.  
تسعى الفنانة عبر تيمة الجسد لكشف هذا المحسوس وتشغيله. تتجاوز الأبواب المؤاربة، بما يساعد على تعرية البناء الفوقي، الأخلاقي العاداتي. تقوم  بإنشاء مقابلة ما بين الظلّ والحقيقة، تكشف التناقض وحجم الفوارق ما بين المرئي واللامرئي؛ في تفاعلية الأنا والآخر أو في مقابلة الجوهر والباطن. 
الإشتغال الجسدي في لوحات فدوى القاسم دعوة لونيّة صامتة للتفكير بصوت عال، وممارسة نقد ذاتي داخلي للظواهر والرؤى الجمعيّة والعاداتيّة في التفاعل مع المعطى الجسدي. ما بين الصدمة والملامح المختلفة والمباشرتيّة، تخلق لوحات القاسم اهتزازات واحتدامات بينذاتية، كأنّها دعوة صريحة أنّ التغيير الجديد هو الذي تخلقه الزلازل، من أجل خلق أرخبيلات اُخرى وتغيير جغرافيّة التداعي والحضور النفسي والتفاعلي. 
هذا التوجّه في مشروع فدوى القاسم يخرج الفنّ التشكيلي من دائرته الضيقة - النخبوية - إلى فضاءات أرحب، تشمل مختلف الفئات الجماهيريّة؛ إذا أنّ الفنانة تفتح باب السؤال والتماهي مع لوحاتها بصورة غير مباشرة. لا تقدّم طرحا مسقطا في إطار مدارس تشكيليّة بعينها أو رؤية أحادية. هي تسعى لتشغيل الذائقة، عبر المشاركة الحسيّة والنفسيّة في إدراج مضمون المنجز وضبط نوعيته وإرهاصاته. حسب الفنانة، هناك جانب عفوي تشتغل صلبه، بعيدا عن الإختصاص بحصريته. ليس نتيجة لعدم دراستها في جامعة الفنون الجميلة، وإنّما رفضها منطق التعليب والتسميات المغلقة. هذا ما يفتح فضاء الحرية لخلق تفاعليّة حسيّة وتلقائيّة مع اللوحات، يكون خلالها المتلقّي مشاركا عبر الإختيار، في التسمية والرؤية.
الجسد، والجسد المؤنّث بصورة مخصوصة
تيمة الجسد جوهريّة في أعمال فدوى القاسم، أوّلا، كمسبار للنحت في الذات الحقيقيّة وتشريح لاءاتها وإختلاجاتها، ثانيا، عبر فتح علاقة جدليّة حواريّة ناضجة ومستفزّة، ثالثا، عبر إخراج مفهوم الجسد من بوتقة السطحي في التفكّر، إلى راهن حيوي وتعريفه - إن صحّ القول - في إطار فينومينولوجي يخرجه من الحكم المسبق، للعادات والمفاهيم الخارجة عنه.

حسب قول الفنانة "أتحدّث عن إشكاليّة الجسد. هذا الجسد الذي يراه البشر مقدّساً ومدنّساً، وهو الذي نحبّه ولكنّنا أيضاً نكرهه، ربما، لأنّه يشعل غرائزنا فيذكرنا بأننا لسنا أفضل من باقي كائنات هذا الكون." ما بين التناقض والتفاعل والإئتلاف والإختلاف والانطباع، تسعى الفنان للإحاطة بهذا الجسد، ليس كوحدة متكاملة؛ وإنّما صلب نواتات متفرّدة، تخرج التصوّر من ظاهره اللّحمي إلى إيماءات نفسية واجتماعيةّ وثقافيّة، تساهم في صبغ المعطى الجمالي بجوهر بحثي قيمي عن المعنى. يقوم بترسيخ التفكّر كأداة، لإعادة الإكتشاف والتبصّر في هذا الجسد الإسفنجة، القابل لجميع العوارض والآفات، والدافع لضريبة الحضور والتماهي.
الفنانة تبحث في ظلال الجسد ونوازعه وليس بصورته السطحيّة المتاحة. تهتمّ فدوى قاسم في مشروعها باستغلال الجسد لتعذيب الروح أو تهذيبها. وكيف أن تعرية الجسد تعدّ إهانة لصاحب الجسد، ومصدر قوة لمرتكب فعل التعرية. كيف أن التعرية بحد ذاتها عقاب، كما حصل في نهاية الحرب العالمية مع النساء اللواتي اضطررن إلى بيع الهوى من أجل البقاء، في حين أن أفراد المجتمع ذاته لم يحاولوا دعمهنّ في أن لا تصل بهن الأوضاع إلى تلك المأساوية. وعن استخدام التعرية من قبل المحتلّ أو الأكثرية لإذلال أو قمع الآخر. وعن حالات الاغتصاب التي اتفق العلماء أنْ لا علاقة لها بالجنس، وإنما لفرض السلطة والقوة وكسر الآخر.
كان واضحا اشتغال الفنانة على الجسد المؤنّث  في أعمالها. في رصيدها مجموعات مختلفة من الأعمال التي تتعامل مع جسد المرأة. مجموعة فوضى الجسد، مجموعة الأنا المعذّبة وطقوس الخلاص: رؤى مغايرة، ومجموعة نساء. في هذه المجموعات هناك نسق بحثي أقامته الفنانة التشكيليّة، يتمثّل في اكتشاف فضاءات الحرية والجرأة وتكريسها كي تعبّر عن مطلق قناعاتها. حيث إشتغلت على تجسيد الأنثى العارية بصورة واثقة، لا تخشى عريها وتعرف جيداً أن الذي يحاول إهانتها من خلال تعريتها هو المذنب. حسب قول الفنانة "أردت التحدّث عن اشتهاء جسد المرأة ومن ثم تدنيس تلك التي تظهر مفاتنها. وكيف أن المرأة مطالبة بإخفاء مفاتنها كي لا يخطئ الرجل."
في مجموعاتها المتعدّدة حول جسد المرأة، هناك تنويع من ناحية المضامين داخل ذات المحمل، ساعد في بلورته إبداعيّا تنويع الأساليب. وكانت جلّ المجموعات في صيغة تفاعليّة حسيّة، تبحث في أكثر من زاوية للتفاعل عبر المسارات اللونيّة والضوئيّة. كلّ ذلك في إطار اشتغال مفتوح يثرى الذائقة البصريّة للمتلقّي. وكانت مجموعة "فوضى الحواس" أكثرها تجريديّة. 
في مجموعة "الأنا المعذّبة وطقوس الخلاص: رؤى مغايرة" كان الإشتغال الرمزي جليّا أكثر من حضوره في بقيّة المجموعات، اشتغلت الفنانة فيها على البسيط من المواد (حبر وماء وكولاج). في مجموعة نساء انطلقت الفنانة باستخدام ألوان أقرب إلى الطبيعة، ولكن مع تطوّر المجموعة قامت بتغيير التوجّه إلى توظيف الأزرق والأخضر والبرتقالي، سماء/فضاء/صفاء/انفتاح، طبيعة/تجدد/أمل.
في أعمال فدوى القاسم بحث عن المعنى الجسدي المتجاوز بمختلف تجلّياته، تسترشد الفنانة بخطاب مشروعيّ قائم الأوتاد في اشتغالها بعيدا عن اللحظوي والمزاجي.
لا شيء أفضل في ختام هذا المقال من قول فدوى القاسم:
"كل الأجساد جميلة ويجب أن تحترم، لأنّ هذا الجسد، حيث نسكن الآن، هو كل ما نملك. هو أيضاً العقل والروح. إلى أن يأتي أحد من العالم الآخر ويخبرنا بغير ذلك."