فلسطين على خطى فيتنام

الفلسطينيون على خطى التحرر وإن كانت الأثمان باهظة.

التاريخ مصدر لدروس لا تنتهي وعبر قيمة غاية في الأهمية. ولعل حرب فيتنام هي أكثر ما يلهمنا هنا، استحضارا أولا لما مثلته من همجية أميركية لم تتجاوزها إلا جرائم الإبادة كاملة الأركان في غزة، وثانيا ما يكمن استخلاصه منها من نتائج تصب في خانة إرادة الشعوب التي لا تقهر مهما بلغ جبروت المعتدين.

لم تكد فيتنام أن تستريح من ويلات الاستعمار الياباني وجراحه بعد هزيمته في الحرب العالمية الثانية، وذلك في أغسطس/آب 1945، حتى وجدت نفسها ترزح تحت وطأة استعمار جديد، هذه المرة غربي الهوى والثقافة، فرنسي بالتحديد، وقد استمر إلى غاية سنة 1954 التي توجت بالتوقيع على اتفاق جنيف الذي وضع حدا للوجود العسكري الفرنسي في فيتنام. ولأن العالم كان حينها منقسما بين معسكرين رأسمالي غربي واشتراكي شرقي، كان لا بد لهذا الاستقطاب أن يترك بصمته في مخرجات هذا الاتفاق، وتم تقسيم فيتنام إلى شطرين أحدهما تسيطر عليه حكومة سايغون المدعومة من الغرب، من الولايات المتحدة أساسا، والأخر تحت سيطرة الشيوعيين.

غير أن الغرب الذي يعشق تبادل الأدوار لم يكن ليؤتمن مكرها، فأخذت أميركا على عاتقها دعم الموالين لها في الجنوب ليتأجج الصراع بين أبناء الوطن الواحد. تدحرجت كرة الثلج تدريجيا من دعم بالأسلحة والأموال والتدريب إلى الانخراط الفعلي، فوجدت أميركا نفسها غارقة في حرب مباشرة مروعة أودت بحياة على الأقل مليوني شخص وثلاثة ملايين جريح وتشريد ما يناهز إثني عشرة مليونا من الفيتناميين. ولما كان التاريخ، من حين إلى أخر، يعشق إدهاشنا من حيث لا ندري باسراره، شن الثوار الفيتناميون من الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام المعروفة بالفيت كونغ وعناصر من الجيش الشعبي الفيتنامي الشمالي هجوما مفاجئا ما بين 29 يناير و25 فبراير سنة 1968 على الجيش الفيتنامي الجنوبي وقوات الولايات المُتحدة وكبدوهما خسائر فادحة استفزت مكانة الدولة العظمى الدولية وقوة الردع لديها. كان الرد الأميركي مدمرا في صفوف المدنيين وفي البنى التحتية وغيرها، مما جعل هذا الهجوم المعروف بهجوم التيت أو عيد التيت (وهو اسم السنة القمرية الفيتنامية ويصادف منتصف فبراير/شباط)، نقطة تحول جوهرية في الحرب حيث انقلب الرأي العام الأميركي وبعده الدولي وبدأت تتصاعد المطالب بوقف هذه الحرب العبثية، مما أضطر إدارة الرئيس جونسون إلى خوض مفاوضات لم يلن خلالها الثوار قيد أنملة عن مطلبهم الأساسي بالانسحاب الشامل للجيش الأميركي وهو الأمر الذي تأتى لهم في الأخير رغم مناورات وتعنت القيادة الأميركية.

بيد أن التاريخ لا يعيد نفسه وإن تشابهت الأحداث. لكن الغايات الكبرى لمجراه لا بد أن يستفيد منها الإنسان ولعل أقرب مثال للسردية الفيتنامية الملحمية التي قل مثيلها في التاريخ الآني، ما يقع الآن في غزة وما سبقه من استعمار بريطاني لفلسطين وبعده الدفع بالصهاينة الإسرائيليين لاحتلال هذه الأرض، ثم في مرحلة موالية تدفق الدعم الأميركي اللامتناهي لهذا الكيان. عملية طوفان الأقصى التي نفذتها قوى المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر 2023 شكلت كما هجوم التيت نقطة تحول أساسية إن على مستوى القدرة العسكرية للمقاومة وتطورها أو بعد ذلك في مناهضة السردية الصهيونية التي سيطرت على المخيال الغربي لعقود عديدة وجعلته في شبه غيبوبة وعزلة عما يقع من فواجع لشعب أريد له أن يقتلع من أرضه عنوة، ولم يكن من المرجح ولا من المتوقع أن يتهاوى بهذه السرعة خطاب المظلومية الصهيوني رغم الدعم الدبلوماسي والإعلامي والثقافي الهائل. يكفي هنا أن نشير إلى ما فعله طلاب الجامعات الأميركية من احتجاجات ومظاهرات نصرة لغزة وما تعلنه مراكز الأبحاث واستطلاعات الرأي من تحول في أوساط المواطنين الأميركيين والغربيين من مناصرين للاحتلال الإسرائيلي حد التعصب إلى مناوئين له شرسين في تبيان أهواله. ثم لنلقي نظرة إلى استماتة المقاومة وإصرارها على مطلب الانسحاب الشامل من قطاع غزة وغيرها من المطالب رغم الضغط الإقليمي والدولي عليها. نحن هنا لأول مرة أمام قوى فلسطينية ترفض الهزيمة وقادرة على المقاومة رغم ما يتلقاه العدو من دعم عسكري ودبلوماسي أميركي وغربي غير مسبوقين.

أكيد أن الاختلافات كثيرة بين الحربين ولا يمكننا في أي حال من الأحوال أن نستخلص النتائج نفسها دون اعتبار خصوصية الحربين، خاصة موقف الدول الإقليمية المتخاذل في حالة غزة رغم الروابط التاريخية والثقافية والحدود الجغرافية المشتركة مع بعضها حيث أصبح من اليقين أن هذه الدول لا يمكن المراهنة عليها في شيء. غير أن التحولات الشعبية العالمية كما أسلفنا وضغط القوى الحية وصمود أصحاب القضية من شأنه في نهاية المطاف أن يفرض معادلة جديدة ترغم المغتصب على أن يقر بفشله مرحليا واندحاره تدريجيا ولنا عبرة في دور الرأي العالمي في انهيار نظام الأبارتايد العنصري في جنوب إفريقيا. الفلسطينيون على خطى التحرر وإن كانت الأثمان باهظة.