فلسفة الحياة في "القمر وحكايات أخرى"

نماذج مختلفة برزت في مجموعة الكاتبة الأردنية إيناس الطاهر، طغت عليها الفلسفة والفكر والغوص في الاعماق.
سرد ممتع، ولغة جميلة، وصور موحية، ورمزية عميقة، وآراء إشكالية تثير التساؤل والتفكير
رجل مسجون في زنزانة يسبح ضد التيار

لكل إنسان فلسفته الخاصة للحياة، وأفكاره الذاتية، ورؤيته المختلفة، ويعتمد ذلك على خلفية المرء الثقافية والاجتماعية وخبراته ونوعية الحياة التي عاشها، والمكان الذي يعيش فيه، ولذا فكل منا يعيش حياته وفق قناعاته ومبادئه وما يرتئيه صوابًا، وتلعب الظروف المحيطة به وتفاعلاته وتشابكاته مع من حوله دورًا كبيرًا ومؤثرًا في هذه القناعات، قد ترسخها، أو تجبره أن يتخلى عنها، أو على الأقل أن يتعامل معها بمرونة أو بتقديم تنازلات اضطرارية لا بد منها، فالحياة لا تستقيم للمرء كما يريد، بل قد تأخذه في الغالب كما تريد، ومن يجدف عكس التيار، لا بد أن يدفع الثمن.
وبرزت نماذج مختلفة لهذه الفلسفة الحياتية في مجموعة «القمر وحكايات أخرى» للكاتبة الأردنية إيناس الطاهر، هذه المجموعة التي طغت عليها الفلسفة والفكر والغوص في الاعماق، إلا أنها جاءت متناغمة داخل النص القصصي بشكل جميل ومستساغ يثري النصوص، ويمنحها عمقًا وأبعادًا ومستويات متعددة للقراءة والتأمل. وهي مجموعة من منشورات وزارة الثقافة ضمن إصدارات العقبة مدينة الثقافة الأردنية 2016، في 155 صفحة، وتتكون من أربع عشرة قصة هي: «القناديل، طرقات، الزنزانة، هو والعجوز ودوامة، القمح، كابوس، المستنفع، الغراب، المجند سين، بطل من ورق، في ليلة العيد، كش ملك، القمر، لحن العودة، أعمى المدينة».
في قصة «القناديل»، ملأت القناديل العشوائية أرجاء القرية، هذه القناديل التي جاءت من كل مكان، دون تخطيط أو تنظيم، فشوهت ليل القرية، وشكلت معالمها حسب ظلالها، فيشعر بعض الشباب بالخطر المحدق بالقرية: «ما عدت أطيق القناديل، ولا أحتمل ضوءها، أنا ومجموعة من الشباب الرافضين لأضواء عشوائية الوجود صرنا نمضي بعيون مغمضة، وقلوب تدفعها البصيرة!»، فهذا الشاب يرفض مصادر التنوير الأجنبية المتضاربة العشوائية التي تشتت وتفرق، ويصمم أن يهتدي بنور بصيرته لتقوده في ظلام الواقع ودهاليزه.

المتسولون هم الذين يمنحون الناس الرضا بإنسانيتهم إذ يهربون من ملامح قسوتهم بالصدقة

لا يحمل الشاب خريطه تدله على الطريق في قصة «طرقات»، ويرفض أن يتبع صديقًا قديمًا أو عجوزًا متعصبًا، ويبحث عن طريق توصله إلى غايته، لكنه لا يستبين طريقًا مأمونًا «أرهقني البحث عن طريقي! وكل الطرقات تتشابه! أتعبني أن أفارق من أحب حين نكتشف اختلاف طرقاتنا! مرهق أنا من خرائط زورت حقائق الطريق، ومتعب من مسافرين يحملون خطأ متاع سواهم ظنًا بأنه ما يحتاجون إليه!! .. في النهاية قررت أنني لن أسافر، ولن أمضي بطرقات لا أعرفها، زرعت نبتة صغيرة، ووضعت أشيائي جوارها أراعيها فحين تكبر ستكون بيتي، جذورها بداية الطريق، وأغصانها نهاياته!!!»، فالإنسان الحر لا يكون إمعة، أو تابعًا أو مقلدًا لغيره، بل يشق طريقه بنفسه، فإن التقت مع غيره فبها ونعمت، وإلا فليمض وحيدًا فريدًا ما دام يؤمن بأن طريقه توصله إلى النهايات المأمولة، وإلى بر الأمان.
في قصة «الزنزانة»، ثمة رجل مسجون في زنزانة لأنه يسبح ضد التيار، يتأمل واقعه ويقول: «من لا يملك مفاتيح قيده يملك على الأقل الدفاع عن حريته»، فعدم الاستسلام للأمر الواقع هو حياة متجددة، وبث لروح الأمل، وأن ينتصر الحق ولو بعد حين، وحتى لو كان الثمن موته. ولذا فقد قرر «لن أرضخ للضغوطات، ولن أقبل بعد اليوم بما يضرني من مسلمات، مهما كان الخارج سيئًا، فأنا قادر على تغييره، المهم الداخل كيف يكون، لذلك سأبني داخلي مملكتي، أنا داخل أنا، لينقص منظر الخارج، ويزيد نضجًا ورفعة داخلي، يجب أن أكون قادرًا على مواجهة الفتن، نعم، سأواجه الفتن»، إذًا تغيير الذات، الداخل، هو ما يضمن أن ينجح فيما يريده من تغيير خارجي، ولن يستطيع مواجهة الفتن إلا بنضج الداخل ورفعته وسموه. ولما فعل، واشتغل على نفسه بعزيمة وإصرار، انبثق من أعماقه نور، وصار الخارج هشًا، «فساعده النور على رؤية حدوده الجديدة، نهض وقد بدا له وكأنه يتعلم الخطو من جديد، وسرعان ما تملكته قوة هائلة خرجت من داخله وانطلقت لتفجر قضبان الزنزانة ليخرج وقد ولد الرضا والكمال فيه، أو ربما كان هذا شعوره!»
من المدهش أن يستمر صياد بلا صيد لمدة طويلة، ولكن هذا ما حدث في قصة «هو والعجوز ودوامة»؛ إذ يتفاجأ الشاب الذي لم يصطد شيئًا خلال أربع ساعات بقول العجوز إنه لم يصطد أي سمكة خلال عشرين سنة من الحضور ومحاولة الصيد، ولكن العجوز يخبره أنه يأتي للتوحد مع أفكاره «من أجل إيجاد معنى حقيقي لساعاتي المتبقية، مأساة أن نحيا دون أن نكتشف فكرة أو قناعة جديدة، أو حتى دون أن ترسم لوحة جديدة للحياة، فأن تموت بذات المعرفة التي أفنيت عمرك عار على روحك ونفسك»، ولما يستغرب الشاب، يكمل العجوز: «الأسرار سبب البحث الدائم والتأمل، هي الهالة التي تمنح المرء جاذبية إن هو فيها سبر أغوار نفسه قبل محيطه، الكون سر بديع جماله في لبه المخفي إن أنت لم تجد في اكتشافه متعة فلن تكون حرًا منطلقًا، إنك بثبات أفكارك لا تعدو أن تكون أكثر من حبات ثرى متلاصقة بليدة». 
إنها خارطة طريق لحياة متجددة متحركة نشطة، من خلال البحث والتأمل والتفكر وكشف الأسرار واكتساب معارف وقناعات جديدة، وإلا ستكون الحياة مجرد أيام مكرورة مملة لا طعم لها ولا رائحة، حياة وعدمها سواء، فجمال الحياة ولذتها في السعي والتغيير وتحريك المياه الراكدة، وإحداث فرق بين يوم وآخر، ليعيش كل يوم بأنه يوم جديد مختلف عما سبقه.
في قصة «القمح»، يضطر الحاج عثمان لتأجير أرضه والرحيل عن القرية، ولما عاتبه الشاب الفيلسوف، قال له: «يا فيلسوف، لا مكان لك على أرض تخجل من صحبتك، وتشمئز من رائحة عرقك المنسكب من جبينك ساعة ترعاها، ... ألم أخبرك أنني أريد أن أحترم نفسي؟ أريد أن أملك قوامة أهل بيتي؟ ألم أخبرك أنني أريد وطني؟ لم يكن الوطن يومًا بأهل يحيطونك ويجهلون حاجتك إليهم، حين تكون غريبًا عن أهلك، غريبًا عن ترابك، وغريبًا حتى عن أرضك فأنت مغترب لم تجد لك وطنًا». فلا معنى للعمل في أرض لا تسد حاجتك وتستر عورتك، وتحفظك من لؤم الدائنين وتربصهم بعرضك وأرضك، ولا حاجة لأهل يجاورونك ولا يمدون لك يد العون وهو يعرفون ما تعاني، يرونك توشك أن تبيع بناتك لرجال أكبر من أبيهن ولا تتحرك نخوتهم، بل يتخذونك مادة لسخريتهم وسهراتهم، فالوطن حيث يشعر المرء بكرامته وإنسانيته، وإلا فهو مغترب يبحث عن وطن.

short story
مجموعة قصصية تثير التساؤل والتفكير

تتناص قصة «المستنقع» بشكل رائع ومميز مع رواية «العطر» لباتريك زوسكيند، وفيها، يشعر الفتى أنه يعيش في مستنقع لا يعترف به ولا يشعر بوجوده، فسكب غضبه في فن النحت الذي أتقنه وبرع به خفية بعيدًا عن أنظار سيده وأهل قريته، ولكن كان «غضبه يكبر، ويتضخم، ويتعملق، وهو لا يدرك أن ما فيه صار عدوانية مخيفة، لكنها عدوانية على ذاته، وحرب ضد حياته، وكره لكل ما يحيط به ويحتويه، كان يزأر في داخله ألف صوت يخبره كم هو مهمش، بل كم هم قساة المحيطون به، لكنه بواقع الحال لا يدرك ما فيه، يضع سحره في الأحجار علها تستخرج نيران قلبه وتطفئها!!». 
كان الفتى يعيش بلا اسم، ولا هوية، ولا عائلة، تخلصت منه أمه فور ولادته، فعاش على هامش الحياة، غريبًا، وحيدًا، مختلفًا عن أقرانه في كل شيء، ورأى من سيده الذي اكتراه كل أنواع الظلم والبطش والاستعباد، فلجأ إلى الحجارة يحاكيها ويحاورها ويهامسها، فهي على الرغم من صلادتها أرق من هؤلاء البشر عديمي الإنسانية والمشاعر، فارتضى صحبة الحجارة، واصطفاها بعيدًا في كهف مهجور، ووجدوه ميتًا وسط منحوتاته المذهلة، فأهملوه، وتسابقوا للاستيلاء على ما أبدع من تماثيل ثمينة، وتحف ذات قيمة فنية رفيعة.
في قصة «الغراب»، يحاوره رفيقه في السجن، ويقول له: «يا صديقي، علينا دائمًا إيجاد مساحة نمارس فيها طقوس ما نرغبه حتى لا يثكلنا ألم الواقع، الوهم أحيانًا دواء لداء الحقيقة، كما التسليم وإناخة بعير التفكير علاج صداع الأسئلة ممنوعة الإجابة، لو كنت مكانك لما رأيت الأمور بعين التشاؤم، فالثوب المفتوق الذي لا تستطيع شراء سواه، تستطيع رقعه»، هو فن التحايل من أجل الحياة بأقل الخسائر، فالواقع ثقيل مؤلم، ولن يجدي معه التسليم به وندب الحظ، فثمة طرق أخرى لتجاوزه أو على الأقل التكيف معه دون أن نفقد ذواتنا وتذهب نفوسنا حسرات؛ لأن المناطحة تجلب الويلات على الأغلب، معركة خاسرة، لكن هذا لا يعني رفع راية الاستسلام، وإنما البحث عن طرق مجدية لتغيير الواقع نحو الأفضل.
في قصة «في ليلة العيد»، يبرر الرسام المتسول الأعرج تصرفه عندما طلب منه عدم إعطاء كلبه قطعة لحم ثالثة، فيقول: «حين قدمت لكلبي قطعة من اللحم، أدركت بأنك ستسلبني السلام الذي أحياه مع كلبي الذي ارتضى الحياة جواري رغم فاقتي، وجوعه أيامًا طويلة، وحين ناولته القطعة الثانية أدركت بأنك ستعلم كلبي دون قصد منك النشوز والعصيان، فكيف لمن بدأ تذوق مسرات الحياة بأن يرتضي ذلها؟ لذلك طلبت منك عدم منحه القطعة الثالثة، فلا نعمة في الدنيا دائمة، وعلى كلبي أن يدرك ذلك، أن يعرف أن ما حصله منك نتيجة تعاطفك معه ليس إلا كرمًا لن يدوم فلا تطمح نفسه وترتضي بغير ما قسم له، أتصور أنك فهمت ذلك، كلبي هو معيني على ظلم الأرصفة، يحميني حين تغفى عيني عن قطاع الطريق الجائعين في الليالي القاحلة، عن لصوص الفاقة، ولصوص الحلم، ولصوص الأمنيات، وحتى أحافظ على عيني الثالثة كان يجب أن أمنعك، كيف لا أفعل ونحن في مدينة تجيد الإشفاق على الكلاب كما لا تستطيع ذلك مع البشر!؟». 
هي فلسفة حياتية تصلح للبشر أيضًا، فمن الخطر أن يعيش المرء أعلى من مستواه الحقيقي، مع شرعية طموحه بأن يرتقي ويرتفع ويتطلع للأحسن والأفضل، ولكن السلامة في أن يعيش كل على قدر إمكانياته، وإلا وقع في جب الندامة.
وعندما يسأله لماذا يعتبر نفسه متسولًا مع أنه يقتات من رسم اللوحات، فيجيبه مبتسمًا: «لأنني أقتات من شعور الناس بالحاجة للتطهير فأنا متسول، والمتسولون هم الذين يمنحون الناس الرضا بإنسانيتهم إذ يهربون من ملامح قسوتهم بالصدقة، ليس رغبة في الإعانة، بقدر ما هي رغبة في الهروب من الشعور بغلظة قلوبهم، بعيدًا عن أدبيات الحضارة، تخيل مدينة بلا متسولين! إنها كمدينة بلا عيد، فالعيد قناع للفرح، كما التسول قناع لمشاعر الإنسانية!»، إنها فلسفة لها مصداقيتها على أرض الواقع، على الرغم من غرابتها، فمعظم من يعطي، يفعل ليسترد بعضًا من إنسانيته المهدورة، الضائعة في اللهاث في طرقات الحياة.
تتميز قصص المجموعة بالسرد الممتع، واللغة الجميلة، والصور الموحية، والرمزية العميقة، والآراء الإشكالية التي تثير التساؤل والتفكير، وهي المجموعة الثالثة للكاتبة إيناس الطاهر، بعد «قريتي والخوف» و«حكايات لا تهم أحدًا». وقد فازت القاصة بجائزة ناجي نعمان الأدبية 2007، وجائزة نازك الملائكة للأدب النسوي  2013، وجائزة الموظف المثالي 2017، ولها نشاطات ثقافية وبحثية متنوعة.