فن جميل عطية إبراهيم

حين بلغني نبأ رحيله أدركت كم عشنا وكم مرَّ علينا من سنين.. تجاوزنا الستين، والسبعين، وزحفنا نحو الثمانين، ولكن الأقدام توقفت عن المسير فور أن جاوزتها.
اللقاء الثالث في أعلى منصة ثقافية في مصر؛ في المجلس الأعلى للثقافة منذ سنوات
عزبة عويس غارقة فى الهم، وصفار شمس العصاري كالذهب المزيف (الفالصو) يثير الشجن

حين بلغني نبأ رحيله أدركت كم عشنا وكم مرَّ علينا من سنين.. تجاوزنا الستين، والسبعين، وزحفنا نحو الثمانين، ولكن الأقدام توقفت عن المسير فور أن جاوزتها.
جميل عطية إبراهيم؛ تخلل الشيب شعر رأسه، والبياض على شاربه الكث، وامتلأ جسمه، وعلت عينيه نظارة طبيبة، وبقيت وحدها نظرته الإنسانية العميقة الغور تكسوها ابتسامة مستحية نبيلة.
ثلاثة لقاءات جمعتني بجميل:
الأول ليلة التاسع من يونيو/حزيران 1967، يوم ألقى جمال عبدالناصر خطابه الشهير الذي أعلن في ختامه أنه يتنحى عن جميع مناصبه.
خرجت من بيتي ومعي أخي الأكبر لا أعرف إلى أين. قوة غريبة دفعتني إلى ميدان العتبة، فشارع طلعت حرب، فباب اللوق، وتوقفنا أمام "قهوة الحرية"، وفوجئت بذلك الشاب الهادئ الرزين يقف أمامي. ليس بيني وبينه إلا نصف متر؛ هو على الرصيف وأنا وأخي في نهر الطريق.
تبادلنا نظرات صامته أبلغ من أي كلام: حزن.. حيرة.. يأس.. غضب.. الأحاسيس الأسيفة كلها تجلت في نظرتينا الصامتتين.
وأخيرًا.. قال: "وبعدين"، فمددت يديَ ورفعت رأسي ومصمصت شفتاي، ولسان حالي يقول: "لا أعرف".
 فجاءتنا أول عربة نقل تحمل رجالًا يرتدون الجلاليب، وكانت قادمة من "ميدان التحرير" عابرة في الاتجاه المقابل من الشارع، متجهة إلى "ميدان عابدين"، أو ربما إلى بيت جمال عبدالناصر، وهي تهتف: "لا تتنحى".
وكانت أول مرة نسمع كلمة: "لا تتنحي".
وكان اللقاء الثاني على "مقهى ريش" في العام 1968، ومجموعة من مثقفي مصر تستعد لإخراج أهم حدث ثقافي في ذلك الوقت: "جاليري 68"، وكان أبرز المتصدرين له: إبراهيم منصور، وإدوارد الخراط، وجميل عطية إبراهيم.. وآخرون. 
ولأن سطوة الرقابة كانت ضاغطه خرجت "جاليري 68" بوصف "مطبوعة غير دورية"، أي أنها ليست جريدة أو مجلة، وكان تأثيرها رائعًا رغم أنها ولدت فقيرة؛ الورق رخيص، والغلاف رخيص، ولكن الفن كان طابعها في لوحات أو قصائد أو قصص، فكانت بداية صحوة جديدة لأدباء لم تكن الفرص أمامهم وردية!

صورة "المنتمي" للوطن.. يحمل آلامه فوق ظهره أينما ذهب.. يغيب جسمه عن الوطن، ويبقى الوطن في قلبه وعقله.. يترجم معاناته في كل كتابة يكتبها

وكان اللقاء الثالث في أعلى منصة ثقافية في مصر؛ في المجلس الأعلى للثقافة منذ سنوات. وجميل عطية إبراهيم القادم من جنيف يثبت حضوره في مصر التي لم تغب عن قلبه وعقله وبصيرته الجادة عن حالها منذ قامت ثورة يوليو52 إلى أن وافته المنية.
كانت مصر عنده تحمل اسم "عزبة عويس"، التي قال عنها في روايته (1952): "تمتد من قرب الأهرام إلى الكيت كات".. أي من زمن المجد العظيم إلى زمن الهزائم المهينة حين انهزم جيش المماليك أمام جيش نابليون، وبتداعي الهزيمة صارت السيادة للمحتل الأجنبي إلى يوم خروج هؤلاء المحتلين مضطرين أمام ضربات شعب أراد أن يسترد كبرياءه.
كيف جمع جميل عطية إبراهيم مفردات روايته؟
سأذكر لكم هنا أسماء الشخصيات التي أبدع صيغتها في روايته، ولنا أن تتخيل كيف تكون العلاقة بينهم؛ فهناك أسماء: عويس، وعكاشة، وسرحان السقا، وحمادة أبو جبل، وعباس أبو حميدة، والحاج عمران، وقطامش، ونوبي، من الرجال. وهناك من النساء: حميدة، وستهم، وزاهية، وفهيمة، ونفوّسة، من النساء. وهي أسماء تختلف من منبعها عن: شويكار، وجويدان، وزاده، وسري، ورفقي، وخورشيد، التركية. كما تختلف أيضًا عن: مارتي، وجولي، وميلي، ومارجريت، وبوللي، وجون، وسميث، الأوربية.
ولك أن تتخيل كيف تكون العلاقة بين أصحاب هذه الأسماء في "عزبة عويس".. أقصد "مصر"، ومدى ما تحمله من غضب وكراهية ورغبة في الإزاحة عند البعض. ومن يريد أن يظل كما هو سيدًا مسيطرًا، وراكبًا مستغلًا حتى الرمق الأخير.
أما صاحبنا، فينقل إليك رؤيته كما تخيلها. 
فى الصورة الأولى يقول عن "عزبة عويس" إنها غارقة في صفار شمس العصاري، وقد صفت حركة البيع والشراء في "سوق الخميس" وتفرَّق الخلق في دوائر وحلقات. حلقة من الخلق حول "الرفاعي.. مخاوي للثعابين"، وهو يرقي الشباب، ويأخذ عليهم العهد بعدم إيذاء صنف الثعبان والحية.
وحلقة أخرى، حول "صندوق الدنيا"، وقد تسمر ستة من الصبيان والبنات على "الدِّكة" وأُسدِلت على رؤسهم ستارة سوداء، وعيونهم تُحدِّق في العدسات والصور الملونة التي تجري أمامهم ملهبة لخيالاتهم، ومبددة للخمول الذي يصيبهم طوال الأسبوع. 
يستمعون إلى أصل الحكاية، ويرون أبطالها في كل "سوق خميس" مقابل ثلاثة مليمات يجمعونها في صبر، ويحرصون عليها، ويعطونها للعجوز عن طيب خاطر. 

The departure of writers
في نهاية الطريق يجني الشوك

ويدير العجوز شريط الصور الملونة: أصل الحكاية.. اللي بنى مصر كان في الأصل حلواني.
وعنها قال جميل في روايته "1981": عزبة عويس غارقة فى الهم، وصفار شمس العصاري كالذهب المزيف (الفالصو) يثير الشجن.
تحلق الناس فى حلقات: حلقة من الخلق حول مقاول الأنفار العائد من دول الخليج ليجمع الأنفار، ويشحنهم إلى العراق والسعودية والكويت وليبيا، وكله بثمنه!
ومُلَّاك الأرض من صغار الفلاحين تجمعهم حلقة خاصة تراودهم أحلام.. أحلام تقسيم الأرض لإقامة مبانٍ عليها بعد تجريفها. فقد طحنتهم الأزمة الاقتصادية ولم تعد فلاحة الأرض تدر عائدًا يشبعهم بعد هجرة الفلاحين، وارتفاع أسعار البذور، والسماد، ومغالطات كاتب الجمعية الزراعية، وارتفاع ديون بنك التسليف، وشره الدودة.
من فاته قطار السفر جرَّف الأرض، وباع طينه الأحمر لقمائن الطوب، وانتظر فرج الله.
أما الذين مدَّ الله في أعمارهم، فيتحسرون على أيام كانت فيها "عزبة عويس" تستعد لإقامة مشروع لتعليب الخضروات من كثرتها، وتترحم على "اللواء عويس" وأيامه.
كانت المانجو تباع بالكوم، والخضروات بالشروة، ثم شاعت موضة بين التجار، وهي تحويل دكاكينهم الطينية المقامة على حافة الطريق، حول أرض السوق الواسعة، إلى "بوتيكات" تباع فيها الحليّ، والتماثيل للسياح، كما يجرى فيها تغيير العملة سرًا. سياحة. انفتاح. تاكسي بالنفر. تحويل عملة. تأشيرة دخول إلى السعودية أو الكويت. توظيف الأموال. أحلام كالذهب "الفالصو" كشمس العصاري التى تغرق السوق! 
ولنا أن تتساءل كيف ظهر هؤلاء "الهليِّبة" و"الشبِّيحة"، وناهزوا الفرص، بين ظهراني الطيبين وسحروهم بمال زائف، وأحلام كاذبة ليخرجوهم من العزبة، وينفردوا بالباقي من أهلها تيئيسَا وإذلالَا بلقمة العيش، حتى يخسر الإنسان إنسانيته، ويتحول إلى شيء لا معنى له ولا قيمة ولا إحساس.. يقبل كل ما يقال له بعد أن أغلق عقله، وفتح جيبه أملًا في جنة موعودة، فإذا به في نهاية الطريق يجني الشوك.
هذه هي صورة "المنتمي" للوطن.. يحمل آلامه فوق ظهره أينما ذهب.. يغيب جسمه عن الوطن، ويبقى الوطن في قلبه وعقله.. يترجم معاناته في كل كتابة يكتبها.
 هذا هو فن جميل عطية إبراهيم.