كتاب يبرىء ساحة كليوباترا ويؤكد قتل أوكتافيوس لها

المؤرخ الفرنسي هنري بوردو يحذرنا من الانسياق خلف الصورة النمطية التي رسختها في الأذهان عن كليوباترا.
شيشرون خطيب روما المفوّه عشق كليوباترا ولكن صدمته بالصدود عنه فكتب عنها: "كليوباترا عنوان الرذيلة"
الرؤى الغربية لكليوباترا مالت إلى استنساخ الصورة التي رسمها بلوتارك

"عندما نتناول شخصية كليوباترا يجب أن نأخذ حذرنا من المؤرخين الرومان؛ لأن المنتصر يكتب التاريخ دائما على هواه". هكذا حذرنا المؤرخ الفرنسي هنري بوردو من الانسياق خلف الصورة النمطية التي رسختها في الأذهان عن كليوباترا، الدعاية السلبية الرومانية، والتي صورت الملكة وكأنها مجرد امرأة لعوب، فالمنتصر يحكي من وجهة نظره، ويتبعه الآخرون فتترسخ الصورة التي غالبا ما تكون غير صحيحة بل ومناقضة للحقيقة.
لكن للأسف انساق الكثيرون – ربما بسوء نية – خلف ما رواه المؤرخ الإغريقي  بلو تارك، فكان مصدرا لأعمالهم التي رسخت الصورة النمطية لكليوباترا التي استطاعت أن تغزو قلب ملك بعد آخر من أباطرة الرومان، يوم أن كان للإمبراطورية الرومانية شأنها في السيطرة على العالم. وحتى عندما خانها الحظ بانقلاب میزان السياسة وسقوط انطونيو الذي كانت حالفته وتزوجته، فإنها أبت ألا أن تخرج من هذا العالم منتصرة ففضلت الانتحار.
كذلك فعل شيشرون خطيب روما المفوّه، الذي عشقها وصدمته بالصدود عنه قال عنها: "كليوباترا عنوان الرذيلة.. وهي لا تعرف من فرط تسفّلها، الفرق بين العفة والتمرغ في أحضان العبيد"، كان يكذب كذبا مكشوفا لدرجة أن البعض من معاصريه قالوا إن حب كليوباترا  أفقده عقله.                                                              
هكذا مالت الرؤى الغربية لكليوباترا إلى استنساخ الصورة التي رسمها بلوتارك، أما الرؤى الشرقية، وتحديدا المصرية، فهي مختلفة تماما وتكاد تكون مناقضة للصورة الغربية، وأساسها يرجع إلى عالم المصريات الشهير الدكتور سليم حسن، وخلاصة رؤيته تتمثل في قوله: "كليوباترا من أعفّ نساء عصرها"، فهو يؤكد أنها عاشت مع كل من يوليوس ؤقيصر ثم مارك أنطونيو عيشة زوج عفيفة طاهرة الذيل مخلصة حتى مماتها.  

فما هي حقيقة تلك الملكة المثيرة للجدل في حياتها وطوال قرون أعقبت وفاتها المأساوية والملغزة ؟
استجلاء الحقيقة
يسعى كتاب "إنتحار ملكة … كليوباترا المفترى عليها" (وكالة الصحافة العربية – ناشرون) إلى استجلاء الحقيقة عبر فصوله الثمانية المنتقاة بعناية من ثنايا الكتب والدراسات التي عرضت لحياة كليوباترا السابعة، سليلة بطليموس الثاني الذي كان واحدا من قواد جيش الإسكندر الأكبر، وقد عُرفت كليوباترا بثقافتها الرفيعة، إذ أجادت التحدث بـسبع لُغات، كما عُرفت أيضاً بحزمها وحماستها الزائدة. فكيف يمكن للملكة المثقفة الراقية، سليلة الملوك أن تنتحر وبهذه الطريقة الاستعراضية التي لا تناسب شخصيتها، مع ملاحظة أن التاريخ لم يسجل أي حوادث انتحار ضمن عائلتها الملكيّة، وإن سجل العديد من حوادث القتل والاغتيال كما هو معروف عند جميع السلالات الأخرى.
يبدأ الكتاب بفصل مهم كتبه حبيب جاماتي، وهو الأديب اللبناني الذي اتخذ من مصر وطنا ثانيا، فعاش فيها أغلب عمره وقام بتمصير أكثر من ثلاثين نصا مسرحيا فرنسيا لفِرَق رمسيس، وجورج أبيض، وفاطمة رشدي، وله سلسلة كتب مهمة عنوانها "تاريخ ما أغفله التاريخ"، استهدف منها كشف الأكاذيب التاريخية الرائجة، في هذا الفصل واصل جاماتي طريقه نحو استجلاء الحقيقة المخفية تحت ستار الأكاذيب، فيبدأ بنفي اتهام كليوباترا بإضاعة استقلال مصر ويقول: "حين ولدت كليوباترا كانت مصر في الواقع خاضعة لذلك السلطان. وأبوها وجدها ضیعا استقلال دولة البطالسة وفرطا في سيادتها، فعاش كل منهما راضيا بان يكون تابعا لا متبوعا". 

كذلك يرفض وصف انسحابها بالأسطول من معركة أكتيوم بالخيانة ويوضح "فقد انسحبت من المعركة بأسطولها وعادت إلى الإسكندرية، فقيل إنها خانت وجبنت… والحقيقة غير هذا. فقد شعرت في خلال المعركة أن النصر لن يكون بجانبها، وأن مواصلة القتال معناه هلاك الأسطول وتدميره. والأسطول كان يحمل الجزء الأكبر من جيشها، وكنوزها، وجواهرها، وكل ما تملك!  لقد أرادت أن تنقذ هذا كله لكي تواصل القتال في مصر نفسها، وتدافع عن ملكها وبلادها، وتمنع الرومان من القضاء على أحلامها ومشروعاتها ".
ولا يختلف الفرنسي هنري بورديو في موقفه من كليوباترا عن موقف حبيب جاماتي، فيفند أسانيد الرؤي الغربية الناقلة عن بلو تارك، ثم يقول: "كيف يريدنا الناس أن نصدق المؤرخين الرومان الذين يصورونها لنا في صورة المرأة الماجنة الداعرة المستعبدة لحواسها؟ إننا إذا تتبعنا حياتها لا نجد إلا الطموح والحب، مجتمعين.. ولقد أحبت مرتين، وكانت في كل مرة تحب رجلا يكبرها في السن، ورغم ذلك فقد ظلت وفية لهما، وكانت أما لأربعة أطفال، ظلت ترعاهم وتحميهم إلى آخر نسمة من حياتها ".
أما د.سليم حسن عالم المصريات الشهير، فيرجع جذور الرؤية البلوتاركية لكليوباترا إلى مؤرخين يهود ساهموا في الحرب الإعلامية الرومانية ضد كليوباترا، ومنهم نيكولاوس الدمشقي وقد كان مربيا لأبناء كليوباترا، ثم ترك خدمتها وانضم إلى حاشية الملك اليهودی هیرودس الكبير، ولقد ألف نيكولاوس الدمشقي كتابا بعنوان "عن الحروب اليهودية" وله مؤلف آخر بعنوان الآثار اليهودية، ولقد ضمنهما  معلومات مكذوبة عن علاقة كليوباترا بالملك اليهودی هیرودس الكبير .
ويذكر سليم حسن أن كليوباترا قد استولت على بعض الأراضي من ممتلكات هیرودس، فقام بتحصين حدوده الجنوبية خوفا من وقوع غزو مصری مفاجئ. فعلاقته بكليوباترا إذن كانت علاقة حرب مما ينفي إمكانية قيام علاقة غرامية بينهما كما صور مؤرخو اليهود. وهي نفسها الفكرة التي يرجحها الدكتور أـحمد عتمان في دراسته عن كيفية تشويه سمعة كليوباترا.
اغتيال لا انتحار
باختصار تقول الرواية الرائجة إن كليوباترا بعدما أيقنت من هزيمة مارك أنطونيو، في مواجهة أكتافيوس، كتبت خطابا وأرسلت به إلى أكتافيوس، ثم أغلقت الباب عليها وانتحرت هي واثنتين من وصيفاتها بلدغات ثعبان الكوبرا.
وهناك روايات أكثر معقولية تقول بأن أوكتافيوس هو من قتل الملكة في إطار سعيه لإحكام السيطرة على الإمبراطوريّة الرومانيّة، إذ كان حاكماً للجزء الغربي من الإمبراطوريّة، بينما كان مارك أنطونيو مُسيطراً على الجزء الشرقي، مما يشير إلى أن انتحار كليوباترا لم يكن إلا حيلة دبرها أوكتافيوس لإخفاء فعلته، كما أن كليوباترا كانت من الفراعنة الذين يؤمنون بالآلهة إيزيس، وكانت تعتقد بتناسخ الأرواح معها، فمن ضمن أحد النقوش الجداريّة المصريّة وجدوا صورة لإيزيس – والتي كانت تُرسم على شكل أفعى – بجانب الملكة كليوباترا. ومن هنا أتت قصة الانتحار بالأفعى، فالأمر لم يكن انتحاراً بأفعى وإنما تناسخ أرواح مع الآلهة إيزيس فقط لم يفهمه بلوتارك ومن تبعوه فاستخدموا القصة لتشويه الملكة المفترى عليها، لكنها رغم رسوخ الافتراءات لم تعدم من يدافع عنها ويظهر حقيقتها ومن هؤلاء أصحاب الدراسات الضافية التي ضمها هذا الكتاب.