"كما تكونوا يوّلى عليك" أم "يوّلى عليكم رغم أنفكم"!

لا يشير التاريخ العربي الإسلامي، ولا حتى تاريخ العالم، إلى أن الحكم يعكس صفات الشعوب.

يردد البعض حكمة ذات وجهين "كما تكونوا يوّلى عليكم"، ويدعي البعض أنها ليست حكمة بل حديث نبوي شريف، لكن هذا الزعم مُتهافت، وفي الأقل فهو حديث ضعيف، منقول عن شخص موسوم بالكذب، لكن البعض يردده عندما لا يجرؤ على تشخيص العلة فيضع وزرها على ظهور الناس.

والسؤال كيف توّلى بعض الناس أمور الناس؟

لنتجاوز الزمن الذي ظهرت فيه هذه الحكمة التي لا تعد حكمة لأنها ببساطة تزوير للواقع، ومغالطة بينه، تنشد مساواة وتشابه الضحية مع الجلاد.

ونذهب إلى ما أصطلح عليه بالعصر الجاهلي، فسوف نجد أن أغلب ما سيصطلح عليه فيما بعد بالعالم العربي يقع تحت حكم وسيطرة أجانب، مصر والشام وشمال أفريقيا تحت حكم الرومان، والعراق تحت حكم الفرس، واليمن تتراوح بين حكم الأحباش والفرس، حتى بعد سيف بن ذي يزن، والمحتلون ليسوا فقط كما ناس البلاد، بل ليس منهم.

وحتى في العصر الذهبي الإسلامي (عصر الخلفاء الراشدين) كان من يختار الخليفة جماعة مُحددة من الناس، يعدون على أصابع اليدين، هم ليسوا كل المسلمين، ولا أكثريتهم، بل هم أهل الحل والعقد والشورى، وكان عليهم إختيار خليفة ليس مسلماً فقط، وإنما عربياً، وليس عربياً فقط، وإنما من المهاجرين لا الأنصار، وليس مهاجراً فقط، بل من قريش تحديداً، وعندما يتم إختيار أو تعيين الخليفة يتم أخذ البيعة له. نفس الشيء حدث بعد أن أصبح الحكم وراثيا في العهد الأموي، فإننا سنرى أن البيعة تؤخذ من المسلمين للحاكم الجديد، الذي سوف لن يأتي هذه المرة عن طريق الشورى، وإنما عن طريق الوراثة، ومن يمتنع عن البيعة يقطع رأسه حتى لو كان حفيد النبي، ويعلق على أستار الكعبة حتى لو كان حفيد الخليفة الأول.

ولم يكن العهد الأموي بدون مقاومة من عامة الناس، فما كانت تقوم ثورة حتى تنهض أخرى، إلى أن أسقط الحكم الأموي، وحكم العباسيون الذين كان خليفتهم الأول يكنى بـ"السفاح"، من كثرة ما سفح من دم الأمويين والمعارضين، والطامحين إلى الحكم، لقد وصل التجبر بالخليفة العباسي أن يعد نفسه "ظل الله في الأرض" في مفارقة عجيبة عن عامة الناس، وفي تمايز عنهم يذكرنا بالملوك أنصاف الألهة، في العصور القديمة قبل ظهور الأديان السماوية، وآل الأمر فيما بعد إلى أن تسمل عيني ظل الله في الأرض، وأن يهان، ويحتقر، ويساء لأهله ونسائه بعد أن أصبح أسير الحاشية من الأغراب الذين إعتمدهم لإركاع وإخضاع وقهر أبناء جلدته.

ويأتي المغول، وتأتي بعدهم أقوام أخرى حتى يحل عهد الإستعمار، فينصب المستعمر حكامنا وأسيادنا، وفي بعض الأحيان ليسوا منا، أو في الأقل ليسوا أفضل من فينا، وتحل مرحلة الثورات والإنقلابات، التي تعقب الناجح منها أنقلابات رده، من الغريب أنها تمتد وتعمر أكثر من امتداد الثورات الأ صلية، المستجيبة للضرورات الموضوعية.

ويقولون لك توصلت البشرية في نهاية المطاف، وفي الرأسمالية، آخر تشكيلة إقتصادية إجتماعية، إلى أن يكون الحكام ممثلين عن الشعب، ومختارين من قبله، عبر انتخابات عامة، وهي انتخابات لن يتاح لمن يرغب المشاركة فيها كمرشح، وسيكون مصيره الفشل وخسران ما لديه من مال لو تجرأ على الترشيح من دون أن ينتمي إلى أحد الحزبين في أميركا، أو إلى الأحزاب التي تقرر أن تتداول الحكم في الدول الأخرى، أو أن لا تكون واجهة أو معبراً عن جماعات نفوذ تملك السلطة الفعلية وهي سلطة المال، التي تعني القوة والنفوذ، والقدرة على التأثير على الناخبين عبر إعلام، لا يملكه بسطاء الناس بل يملكه دهاقنة رأس المال، وهو القادر في نهاية المطاف على حسم المعركة الانتخابية، خصوصاً إذا تضافر مسعاه مع السخاء المالي المنفق على الحملات الانتخابية، رجال المال هم أهل الحل والعقد والشورى في هذا الزمن، وهم الذين يجرون أمام أعيننا، وبأستمرار، وبلا إنقطاع مهزلة الانتخابات، التي ننشغل بها كل أربعة أو خمسة أعوام.

من يتولى أمر الناس قديما وحديثاً، يتولاه بالغلبة، أكانت هذه الغلبة بحد السيف والمدفع، أم سطوة المال ومهرجاناته الهزلية فيما يسمونه الانتخابات النيابية أو الرئاسية.

الحكم يعني إحتكار إستعمال القوة والعنف، وغالباً ما يفعل جوهر الحكم لا من أجل الناس الذين هم تحت الحكم، وإنما للحفاظ على مصالح من يمثلهم الحكم، سواء كانوا دهاقنة المال، أو أهل الحل والعقد، فلا عجب أن تجد الديمقراطيات المتباهية بديمقراطيتها تفتل عضلاتها على الشعب الأعزل، وتنزل شرطتها وجنودها المسلحين، الذين يغطيهم الحديد حتى أخمص أقدامهم لمواجهة الشعب الأعزل الذي يطالب ببعض حقوقه ممن إغتصب هذه الحقوق. 

كلا.. زعم كاذب القول "كما تكونوا يوّلى عليكم"، فالذين يتولونكم ويحكمونكم، يتولونكم ويحكمونكم رغم أنفكم، وأن تعددت الطرق والأساليب والحيل.