كيف نظر بلقاسم مارس لأعمال نبيل فاروق!

بنية الرّواية بدت بنية تقليديّة قائمة على التّتابع الخطيّ والتدرّج من التّمهيد إلى توتر الأحداث وحدوث جريمة القتل أثناء البحث عن عالم الطيران المختطف.
بعض الرّوائيّين عملوا على تحويل الوقائع البوليسيّة إلى ما يُشْبه الوقائع الجاسوسيّة الملغّزة
محاولة جادة لمزاولة موضوع آسر من المواضيع التي لا تخوض في مياه البحث الآسنة

في تقديمه لأحدث كتب الناقد الدكتور بلقاسم مارس، الأستاذ بجامعة قابس التونسية، الذي عنوانه "السّرد البوليسيّ في الرّواية العربيّة.. كتابة المحاكاة وكتابة الانزياح والتّوظيف" يوضح العالم التونسي الكبير الدكتور محمد القاضي أن الرواية البوليسية تُعَد جنسًا هامشيًا يندرج ضمن ما يعرف بالأدب الموازي.
ويؤكد أستاذ السرديات الدكتور محمد القاضي أننا في هذا البحث إزاء محاولة جادة لمزاولة موضوع آسر من المواضيع التي لا تخوض في مياه البحث الآسنة، بل تسعى إلى التسلل إلى المناطق المعتمة التي لا تخلو من مزالق. والحق أن بلقاسم مارس أثبت في هذا العمل سعة اطلاعه وطول أناته وقدرته على التحليل والاستنتاج وشخصيته البحثية، مما جعل هذا العمل، رغم ما يتحلى به من صرامة المقاربة، أشبه ما يكون بالرحلة الرائقة في منعطفات السرد البوليسي العربي.
وقد لفتني أثناء مطالعتي لهذا الكتاب أن مؤلفه يؤكد على أن الكاتب المصري الدكتور نبيل فاروق صاحب السلسلة الشهيرة "رجل المستحيل" - الذي رحل عنا مؤخرا - يعدّ من أشهر كتاب الرّواية البوليسيّة في الوطن العربيّ، وقد أصبح بطله "أدهم صبري" أشهر شخصيّة روائيّة في سلسلة "رجل المستحيل" ذائعة الصيت بين الشباب العربي، التي صدرت منها مئات الأعداد، كان أوّلها بعنوان "الاختفاء الغامض"، التي حقّقت مبيعات بمئات الآلاف. كما نجد "حافظ نجيب" الذي جعل نفسه بطلًا في الرّواية لأحداث سياسية وثقافية مختلفة.
وذكر بلقاسم مارس في كتابه هذا أن "الاختفاء الغامض" لنبيل فاروق، و"رأفت الهجان" لصالح مرسي، و"منْ قتل ليلى الحايك" لغسان كنفاني، و"الحوت الأعمى" لميلود حمدوشي وعبدالإله الحمدوشي اللّذين لا يتردّدان في التّصريح أعلى زاوية من غلاف العمل في وصف هذه الرّواية بأنّها "سلسلة روائيّة بوليسيّة"، ولعلّ هذا التّصريح أو البيان هو عتبة نصيّة أوليّة ورئيسيّة تضعنا أمام إشكالات وأسئلة معرفيّة متّصلة بجنس الرّواية وتصانيفها.  

Departure of the literati
نببيل فاروق في شبابه

ويضيف إن هذه الرّوايات - على تنوّعها - نجحت في أنْ تستجيب لبنية الرّواية البوليسيّة، وهي التي وسمها الباحث بالرّوايات البوليسيّة الخالصة التي تفيد من تقنيات النّصّ البوليسيّ الذي يرسم مسارات معقدة في المحكيّ البوليسيّ. ويمكن القول إنّ هذه الرّوايات تحترم قواعد التأليف في القصّ البوليسيّ، كما وضعها منظّرو الرّواية البوليسيّة الغربيّة على شاكلة ما أورده تودوروف في نقاطه الثّماني المختصرة وهو ما حاولت بعض الرّوايات العربيّة - على ندرتها - تمثّلها.
ويضيف المؤلف أن بعض الرّوائيّين مثل (صالح مرسي ونبيل فاروق) عملوا على تحويل الوقائع البوليسيّة إلى ما يُشْبه الوقائع الجاسوسيّة الملغّزة باعتبارها عالمًا فنيًّا يُسردُ. فتضمّنت وثائق سريّة للعمليّات المخابراتيّة وشخصياتها تجذبنا فيها مُتْعة التّخييل والتّشويق لتتبّع الأحداث وما وراءها. وتُجسّد أمامنا الجوانب الإنْسانيّة في شخصيات تلك النّصوص بأدوات فنّيّة تدْخلنا إلى هذا العالم وتضمن تجاوبنا الشّعوريّ معه.
وتحت عنوان "الحبكة القصصيّة في رواية الاختفاء الغامض لنبيل فاروق" يقول بلقاسم مارس: "تحفل رواية "الاختفاء الغامض" بالدّراما البوليسيّة تجسّدها مظاهر من الصّراع العربيّ الاسرائيليّ، بطلها "أدهم صبري" ضابط المخابرات المصريّ في مواجهة تعنّت الموساد.
 وقد حاول نبيل فاروق من خلالها تمثّل أدب الجاسوسيّة مستعيرًا بنية الرّواية البوليسيّة الغربيّة  الخالصة. وعمل من خلال منجزه الرّوائيّ على الإجابة عن أسئلة مختلفة من قبيل: من هو الجاسوس؟ وما هي الآليات التي يستعملها من قبيل أسراره وقيادته لحرب المعلومات وسبل توظيفها في مختلف الحروب؟ 
فالجاسوسيّة فنّ وعلم بالنّسبة إليه لا بدّ من الأخذ بناصيّة علومها من قبيل العمل بالمنهج الاستقرائيّ والاستنتاجيّ والعلميّ. 
وقد قال الكاتب الراحل نبيل فاروق في هذا الإطار: "أستفيد بخطوط المنهج العلميّ وتنظيمه وعند كتابتي للقصص أتعامل بنفس المنهجيّة في التفكير. أما شخصيّة "رجل المستحيل" فقد عشت معها أكثر من ربع قرن ومما شجعني على الاستمرار فيها هو ما لقيته من تشجيع القرّاء في الوطن العربيّ كله" 
ويشير المؤلف إلى أن رواية "الاختفاء الغامض" لنبيل فاروق، تُعدّ رواية جاسوسيّة تعْرض هي الأخرى صراعًا بين أجهزة المخابرات المصريّة وأجهزة المخابرات الإسرائيليّة على أرض ثالثة (باريس): "في ذلك المبنى المميّز بالعلم الأبيض والأزرق وقف الرّجل القصير أمام شابّ أبيض الوجه أجدع الأنف قال القصير بغضب هذا العمل لا يصلح ستتسبّبون في إقالتي من منصبي لقد فشلتم في التخلص من الفتاة وفشلت في التخلّص من رجل المخابرات المصريّ.. ماذا دهاكم العالم كله يعرف أنكم محترفون في هذا المجال".
ويقول مارس إن الأحداث في رواية "الاختفاء الغامض"، من أوّلها إلى نهايتها، تُقدّم بضمير الغائب: هو، أو هي العائد إمّا على ضابط المخابرات "أدهم صبري"، أو الملازمة "منى توفيق"، وكلاهما من جهاز المخابرات المصرية.
 ويبدو السّارد فيها عليمًا ببواطن شخصياته مدركًا لما يعتمل في دواخلها من هواجس ومشاعر مطلعًا على مكوّناتها النّفسيّة والاجتماعيّة: (شخصيّة المحقّق أدهم صبري، شخصيّة الملازمة منى توفيق، شخصيّة العالم المصريّ المختفي، الرجل الأصلع، شخصيّات جهاز المخابرات الإسرائيليّ)، وهي وظيفة ساعده فيها كثيرًا ضمير السّرد المستعمل في هذه الرّواية، إذ تخلق طرائق السّرد بضمير الغائب في رواية "الاختفاء الغامض" مساحة وزاوية نظر تسمح بتعْرية الشّخصيّة القصصيّة وكشفها ومعرفة دواخلها.
 فبدا السّارد في "الاختفاء الغامض" عليمًا بكلّ أطوار المواجهة بين أجهزة المخابرات المصريّة والإسرائيليّة في باريس إذ لا صوت يعلو فوق صوته.
وقد تشكّلت رواية "الاختفاء الغامض" من خمس عشرة وحدة قصصيّة تحمل عناوين ذات إيقاع بوليسي متّصل بأدب الجريمة، ممّا يسّر انتماءها إلى أدب الجوْسسة من قبيل (قفزة انتحاريّة، المهمّة المستحيلة، مفاجأة في فندق، صراع في البرج، صراع مخابرات، جريمة قتل، المهمّة الأولى، الجاسوس الأشقر، القنبلة، معركة جديدة، العدّ التّنازليّ، برقيّة عاجلة، المطاردة، رجل وطائرة، التّقرير الأخير). فرواية "الاختفاء الغامض" بمثابة المقاطع السّردية المتتاليّة والمتصلة فيما بينها يحكمها التّوالي والتّتابع الحكائي تُنسجُ من خلاله خيوط حبكة قصصيّة بوليسيّة بطلها رجل المخابرات المصريّ "أدهم صبري" في مواجهة عميل بجهاز المخابرات الإسرائيليّ اختطف عالمًا مصريًّا وينوي ترحيله إلى تل أبيب "يجب أن تنتهي العمليّة اليوم . يجب أنْ ينقل الدّكتور جمال إلى دولتنا الليلة وسأشرف على العمليّة بنفسي".
وبذلك تكشف الرّواية عن علاقة المحكيّ البوليسيّ بالتّاريخ الاجتماعيّ والسّياسيّ، والتّوظيف المتنوّع لعناصر الحياة المدينيّة وما تفرزه من جرائم واختفاءات (توظيف تقنيات النّص البوليسيّ للتعبير عن موقف حضاريّ).
 يشير مارس إلى أن هندسة السّرد في "الاختفاء الغامض" تُبيّن أنّ الأحداث في هذه الرّواية تنهض بشكل  أساسيّ على التنوّع والتّسارع ومن خلالها يعمد السّارد إلى الخروج من حدث والدّخول إلى آخر وصولاً إلى حلّ لغز الاختفاء الغامض.
وتدور أحداث رواية "الاختفاء الغامض" حول اختطاف واحد من أعظم علماء الطيران في مصر "جمال عمّار" لامتلاكه أسرار المؤسّسات العلميّة والعسكريّة والأمنيّة ولا سيما ما تعلّق منها بملف المخابرات الجوية (سلاح الطيران).
 "لقد كان هذا الرّجل يضع تصميمًا سرّيّا لطائرة جديدة وقد اقتربت تجاربه من النّجاح عندما سافر إلى فرنسا لحضور مؤتمر خاصّ بالطّيران الحديث.
 وبرغم الحراسة القويّة التي كانت حوله فإنّ هذا الرّجل اختفى". ونتيجة لهذا الاختفاء الغامض تمّ تكليف عنصر المخابرات "أدهم صبري" الذي يحمل رقم (ن-1) صحبة الملازمة في المخابرات المصريّة "منى توفيق" للبحث عنه في باريس وجلبه إلى مصر.

ولما كانت بؤرة السّرد تستهدف رجل المخابرات بما يمتلكه من قدرات خارقة، فقد افتتحت الرّواية بتقديم موجز يعرّف من خلاله نبيل فاروق بالرّجل المستحيل "أدهم صبري" قبل الدّخول الفعليّ إلى المتن الرّوائيّ على سبيل التّقديم للرّواية: "لقد أجمع الكلّ على أنّه من المستحيل أنْ يُجيد رجل واحد في هذه السنّ كلّ هذه المهارات" ولكن أدهم صبري حقّق هذا المستحيل واستحقّ عن جدارة ذلك اللّقب الذي أطلقته عليه إدارة المخابرات الحربيّة لقب رجل المستحيل". فهو من هذه النّاحية قطب رئيسيّ في الرّواية تعمل مختلف الوحدات السّردية على بيان القدرات العجيبة التي يتمتّع بها.
لقد بدت بنية الرّواية بنية تقليديّة قائمة على التّتابع الخطيّ والتدرّج من التّمهيد إلى توتر الأحداث وحدوث جريمة القتل أثناء البحث عن عالم الطيران المختطف، ثم كانت العودة إلى الهدوء من جديد ونجاح البطل في مهمّته الاستخباراتيّة وتحقيق الهدف المنشود (استرجاع العالم المخطوف) بعد مدّة زمنيّة لم تتجاوز الثّماني وأربعين ساعة. 
وتعمل محاولة نبيل فاروق على صياغة نصّ روائيّ بوليسيّ مستفيدة من الرّواية الجاسوسيّة باعتبارها من أشكال الكتابة الرّوائية البوليسيّة خاصّة وأنّ الأحداث في هذا المحكيّ البوليسيّ متّصلة شديد الاتّصال بملفّات المخابرات المصريّة العامّة وبفروعها في القوّات الجوّية ، فكأنّ المؤلّف في هذا الصّنف من الكتابة الرّوائيّة يسعى إلى تحقيق نوع من المحاورة والتّفاعل بين الحبكة البوليسيّة والحبكة الواقعيّة تعكسها الجريمة والتّحقيق والمطاردة ونهاية تكشف أسرار الجريمتين (الاختفاء والقتل) وفي نفس الوقت "التّأسيس لكتابة جديدة لا تتنكر للواقع ولكنّها تقاربه من زاوية الجريمة والمجرمين ومن ثمّ فالتّعبير عن الواقع لم يقتصر على رصد التّجربة الواقعيّة بل جاء أيضا من ضفاف النّصّ البوليسيّ"، هذا الرّصد للواقع برؤية بوليسيّة جاسوسيّة من شأنه نقل نجاحات عناصر المخابرات المصريّة وقدرة الانسان المصريّ والعربيّ على الفعل والإنجاز متى توفّرت له الظّروف المناسبة للفعل في وقت خيمت فيه هزيمة 1967 على الإنسان العربيّ ودعته إلى مراجعة غاياته.