لينين الرملي .. مغامرة على مسرح الحياة

جرجس شكري يرى أن لينين الرملي كان يعايش شخصياته سنوات طويلة قبل أن يضعها فوق المسرح.
لينين الرملي ناقش الخرافة التي سيطرت على حياة المصريين في مسرحيته "عفريت لكل مواطن"
الرمل كتب خمسًا وخمسين مسرحية من لحم ودم

لجأ الناقد جرجس شكري إلى هذا "البرولوج" ليبدأ به كتابه عن واحد من أهم كتاب المسرح المصري، وأكثرهم جماهيرية على الصعيد العربي كله، بما كتبه من نصوص أضاءت العديد من المسارح العربية عدة مواسم. اختار جرجس أن يوجه رسالة إلى لينين الرملي، بعد رحيله، يذكره فيها بما يحتفظ له في جعبته من ذكريات رأى أن ينشرها هذه الأيام على صفحات "كتاب الهلال". 
وفي مناجاته للينين الرملي يقول جرجس شكري: 
على مدى سنوات، أنفقنا ساعات طويلة تحكي لي وأسمع منك، وفي أحيان كثيرة تمتد الحكايات وتطول حتى الصباح، حين لا تكفي السهرة، نطوف شوارع القاهرة نحكي ونسخر ونضحك.
كنت تحكي وكأنك تقدم مشاهد مسرحية ترسمها بدقة، تحكي وكأنك تكتب، وترسم الحركة للشخصيات، وتبني الديكور.
وكنت المتفرج الوحيد في مسرحك الليلي، وقد كنت محظوظًا دون شك أن أشاهد لينين الرملي خارج محيط الأوراق والكتب، على مسرح الحياة، وبعيدًا عن خشبة المسرح. 
ثم يوجه خطابه لقارئه فيقول:   
حكى لي لينين الرملي عن حياته، عن: سعاد زهير، وفتحي الرملي، وأول قصة كتبها ونشرها له صلاح جاهين في مجلة "صباح الخير"، عن أول نص مسرحي كتبه في "التخشيبة" حين ذهب ليكمل أوراق البطاقة الشخصية في قسم البوليس، عن المسرحية التى كتبها والده فتحي الرملي له مع أبناء عمه وجيرانه حتى يمثلوها، فسخر لينين منها لأنه شعر أنه يكتب لهم كأطفال، فأعاد كتابتها وفقًا لقناعته.
وعن حزنه على بنت الجيران التي هاجرت مع أهلها إلى حي آخر، فظل يذكر تاريخ هذا الفراق طيلة حياته، حكى لي عن أول مجلة أسسها وطبعها بمساعدة والده. وكيف ذهب إلى المطبعة ليتسلم النسخ.
ثم عمله كمحرر ثقافي بجريدة "العمال"، وكيف اكتشفت والدته موهبته، وكانت تمده بالكتب في فترة مبكرة من حياته.

لينين الرملى كان يحذر من سطوة الأجهزة الأمنية في مسرحية "اللهم اجعله خير"، ومن سطوة الماضي الذي أصبح الحاكم والمسيطر في "أهلاً يا بكوات"

ويشير جرجس إلى أنه لم يكن يهتم بتسجيل هذه الحكايات، ويضيف: كنت أكتفي بالدهشة والإعجاب، فقد حكى لي عن سخريته من النقاد، ومما يكتبونه عن أعماله، ودائمًا كان يقول لي: أنا لا أرد على أحد، لا أهتم، فقط أكتب.. ثم يضحك!
حكى لي كثيرًا عن نصوصه المسرحية وكيف كتبها، وكان يشير إلى نص ما ويقول: بدأته عام 1977 وظلت الفكرة تطاردني، ولم يكتمل إلا في منتصف التسعينيات.
وتوقفت طويلًا أمام هذه المعلومة التى لا تخلو من دلالة، فقد كان لينين الرملي يعيش مع شخصياته سنوات طويلة قبل أن يضعها على خشبة المسرح. 
ويذكر مؤلف هذا الكتاب الذي يجمل عنوان "مغامرة لينين الرملي" أنه رغم نشأة لينين في بيت يساري إلا أنه لم يكن يساريًا! ورغم أن وعيه تفتح في الحقبة الناصرية إلا أنه لم يكن ناصريًا، وكان يعلن دائمًا أنه ضد هذه الحقبة، وقد كتب مسرحية "سعدون المجنون" ليحاكم من خلالها تلك الفترة، رغم أنه بدأ حياته المسرحية مطلع السبعينيات، في اللحظة التى بدأ فيها المسرح يتراجع، ولجأ أغلب المسرحيين إلى مسرح الدولة، لكنه هو قرر أن يبدأ حياته في المسرح التجاري الذي اكتسب سمعة سيئة، وقتذاك، في خطوة لا يمكن وصفها إلا بالمغامرة الكبرى، بل والمحفوفة بالمخاطر، لكنه بدأ وغيّر مفهوم المسرح التجاري في أذهان الجمهور. 
ويقول جرجس شكري إن لينين الرملي كان حرًا مستقلًا، ولم ينحز إلى تيار أو اتجاه، بل كان يكره الأيدولوجيا.
درس المسرح وكتب خمسًا وخمسين مسرحية من لحم ودم دون أن يتشدق بالنظريات، ويفخر بمعرفة المدارس المسرحية الحديثة أو القديمة، وكان يحب المسرح، ولم يفكر في الجوائز، أو في المهرجانات، كان يفكر فقط في العرض المسرحي، ولم يعلن يومًا عن مثله الأعلى أو أستاذه في الكتابة المسرحية ، فقط كان يحب توفيق الحكيم.  
لينين الرملي ترك المسرحيين يتنازعون حول أشكال الكتابة وأصول المسرح المصري، حول النظريات والمهرجانات والجوائز، وتفرغ هو للبحث في الشخصية المصرية؛ ملامحها، صفاتها، والبناء العميق لهذه الشخصية.
واختار الكوميديا، والسخرية على وجه التحديد، ليعبِّر بها عن هذه الأمة، فمن خلال خمس وخمسين مسرحية، وأحد عشر فيلمًا، وما يقرب من خمسة مسلسلات تليفزيونية، وعدد كبير من الأعمال الدرامية الإذاعية، كتب لينين الرملي شخصية الشعب المصري، ووصف حياته في أسلوب كوميدي من خلال الدراما الاجتماعية، واستطاع أن يؤرخ لنصف قرن من قضايا المصريين بالسخرية. فقد درس طبيعة الشعب المصري إلى جانب المسرح، واختار الكوميديا التي تتناسب وروح هذا الشعب الذي يعرف كيف يتذوق الضحك، فهو لا يقاوم بالضحك في أحلك الظروف، بل يعيش ويقتات على السخرية، حيث قاوم المصريون الطغاة بالسخرية من خلال خيال الظل والأراجوز.
واختار هو هذا الأسلوب ليناقش أعمق القضايا، بل وليؤرخ لحياة المصريين دراميًا.
فكتب لينين الرملي تاريخ المصريين قديمه وحديثه بالكوميديا!  
عزيزي الكتاب المسرحي الكبير لينين الرملي:    
دون شك وأنت تحكي لي كل هذه التفاصيل كنت تقصد أن تكمل لي الصورة، الجانب الخفي الذي لا أعرفه، الجانب الذي لم أقرأه في نصوصك، كانت الحكايات تعود بنا إلى  خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وكنت قد  تعرفت على لينين الرملي على المستوى  الشخصي مطلع الألفية الثالثة. ومنذ عام 2006 بدأنا نلتقي بشكل منتظم، كل أسبوع، تجمعنا سهرات تمتد للساعات الأولى من الصباح، ينطلق فيها لينين ليحكي عن حياته ورؤيته لهذا العالم، يحكي لي كيف كتب هذه الأعمال، يحكي لي عما يشعر به من مرارة ناحية العالم، لم يكن محبطًا بل كان مشفقًا على هؤلاء الذين ينفقون حياتهم في صراعات تافهة لا قيمة لها.

لينين الرملي الذي غيَّر مفهوم المسرح التجاري، الكاتب الأكثر تأثيرًا في وجدان المصريين من خلال أعماله التي لفتت انتباهنا جميعًا، ولذلك فقد نال جائزة الأمير كلاوس عام 2006، ونالها بعده الشاعر أحمد فؤاد نجم، وهو الذي استطاع أن يقرأ ما طرأ على المجتمع المصري من منعيرات، ويطرح أسئلة اللحظة الراهنة، ولكن من خلال أسلوب كوميدي في دراما اجتماعية، ثم تطور الأمر إلى أسئلة وجودية، أعقبتها مناقشة قضايا سياسية في مرحلة أخرى من حياته المسرحية، ولكنه في الأحوال كافة كان يعالج عبث الحياة والمآسي التى يعيشها الإنسان بالسخرية في قالب كوميدي.
في هذا الكتاب يؤكد الناقد جرجس شكري أن لينين الرملي لا يمكن تسكينه في خانة المسرح التجاري، أو مسرح الدولة، أو الفرق المستقلة على الرغم من أنه مارس أشكال المسرح كافة في صيغه الإنتاجية، لكنه احتفظ لنفسه بشخصية لا تمثل سواه.
ولكن فجأة انهار لينين الرملي، أو قُل: قرر التوقف عن التواصل مع هذا العالم الذي شغله لأكثر من نصف قرن، حين كان يحاكيه في حيوات مماثلة على خشبة المسرح، هذا العالم الذي نقله في صور متعددة من مئات المشاهد المسرحية والسينمائية والتليفزيونية والمسامع الإذاعية. فجأة انسحب لينين الرملي إلى عالم يعيش فيه وحده قبل أن يفارق الحياة، هذه المخيلة الفذة التى قدمت عشرات الشخصيات الدرامية للواقع المصري. ففجأة انهارت،  لتنوقف الحياة.
كان متماسكًا قويًا، ولا نعرف كيف حدث هذا الانهيار المفاجئ للذاكرة، وكيف سقطت هذه المخيلة الجبارة، وربما يكون هذا هو ما حدث للناقد المسرحي الكبير فاروق عبدالقادر، وإن كان كلاهما على  النقيض على المستوى الأيديولوجي، لكن جمعتهما الموهبة، والإخلاص لفن المسرح، والإيمان بدوره.
ويشير جرجس شكري في هذا الكتاب إلى أن لينين الرملي منذ البداية على يقين بأن المسرح ضد السلطة؛ أيًا كانت، وأنه لا يمكن أن يتم تسييسه لصالح مؤسسة أو حكومة.
وكان يؤمن بالناس الذين صنعوا فنهم الدرامي عبر العصور بعيدًا عن السلطة، وخارج الإطار الديني، بل غالبًا في غفلة منهما.
فقرر منذ البداية التحرر من المؤسسة الرسمية، وكانت أولى مسرحياته "إنهم يقتلون الحمير" 1974 من إخراج جلال الشرقاوي في مسرح القطاع الخاص وصولاً إلى مسرحية "اضحك لما تموت" من إخراج عصام السيد في المسرح القومي عام 2017.  
ويوضح لنا جرجس شكري أنه قرأ أعمال لينين الرملي المسرحية دفعة واحدة، وذلك حين حصل على جائزة الأمير كلاوس من هولندا، وهي الجائزة التى تمنح للكاتب الأكثر تأثيرًا في مجتمعه.
ويذكر المؤلف أنه قرأ هذه الأعمال حين طلبت منه إحدى الدوريات الكتابة عنه بمناسبة تتويجه بهذه الجائزة، وحين بدأ القراءة تغيرت الصورة تمامًا، لأنه اكتشف الوجه الحقيقي لهذا الكاتب الذي غيّر مفهوم مسرح القطاع الخاص في سبعينيات القرن الماضي، وكان جرجس مشغولًا أثناء القراءة بالبحث عن كيفية تأثيره في المجتمع، وهو السبب ذاته الذي حصل من أجله "لينين" على الجائزة، وأثناء القراءة ودراسة الشخصيات وتأمل الحوار العميق والبسيط  في آنٍ، ظهرت صورة مختلفة عما كان في ظنه من قبل، فمن خلال النصوص التى تقرأ الواقع المصري في كل مراحله بدأت شخصيته تتجسد أمام مؤلف الكتاب عبر مراحل متعددة، سواء في المسرح التجاري، أو في مسرح الدولة أو الفرقة الخاصة التى كوّنها مع زميله محمد صبحي، أو مع فرقته التى كونها بمفرده عام 2000 مع مجموعة من الهواة.
وفي كل هذه المراحل كان الرملي يقرأ أحداث المجتمع المصري، ويطرح أسئلة اللحظة الراهنة، ولكن من خلال أسلوب كوميدي في دراما اجتماعية، ثم تطور الأمر إلى أسئلة وجودية، إلى قضايا سياسية واضحة ومباشرة في مرحلة أخرى، ولكنه في كل الأحوال كان يعالج عبث الحياة والمآسي التى يعيشها الإنسان بالسخرية في قالب كوميدي، فثمة وعي حاد بكل أحداث المجتمع المصري.
 وعلى سبيل المثال، راح يحذر من سطوة الأجهزة الأمنية في مسرحية "اللهم اجعله خير"، ومن سطوة الماضي الذي أصبح الحاكم والمسيطر في "أهلاً يا بكوات"، ومن قبل ناقش الخرافة التي سيطرت على حياة المصريين في "عفريت لكل مواطن". 
ويوضح المؤلف أنه منذ عام 2006 لم يكن لينين الرملي بالنسبة له الكاتب المسرحي المتميز الذي يشاهد عروضه ويتناولها بالنقد والتحليل فحسب، بل أصبح ظاهرة وحالة نادرة في المسرح المصري؛ حالة مختلفة لا تشبه سواها.
وتتوالى فصول الكتاب بعناوينها المغرية بالقراءة: "اللاعب الحَرِّيف في شارع  المسرح"، و"مغامرة المسرح التجاري"، و"الميتافيزيقا والفارس في استديو80"، و"لينين في مسرح الدولة"، و"وداعًا يا بكوات والسوبرمان الأصيل"، و"قراءة اللحظة في عين الحياة"، و"وزير فاسد.. في المسرح القومي."