ماجد عزت إسرائيل يكتب عن وادي النطرون في كتابات الرحالة

رهبان المسيحية الأولى سكنوا في وادي النطرون المعروف باسم "برية شيهيت"
السيدة العذراء ذهبت إلى منطقة الملَّاحات ومدت يدها لتشرب فصار ماؤها عذبًا ولا يزال حتى يومنا هذا
"وادي النطرون" يعد من أقدس البقاع في الأرض بما فيها من أديرة ورهبان ونساك

"نبع مريم" هو العنوان الرئيس لسفر ضخم يقع في 600 صفحة من القطع الكبير، يتممه عنوان آخر هو "وادي النطرون في كتابات الرحالة من القرن الرابع الميلادي حتى القرن العشرين"، ومؤلف هو الدكتور ماجد عزت إسرائيل، وقد صدر مؤخرًا في القاهرة عن دار غراب للنشر.
لماذا "نبع مريم"؟ ولماذا "وادي النطرون"؟
الحقيقة أن "نبع مريم" هو المكان الذي عطشت فيه السيدة العذراء أثناء مرورها بوادي النطرون في رحلة العائلة المقدسة إلى مصر، فذهبت إلى منطقة الملَّاحات ومدت يدها لتشرب فصار ماؤها عذبًا ولا يزال حتى يومنا هذا، ومن هنا أطلق عليه "نبع مريم"، ومع الوقت تغير اسمه إلى "نبع الحمراء".
أما لماذا "وادي النطرون"؟ فلأن رهبان المسيحية الأولى سكنوا في هذا الوادي المعروف باسم "برية شيهيت". وكان هذا الوادي ذا طبيعة خاصة لأنه يُعد حصنًا دفاعيًا واستراتيجيًا لصد المغيرين على حدود مصر نتيجة الانتهاكات وأعمال السلب التي كانت تحدث من وقت لآخر.
أما لماذا استقرت الرهبنة في "وادي النطرون"؟ فذلك حديث آخر تميزت به المسيحية في كنيسة الإسكندرية التي قامت على فكرة الرهبنة أي أن يخلو الراهب في "قلاية" في الصحراء  يتفرغ فيها للتنسك والعبادة، وكانت "القلايات" جزءًا من الأديرة التي بناها الأوائل من المسيحيين الذين فرّوا من اضطهاد "هيرودوس" للمسيحية في بداية ظهورها. وكانت مصر مهجرهم، وكان الطريق إلى مصر يعني الاستقرار في "وادي النطرون" الذي باركته العائلة المقدسة.

فكرة هذا الكتاب تعود إلى سلسلة محاضرات ألقاها المؤلف في عدة أماكن بين عامي 2007 -2015

ومما يدل على ذلك ما جاء في الكتاب المقدس من أن ملاك الرب ظهر ليوسف في حلم قائلًا: "قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك، لأن "هيرودوس" مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه" (إنجيل متى من 2 إلى 13) فمرت العائلة في أثناء رحلتها على "مسطرد"، ووصلت "بلبيس" ثم "سمنود" ومنها إلى "سخا"، وعبروا النيل متجهين نحو الغرب حتى وصلوا "برية شيهيت" في "وادي النطرون" فقدست الطفل وباركته أمه.
هكذا صار المكان مقرًا للعباد والنسّاك كما ستظل "برية شيهيت" رمزًا لهذا الدين الذي نجا فيه رسوله بفضل هذه الرحلة التي أوحى بها الرب لكي يخرج المسيح من أيدي اليهود وينجو بدينه لينتشر بعد ذلك في العالم.
ولهذا يعد "وادي النطرون" من أقدس البقاع في الأرض بما فيها من أديرة ورهبان ونساك.
وهناك قصص كثيرة عن أحوال النساك والرهبان عبر العصور، وكيف كان يتواصل هؤلاء الناس بغير أن تكون لديهم وسائل اتصال معروفة، ذلك أن التأمل والتفكير كانا أهم سمة لرجل الدين وراهبه في العصور الأولى للمسيحية، ولا تزال إلى هذا العصر عند من تمسكوا بأصول المسيحية والرهبنة.
ويتحدث الكتاب عن البعد الطبيعي الجغرافي للصحراء الغربية وأقسامها الإدارية وما فيها من حياة زراعية وصناعية تحدث عنها بعض الرحالة في الألف سنة التي دارت فيها مخيلة الباحثين للتعرف على أحوال الكنيسة وأنشطتها قبل قيام الدولة العثمانية وأثنائها وبعد انهيارها.
وفي "وادي النطرون" أيضًا أنشطة تجارية واقتصادية محدودة تقوم على تجارة ملح النطرون، كما أن الكتاب يعرض للحياة الاجتماعية في "وادي النطرون" الذي هو جزء من الصحراء الغربية المصرية، ويشير إلى التفاعل بين أبناء الوادي من البادية وعلاقتهم بالغزاة البرابرة الذين كانوا يهاجمون الصحراء من جهة الغرب فيتصدى لهم أبناء الوادي، ولهذه الأسباب شُيدت الأديرة لتكون عند الخطر حصونًا تحمي ساكنيها من أي غزو خارجي وتجعل سكانها في مأمن من السلب أو النهب الذي كانوا يتعرضون له بسبب جفاف المنطقة وقلة ما تغله من احتياجات البشر.
نحن أمام كتاب يتحدث عن مجتمع يعيش في عزلة عن العالم لأنه يريد أن يرتبط بالعالم ويبشر بما لديه من حكمة وقيم دينية كان العالم في حاجة إليها عندما كانت المسيحية في بدء نشوئها، ولاقت عنتًا من أعدائها من اليهود والوثنيين، وصمدت هذه الديانة ثلاثة قرون حتى استطاعت أن تغير طبيعة العالم، وتحول الوثنيين إلى دينيين، وإن لم تنجح في تحويل اليهود إلى مسيحيين.
ويؤكد المؤلف أن كنيسة الإسكندرية ستظل لها شخصيتها المتميزة، وسيظل لرهبانها دورهم في حفظ هذا الدين من أخطار الغزو.
وقد قدم لهذا الكتاب ثلاثة من خيرة أساتذة التاريخ، ومن المثقفين المعاصرين: الدكتور عاصم الدسوقي، والدكتور بيتر جران، والدكتور استيفان رايخموط. وبذلك جمع هذا السفر الضخم في تقديمه بين مصري، وإنجليزي، وألماني.
وفي تقديمه يقول الدكتور عاصم الدسوقي إن هذا الكتاب يعد عملًا موسوعيًا من الدرجة الأولى، لأنه يغطي جوانب الحياة كافة في هذا الوادي، وخاصة الجانب الديني المتعلق بحياة الرهبنة بين أقباط مصر، وذلك من خلال كتابات الرحالة الأجانب من مختلف الجنسيات ممن قصدوا الوادي مباشرة من بلادهم، أو توجهوا إليه من القاهرة.

ومن واقع حياة هؤلاء الرحالة في جنبات الوادي سجلوا لنا تفاصيل دقيقة عن الحياة داخل الأديرة وتراتب درجات الرهبنة، ومسار العائلة المقدسة من حيث مرورها على الوادي، ومن حيث قدسية المكان التي مازال يحتفظ بها بين أهله ورواده الذين اطلعوا على ما ذكره أولئك الرحالة في كتاباتهم.
أما بيتر جران، الذي قدم هو الآخر للكتاب ولكن باللغة الإنجليزية، فقد قال في مقدمته: "يبدو أن دراسة د. إسرائيل عن الأديرة القبطية في وادي النطرون بمحافظة البحيرة، استهدفت جمهورًا خاصًا مهتمًا بهذه المؤسسات."
في حين يقول استيفان ريخموط، أستاذ الدراسات العربية والإسلامية في "جامعة الرور – بوخوم – بألمانيا": "يربط المؤلف بشكل واعٍ ما بين الكثير من المصار الأرشيفية المصرية لوادي النطرون خلال القرن التاسع عشر، فيصف تفاصيل الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لهذه المنطقة المهمة من حيث تصدير مادة ملح النطرون، والتنوع الاجتماعي والثقافي لسكانها من الفلاحين والبدو، ومن خلاله نستطيع أن نتلمس صورة المجتمع القبطي والمسيحي عامة في البيئة الإسلامية".
أما المؤلف فيقول إن فكرة هذا الكتاب تعود إلى سلسلة محاضرات ألقاها في عدة أماكن بين عامي 2007 -2015، ومنها محاضرة قدمها في المؤتمر الدولي المصري التركي بالمجلس الأعلى للثقافة في شتاء عام 2007، وأخرى ألقاها في المؤتمر الدولي الأول عن العلاقات العربية الأرمنية الذي أقامه مركز الدراسات الأرمنية بدعوة من كلية الآداب بجامعة القاهرة يوم الثلاثاء 29 أبريل/نيسان عام 2008، ومحاضرة عنوانها "أضواء جديدة على دير الأرمن في وادي النطرون"، وفي ديسمبر/كانون الأول 2013 ألقى محاضرة بجامعة الروور الألمانية حول "قوانين وطقوس الرهبنة القبطية"، وفي ذات الجامعة في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 ألقى محاضرة عنوانها "الحياة الاجتماعية والاقتصادية في وادي النطرون من خلال كتابات الرحالة"، وأيضًا في ديسمبر/كانون الأول 2015 ألقى محاضرة عنوانها "فضل برية شيهيت على مصر والعالم"، فضلًا عن عدة مقالات نشرها بالجرائد والمجلات تناولت الحياة الرهبانية الديرية في وادي النطرون. ومنذ تلك اللحظة تركز اهتمامه حول وادي النطرون وبالتحديد "برية شيهيت".. المنطقة التي ذهبت إليها العائلة المقدسة بعد خروجها من أرض فلسطين للنجاة من بطش هيرودوس.