"ماذا لو؟!" تعكس مرايا المثقفين

مجموعة سمير أحمد الشريف القصصية تضمنت مائة وعشرين قصة قصيرة جدًا، تناولت قضايا وموضوعات كثيرة.
المجموعة القصصية تميزت بلغة جميلة مقتصدة، وصور معبرة، وصيغ محكمة، وانتصار للإنسان
مجموعة الشريف تضم قصصا حلقت بين الواقعية والفانتازية والرمزية

«ماذا لو؟!» مجموعة قصصية للقاص سمير أحمد الشريف، تضمنت مائة وعشرين قصة قصيرة جدًا، تناولت قضايا وموضوعات كثيرة مثل: الفساد، السجن، الظلم، الشهيد، المخيم، الفقر، الثقافة، المرأة، الأقنعة، وغيرها. وكل ذلك بلغة جميلة مقتصدة، وصور معبرة، وصيغ محكمة، وانتصار للإنسان وحقه في الحياة الكريمة، كما تنوعت قصص المجموعة بين الواقعية والفانتازية والرمزية.
تضمنت المجموعة عددًا من القصص جلد معظمها المثقف بالنقد والسخرية اللاذعة، ولا غرابة في الصور السلبية المنفرة للمثقف، فكثير من المثقفين في الوقت الراهن تخلّوا عن أدوارهم في التوعية والتنوير، وركنوا إلى الصمت أو العزلة أو الانكفاء على شؤونهم وأحلامهم وذواتهم كأنهم يعيشون في جزر بعيدة معزولة عما حولها، بل وأصبح كثير منهم أداة في يد الفاسدين، يذبّون عنهم، ويجملون صورهم، ويوهمون الجماهير بغير حقيقتهم الزائفة والمخادعة. وفيما يأتي استعراض لمجموعة من هذه القصص:
الرسام
في قصة «غياب: وضع آخر ضربة لفرشاته، جلس ينتظر الغائب الذي عبر اللوحة بحثًا عن وطن».
انتهى الفنان المبدع من رسم لوحته، ووضع المشاهد في حالة جمالية إبداعية محيرة، فاللوحة منتهية، ولكن المشاهد يستنتج أن أحد أركانها ترك اللوحة يبحث عن وطن، فأي إبداع وأي جمال وأي ورطة فاتنة للمشاهد بين الحضور والغياب؟ وهذه القصة هي الوحيدة التي تظهر صورة إيجابية للمثقف.

تساؤل همنجواي هو تساؤل الكثيرين أيضًا: هل نهاية القصة انتصار أم هزيمة؟؟ ولكن الأهم أن سنتياغو لم يستسلم وهو العجوز الوحيد، قد يكون خسر صيده، ولكنه لم يخسر شرفه وكرامته

الشاعر
أربع قصص قصفت الشعر والشعراء هي:
«دهشة: أمام دهشة الحضور في القاعة المكيّفة التي تغص بالكراسي الوثيرة والسجاد الفاخر، قطع الصوت على الشاعر قصيدته: «شوال البصل بدينار».
في قاعة مخملية وثيرة، لا يكون الشعر إلا مخمليًا مترفًا بعيدًا عن واقع الحياة وعن آمال الناس وآلامهم، وربما لا يستطيع أحد من الحضور أن يعبر عن رأيه بصراحه إن وجد في هذه البيئة، ولكن يأتي الرد صريحًا دون مجاملة «شوال البصل بدينار» من بائع متجول، ليذكر الشاعر والحضور بقيمة شعره، وأن في حياة الناس ما هو أهم من الشعر، ثم كيف يتمخمل الشعر وسامعيه وبجوارهم أسرى وسجناء يحرمون الحرية والحياة؟ ألا يفترض أن يعبر الشعر عن واقع؟؟ عن الإنسان؟؟ عن الحياة بكل تلاوينها؟؟ 
«محسن: ولعمق إيمانه بالوطن، قرر أن يلبس (القمباز)  ويسجّل قصيدة تراثية في يوم النكبة».
بعض الشعراء لهم في كل عرس قرصًا، ويفهمون الوطنية وحب الوطن على طريقتهم، يهتمون بالشكل والطقوس الفارغة على حساب المعنى والشعور وحقيقة قلوبهم، ونكبتنا بهم نكبة على نكبة.
«منبر: تقدّم المتشاعر الذي نفخ فيه المنبر الحديث مرتبكًا من المنصة، ممسكًا بأصابع مرتجفة قصيدة تلاعب في مفرداتها.
تصبّب عرقه وهو يتلو عنوان القصيدة، لكن ربكة المسكين تضاعفت عندما لم يستطع تحديد سبب لغرق الحضور في نوبة بكاء».
يتوهم الجمهور أحيانًا أن لغة الجسد دليل على التأثر وأهمية ما سيقدم الشاعر، ولكنه لا يدري أن ارتباكه ورجفته وتردده بسبب انعدام موهبته وقلة بضاعته وتفاهة ما سيقدمه. بكى الجمهور مقدمًا تأثرًا لحال المتشاعر، وربما أبضًا أسفًا وشفقة عليه!!
«فنتازيا: تواعد عرار ومعروف الرصافي ومحمد صبحي أبو غنيمة على اللقاء في كافيه النجوم لتدارس المستجدات، قرروا بعد أن تبادلوا الأنفاس، كتابة قصيدة حداثية مشتركة تُعمّم على المواقع الإلكترونية حال إنهاء المجلس رحلة الاستجمام في باريس».
قصة فانتازية ساخرة من بعض الشعراء الذين يسخرون شعرهم في مدح من لا يستحقون، ولا يتورعون في مدحهم لأعمال تافهة وسطحية لا معنى لها، بل ومن المعيب مدحهم من أجلها، فالشعر أرفع أن يكون تجميلًا للقبح، وتسويقًا للتفاهة والسفاهة.
المفكر
وللمفكرين نصيب في مجموعة «ماذا لو؟!» من خلال قصة «سنابل: أطبق الصمت على الصمت عند دخوله القاعة، مسح آخر شعرة في مؤخرة رأسه وتنحنح مُذكّرًا بمحاضرته «الحاضر ابن الماضي» لن أحاول أن أشكل المشكلة مع أنها مؤشكلة في الأصل، وقد حان الوقت لتشريحها رغم إدراكنا أنّ كثرًا يعملون على تفعيل المشكلة وتدويرها ظنًا منهم أن القضايا الكبرى حتى تُحلّ لا بد من الدخول للمشكلة وتفعيلها حتى لا تعود مشكلة. قطع التصفيق الحاد كلام المحاضر الذي أحسَّ بذيل طويل ينسلُّ ببطء من تحته متصاعدًا للسقف مع التفافات بهلوانية لم تستوعبها عيون المتابعين.
في الصف الأخير، لملم المفكر ذاته وشرع في حصد سنابل أسئلته».
في هذه القصة تصوير بارع لبعض المفكرين الفارغين الذين لا يحسنون إلا علك الكلام والتلاعب بالمصطلحات وفخامتها، فيتوهم السامعون أن أمامهم مفكرا عميق الفكر، ولكنهم أقل من يفهموا عليه، فلا يجدون إلا التصفيق تغطية لجهلهم، مما يؤدي إلى انتفاخ المفكر الفارغ وازدياد بهلوانيته الكلامية، وفي المقابل، يجلس المفكر الحقيقي في الصف الأخير، لا يأبه به أحد، ولا يجد له فرصة للحديث.
الأكاديمي
في قصة «مشرف: خطا الطالب مطأطئ الرأس لمكتب المشرف، مد ورقة تحتوي على الشخصيات التي ستكون إحداها محورًا لرسالته.
تمعّن الدكتور بالورقة، تفرّس بوجه الطالب راسمًا لوحة استنكار، فاردًا ضحكة بلا معنى: عليك بواحد من علية القوم لتفيد ونستفيد».
هذه القصة تفضح سلوكيات بعض الأكاديميين، الذين يتاجرون بالعلم، ويحرفونه عن مساره في خدمة الوطن، ويعملون على تفريغه من مضمونه؛ من أجل مصالحهم الشخصية، وما أشقانا بالعلم عندما يصبح مطية لهؤلاء وسلمًا لهم للوصول. 

short story
لكل كاتب تجربة لا تسر

أما قصة «دكتور: سائق السرفيس الذي أقلني من المطار ويحمل الدكتوراه كتب على صفحته أنه يتبرع بخبرته للمصلحة العامة بعد أن سلّم السيارة لمالكها الأمي».
فإنه عندما تضرب البطالة أطنابها، ولا يجد أصحاب الشهادات أي أمل بالتوظيف، يلجؤون إلى أي مصدر رزق، وفي مفارقة يعمل حامل شهادة الدكتوراه سائقًا لدى صاحبها الأمي، ولا عيب في ذلك أو مثلبة، ولكن الاستعراض معيب عندما يتبجح حامل الدكتوراه أنه يتبرع بخبرته للمصلحة العامة، فأي خبرة وأين المصلحة في قيادة سيارة، يستطيعها أمي أو حامل دكتوراه؟!
الروائي
للكاتب الخفي صور كثيرة، منها ما تفضحه قصة «قص ولصق: الكاتب المشهور بالقص واللصق، لم يمنح الأرملة ثمن ربطة خبز، لكنه قدّم بضميرٍ غائبٍ، كومة دنانير لمن كتب له رواية يقدمها لجائزة كبرى».
ولا أظن أن هذه في القصة افتئات على أحد، بل هي واقعية وموجودة وإن كان يجري أمثالها من تحت الطاولة، فثمة كتّاب لا يتورعون عن شراء خدمات الآخرين ونسبتها إلى أنفسهم، مستغلين حاجتهم، ولذلك طرق كثيرة يعلمها أهل الثقافة.
الناشر
في قصة «تعويض: الناشر الذي بلع حقوق المؤلفين، كفّر عن ظلمه بمحاضرة عن حقوق الِملكية الفكرية».
إن العلاقة بين الناشر والمؤلف علاقة تجارية في الغالب، ولا محل للإبداع فيها إلا قليلًا. الناشر يسعى أن يربح كأي تاجر آخر، ومصدره الأول والمضمون هو المؤلف، ولا يضيره أن يحاضر عن الملكية الفكرية ما دام الأمر كلامًا في كلام وحبرًا على ورق!! والكلام في هذا الأمر يطول، ولكل كاتب تجربة لا تسر.
المسرح
في قصة «لمسات: لعشاق الدراما قريبًا نُعلن عن العرض الأول لمسرحية  (هرب الثعلب في ثياب الماكرينا( وتحت رعاية رمز ثقافي، سياسي حزبي مخضرم، له خبرة واسعة في فنون السيرك».
تسخر هذه القصة من موضة غزت عالم الثقافة، بأن يرعى بعض السياسيين حفل توقيع كتاب أو رواية أو افتتاح مسرحية أو معرض كتاب، ومما يزيد الطين بلة أن بعض هؤلاء السياسيين من المعروفين بفسادهم أو ضعفهم أو على الأقل لا إنجازات حقيقية لهم، وكل ذلك امتهان للثقافة وتسول لأربابها على أبواب السياسيين، وهذا يدل على مكانة الثقافة المتدنية وتبعيتها، والأصل أن تكون الثقافة قائدة لا منقادة، تعلو ولا يُعلى عليها.
وختام هذه القصص عن «همنغواي» وروايته «الشيخ والبحر»، ففي قصة «سنتياغو: تساءل همنجواي وهو يضع اللمسات الأخيرة على روايته: هل كان سنتياغو منتصرًا، وهو يرى مغامرته تنتهي بهيكل عظميّ؟».
إن تساؤل همنجواي في هذه القصة، هو تساؤل الكثيرين أيضًا: هل نهاية القصة انتصار أم هزيمة؟؟ ولكن الأهم أن سنتياغو لم يستسلم وهو العجوز الوحيد، قد يكون خسر صيده، ولكنه لم يخسر شرفه وكرامته، والعار كل العار أن تخسر كل شيء دون أي مقاومة أو محاولة للمقاومة!!
وبعد؛؛؛ فإن «ماذا لو؟!، عمّان: دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع بدعم من وزارة الثقافة، 2021، 131 صفحة» هي المجموعة القصصية الخامسة للقاص الأردني سمير أحمد الشريف، بعد: «الزئير بصوت مجروح، 1994». «عطش الماء، 2006». «مرايا الليل، 2011». «مسا.. فات، 2018». وصدر له أيضًا: «همس الشبابيك ، نص سردي ، 2014». «الوجوه والأقنعة: دراسات في الرواية السعودية الحديثة، 2001». كما صدرت له بعض الترجمات، وشارك في عدد من المجموعات القصصية. وترجمت بعض قصصه إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية، وهو عضو رابطة الكتاب الأردنيين، ونال عددًا من الجوائز.