ما بعد انقلاب فنزويلا

الموقف ضد مادورو هو مثال كلاسيكي لإدارة الأزمة بالأزمة.

لا يعتبر الانقلاب الأخير وما أحاط به من ظروف إقليمية ودولية سابقة في الحياة السياسية الفنزويلية؛ فقد سبق ونفذ انقلاب ضد هوغو شافيز في العام 2002 ما لبث أن عاد للسلطة بعد يومين، كما نفذ انقلاب آخر ضد مادورو في العام 2015. إلا أن الانقلاب الأخير له من الخلفيات والتداعيات التي سترسم مستقبل إدارة الأزمة وبخاصة الولايات المتحدة وروسيا، إضافة إلى لاعبين تابعين فيها.

وعلى الرغم من حدة التصريحات المحيطة بظروف الانقلاب، وتعدد السيناريوهات المحتملة، بدءا من فوضى داخلية عارمة مرورا بحرب أهلية وصولا إلى تدخل عسكري لحسم الصراع الداخلي، إلا أن جميعها ذات أكلاف عالية لمن يرغب بها وبالتالي يمكن ترجيح مسار على آخر بحيث يكون العنوان الرئيس هو إدارة الأزمة بالأزمة، وهي وسيلة رائجة وشائعة في لسياسات الدولية وبخاصة عند تصاعد التنافس وعدم وجود رغبة أو قدرة على المواجهات المباشرة بين الأطراف المعنية.

في المبدأ ثمة منحى روسي صيني في مقاربة الأزمة الفنزويلية ينطلق من عدم فسح المجال للتحرك الأميركي بشكل مريح وبالتالي الاستفادة إلى أقصى حد ممكن من توريط واشنطن في المستنقع الفنزويلي وهو أسلوب اعتادت عليه موسكو في الحقبة السوفياتية ومن بعدها الروسية، وتمكنت موسكو سابقا وحاليا من حصد نتائج واضحة وأحيانا وازنة، كنموذج التورط الأميركي في فيتنام مثلا ومن ثم العراق. ورغم اختلاف بعض جوانب الظروف وأدواته المحتملة يبقى السلوك الروسي والى حد ما الصيني المحتمل في الأزمة الفنزويلية قائما في هذا الاتجاه، وبالتحديد عدم الدخول العسكري المباشر كما حدث مثلا في الأزمة السورية، ذلك للعديد من الاعتبارات، أبرزها معرفة موسكو الدقيقة حساسية المنطقة اللاتينية ومدى أهميتها الجيوسياسية والجيواستراتيجية لواشنطن، وبالتالي إن أي تحرك تدرسه موسكو بدقة متناهية، وما يعزز هذا الاتجاه مستوى الدعم غير المباشر وان كان قويا من حيث المبدأ إلى حكومة مادورو، دون ظهور مؤشرات واضحة وقوية على إمكانية التدخل العسكري المباشر. إضافة إلى أن موسكو تعلمت دروسا مستفادة من القضية الأفغانية نهاية سبعينيات القرن الماضي، وما يمكن أن تلمسه حاليا عبر التدخل العسكري في سوريا مستقبلا.

في مقابل ذلك، وان بدت الإدارة الأميركية أكثر تصعيدا ووضحا في مواقفها قبل الانقلاب وبعده، إلا أن جملة اعتبارات تتحكم في مقاربتها للأزمة الفنزويلية وما يمكن أن تظهر من تداعيات ومتابعات للانقلاب الأخير.فقد نفذ الانقلاب والذي اتهم فيه مادورو الإدارة الأميركية بتدبيره، بالتزامن مع انطلاق حملة الرئيس الأميركي دونالد ترامب حملته الانتخابية لولاية رئاسية ثانية، الأمر الذي سيؤثر بشكل وازن على مجريات الانتخابات المقبلة في العام 2020، وإذا كان هذا التزامن يبرز دلالات واضحة على إمكانية استثماره انتخابيا، إلا أن نتائجه العملية غير مؤكدة في ظل تقلب الرأي العام الأميركي بوتيرة متسارعة بخاصة أنها مرتبطة أيضا بالسلوك السياسي للرئيس ترامب الذي تجمعت حوله ملفات كثيرة باعدت بينه وبين شعبيته في العديد من الملفات؛ لذا من المفترض منطقيا عدم الاتجاه نحو تدخل عسكري أميركي مباشر في الأزمة الفنزويلية في مثل هذه الظروف، وان هيأت إعلاميا لذلك عبر بعض الدول الحليفة لسياساتها في القارة الأميركية ومن أبرزهم حاليا كولومبيا والبرازيل مثلا. وربما الاتجاه الأكثر ترجيحا هو المضي في سياسة الضغوط عبر العقوبات الاقتصادية المنفذة حاليا مع زيادة الجرعات المؤلمة، وهي سياسة أثبتت في بعض المواقع ضمان نتائجها بالنسبة لواشنطن.

وفي أي حال من الأحوال ورغم تقاطع وتشابك المصالح الدولية والإقليمية في الأزمة القائمة، يبدو أن أطرافها تتجه في طريق السير بإدارة الأزمة على قاعدة سياسة الإنهاك المتبعة في العديد من أزمات الدول، بحيث لن يكون بمستطاع أي دولة ومنها فنزويلا قادرة على تخطي أزماتها دون تدخل خارجي يفرض عليها سياقات سياسية واقتصادية معينة، وهو طريق تسلكه الدول الفاعلة باعتباره اقل كلفة وأكثره فائدة وان أخذ بعض الوقت الإضافي.