مجلة "الدبلوماسي".. وثقافة الشباب العربي

مساجلة بين الملك عبدالعزيز آل سعود والرئيس الأميركي روزفلت في البحيرات المرة!
عادل السالوسي يتحدث عن التأثير السلبي لسد النهضة على كل من: مصر والسودان
ما هي كلمة المستقبل في قاموس العلاقات الدولية؟

حينما يتكلم الدبلوماسي فعليك أن تتأني لتسمع وتفهم ما قاله، وما لم يقله، وما قاله مما لم يقله.
هذه هي الفكرة السائدة عن لغة الدبلوماسية.. اللغة التي تكتفي أحيانًا بالإشارة أو بنظرة وتصمت، وأحيانًا تتكلم كلامًا كثيرًا ولكنها في الواقع لا تقول شيئًا، وأحيانًا تهمس ويكون في همسها القول الفاصل والفصل بين الأشياء.
ولكن، هل اختلفت دبلوماسية هذا الزمان عن مدارس الدبلوماسية التقليدية؟
 بمعنى آخر؛ هل اختلفت لغة الدبلوماسية في المدرسة الأميركية عنها في المدرسة الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية مثلًا؟
 بمعنى آخر، هل اختلف "ترامب" عن "تشرشل" و"أيزنهاور" و"كنيدي"؟ 
الحقيقة أنني أفكر في هذه الأشياء كلما أتعرض لأمر يُخص وطننا العربي، ونحن – وأخص المثقفين المهتمين بمصالح الوطن العليا – نهتم كثيرًا بما يتصل بالوجود، وما يمس هذا الوجود، سواء كان خطرًا عسكريًا أم خطرا استراتيجيا حيويا.
ومما لا شك فيه أن قضية الماء هي أهم قضايا مصر الملحة منذ خمس سنوات على الأقل، حينما ظهرت إلى الوجود رغبة دولة المنبع في بناء سدود ستؤثر على حصة مصر من الماء.
 وأحب أن أنبه إلى أن الأمم كانت تتقاتل في العصور القديمة من أجل أمرين هما: الماء، والكلأ. ونحن في مصر تذرعنا بألوان الصبر كافة، واستخدمنا المبادئ لنسمح لأي أمة أن تبني نفسها، فهذا من حقوقها، ولكننا لا يمكن أن نسمح بأن يكون بناؤها ضررًا على شريان حياتنا. ولهذا فإن الدبلوماسية المصرية مرت بجولات كثيرة على جميع المستويات: السفراء، ووزراء الخارجية، ورؤساء الدول. وكان الانطباع العام أن هناك من يحاول أن يكسب الوقت، وهناك من يقلقه مرور الوقت.
وفي مقاله بالعدد 285 من مجلة "الدبلوماسي"، الصادر قبل أيام في القاهرة، عن وزارة الخارجية المصرية، نقرأ مقالًا مبشرًا بالأمل للدكتور أحمد سيد أحمد، بعنوان "اختراق دبلوماسي لمفاوضات سد النهضة". في حين ينبه السفير الدكتور عادل السالوسي في مقاله بالعدد ذاته إلى التأثير السلبي لسد النهضة على كل من: مصر والسودان.
أما السفير رضا الطايفي، مدير صندوق مكتبات مصر العامة، ورئيس تحرير مجلة "الدبلوماسي"، العائد لتوه من زيارة للصين، فيكتب مقالًا افتتاحيًا عما يحدث في أقصى الشرق، بعنوان "ماذا يحدث في هونج كونج؟". ويصف هونج كونج بأنها أعجوبة الأعاجيب الاقتصادية والمالية والتجارية في العالم.. فهي واحدة من أبناء الجيل الأول للنمور الآسيوية مع كل من: كوريا الجنوبية، وتايوان، وسنغافورة، هي الميناء العطر.. شذى الورد أو الهواء المعطر كما يحلو للصينيين تسميتها، وهذا هو معنى "هونج كونج".. "ست الحسن والجمال" و"ملكة البحار والمحيطات".. و"شهرزاد" التي تنتظر كل شهريار زائر إليها من كل بقاع الدنيا لكي يلقي إليها بمحفظته المكتنزة بالمال، على حد تعبير أنيس منصور.
"هونج كونج" كما عايشها رضا الطايفي، الذي لا يعتبر غريبًا عن هذه المنطقة من العالم، فقد سبق له أن عمل سفيرًا لبلاده في كوريا الجنوبية والشمالية وعدد من البلدان الأخرى في شرق آسيا، غنية بمراكزها التجارية الضخمة، وبأسواقها المنتشرة في كل مكان ليلًا ونهارًا بمثابة المغناطيس؛ فهي قادرة على سحب كل ما في حافظة نقودك من عملات مهما كان عددها، ومهما بلغت قدرتك على المقاومة!
فماذا يحدث في "هونج كونج"؟
هذا هو ما يحدثنا عنه السفير رضا الطايفي في هذا المقال البديع.
كما يضم هذا العدد من "الدبلوماسي" مقالًا حول قضية هذا العام وهذه اللحظة التي تتبناها مصر منذ عادت إلى قارتها الأم، وتولت قيادتها هذا العام، فيتكلم السفير الدكتور عزت سعد عن" قمة "روسيا / إفريقيا.. فرص وتحديات". ومشيرًا إلى أنه من المؤسف أن أبناء قارة إفريقيا ليس بينهم تواصل ثقافي أو حضاري، فإفريقيا في الحقيقة مجموعات لغوية تتكلم العربية أو الفرنسية أو الإنجليزية أو الإيطالية كأنها مجموعات منفصلة منذ عهود الاستعمار، وما تحاوله مصر هو أن تذيب الحواجز بينها وتفتح الثغرات لينفذ منها أبناء إفريقيا بعضهم إلى البعض الآخر ليتعارفوا ويصنعوا المستقبل الواحد.
ومن الغريب أن قارة إفريقيا الغنية بمعادنها الثمينة؛ ففيها مناجم الذهب والماس، وفيها اليورانيوم والحديد والنحاس، وفيها الأنهار التي تفيض وتصنع بحيرات كبرى ومستنقعات يمكن أن تسهم في صنع سلة غذاء العالم كله، يكون التواصل منقطع بين أوصالها، سواءً على المستوى الإنساني أو المادي أو اللغوي. مصر تحاول، وغيرها أيضًا يحاول، لكي تكون إفريقيا اليوم هي كلمة المستقبل في قاموس العلاقات الدولية.
ولا ينسى كُتَّاب هذا العدد من "الدبلوماسي" الحديث عن القضية الأم في العالم العربي؛ "القضية الفلسطينية"، فيكتب السفير محمود كريم عن "الانتخابات الفلسطينية القادمة"، وبطبيعة الحال ما إذا كانت ستسفر عن تحرك للقضية أو ستصبح عجلة تتحرك في حفرة من طين، لكونها حركة بغير انتقال. فيما يحلل السفير رخا أحمد حسن الانتخابات الرئاسية الأخيرة في البلاد التونسية، وتدشين مرحلة جديدة. 

روزفلت: أميركا لن تقوم بأي عمل عدائي تجاه العرب، ولن تقوم بأي تغيير في سياستها إزاء فلسطين دون التشاور مع كل من: اليهود والعرب

ومن القضايا الإفريقية تنتقل "الدبلوماسي" إلى قضايا المنطقة العربية؛ فتتحدث السفيرة الدكتورة عبير بسيوني عن "تناقض موقف العالم من التدخل التركي في مناطق الأكراد"، ويتحدث السفير يوسف الشرقاوي عن "الأزمة الإيرانية الأميركية، وسوريا إلى أين؟". كما يتحدث السفير محمد عبدالمنعم الشاذلي عن قضية "نزع السلاح.. عبر نظرة من خارج الصندوق"، ولا تخلو "الدبلوماسي" من الموضوعات ذات التوجه الإنساني أو ما يعرف بـ"القضايا الأدبية"، وهي في الحقيقة قضايا إنسانية، فنجد الناقد الدكتور يوسف نوفل يكتب مقالًا عن تجدد الحديث حول مكتبة الإسكندرية، ويكتب عادل عبدالصمد عن "الهوية المصرية وأيامها المجيدة"، ويكتب السفير فخري عثمان مقالة عن الفن التشكيلي، والسفير الدكتور محمد نعمان جلال عن آسيا تحت عنوان: "المستقبل آسيوي". ويكتب السفير الدكتور فتحي مرعي مقالًا بعنوان "نفسك أمانة لديك"، ويختتم العدد بقصيدة للشاعر أحمد فضل شبلول بعنوان "لا تهزمي الحب".
ومن الواضح أن مجلة "الدبلوماسي" تشهد طفرة تحريرية في أعدادها الأخيرة، وتتسم بتنوع مادتها فتشكل معينًا لثقافة شباب الدبلوماسيين العرب، ومرجعًا للباحثين في العلاقات الدولية، فضلًا عما تشكله من مورد للثقافة العامة.
وفي أحد أعدادها الأخيرة توقفت طويلًا أمام هذه الوثيقة التي نشرها السفير عبدالرؤوف الريدي: 
كان الرئيس الأميركي الذي تتهيأ بلاده لقيادة العالم بعد أن أوشكت الحرب العالمية الثانية على الانتهاء بهزيمة ألمانيا وإيطاليا واليابان، وانتصار أوروبا بقيادة الولايات المتحدة، يخطط في رحلة عودته من "يالطا"، بعد إقرار الشكل الجديد للعالم بتأسيس الأمم المتحدة، يخطط لاستقبال ثلاثة من قادة المنطقة الذين يرى أن التفاهم معهم فيما يخص علاقة أميركا بدول المنطقة من الأمور المهمة، وهم: الملك فاروق ملك مصر والسودان، والامبراطور هيلا سيلاسي امبراطور الحبشة، والملك عبدالعزيز آل سعود، الذي سيطر على الجزيرة العربية وأخرج منها الأتراك العثمانيين.
وكان اللقاء بين الرئيس روزفلت والملك عبدالعزيز موضوع المقال الذي كتبه السفير عبدالرؤوف الريدي في العدد 283 من هذه المجلة، عندما عثر في أوراقه على تقرير قدمه له سفير أميركي سابق عام 1992 في حفل عشاء بواشنطن، بعد أن تطرق الحديث بينهما إلى العلاقات العربية الأميركية، لعله أراد أن يقول شيئًا عن هذه العلاقات من خلال حادث تاريخي يتماشى مع لباقة الدبلوماسي وعدم تصريحه بما لا يخدم مصالح دولته.
وحينما علم "تشرشل"، رئيس وزراء بريطانيا آنذاك، بهذا اللقاء انزعج وصمم أن يكون رجوع الملك عبدالعزيز من اللقاء على متن سفينة بريطانية وكأنه يتمسك بآخر خيط في السيادة البريطانية.
أما الرئيس روزفلت فكان لقاؤه مع ضيفه العربي في البحيرات المرة على ظهر البارجة الأميركية "كوينسي". وقد أدرك الملك عبدالعزيز بفطرته طبيعة التغيير في القوى العالمية وأن المستقبل سيكون لأميركا، فآثر أن ينسج خيوط الصداقة بينهما، وينتزع تعهدًا يؤمِّن مصالح بلده في المستقبل، كما أن الرئيس الأميركي كان يستهدف أن ينتزع من الملك اعترافًا بحقوق توطين اليهود في فلسطين، فكانت منازلة في غاية القوة والدبلوماسية. بدأ روزفلت  حديثه للملك بذكر أن هزيمة ألمانيا أصبحت على الأبواب، وأنه يود الحصول على نصيحة الملك في موضوع مهم يتعلق بتجمع اليهود الأوروبيين الذين عانوا من حكم النازي وأصبحوا الآن لاجئين في وسط أوروبا. ووجه سؤاله للملك عما يقترحه لمساعدتهم للتوطن في فلسطين. 
كانت إجابة الملك قاطعة بأن هؤلاء الذين تعرضوا لجرائم النازي يجب إعطاؤهم أفضل الأراضي في البلاد التي ارتكبت هذه الجرائم. فقال روزفلت إنهم يتطلعون إلى التوطن في فلسطين، ولن يرغبوا في العودة إلى ألمانيا. فقال ابن سعود: على الحلفاء أن يجعلوا من ارتكبوا هذه الجرائم يتحملون مسئولية إنقاذ ضحاياهم.
وكانت نتيجة هذا الحوار أن علق روزفلت قائلًا إن الملك لم يساعده في حل هذه المشكلة. وأجاب ابن سعود بأن بلاد الحلفاء عددها 50 بلدًا، أما فلسطين فهي بلد صغير وفقير وتحمل بالفعل عددًا كبيرًا من المستوطنين اليهود الذين ذهبوا إليها أثناء فترة الانتداب البريطاني وقبلها.
أما الموضوع الثاني الذي تبادله الرجلان فهو أن الملك عبدالعزيز يريد أن تدعم الولايات المتحدة استقلال بلاده ويتطلع لأن تقوم العلاقات بين بلده والدول الأخرى على أساس المساواة والصداقة، وأشار إلى أن روزفلت بطل من أبطال الحرية كما أن الولايات المتحدة ليست دولة استعمارية، وأنه يود دعم علاقات الصداقة معها. وقد تعهد روزفلت بما يعرف بالتعهد المزدوج؛ وهو أن أميركا لن تقوم بأي عمل عدائي تجاه العرب، ولن تقوم بأي تغيير في سياستها إزاء فلسطين دون التشاور مع كل من: اليهود والعرب، وأكد روزفلت كلامه بخطاب أرسله إلى الملك السعودي بعد عودته إلى واشنطن بتاريخ 5 أبريل/نيسان 1945، أي قبل وفاته بأسبوع مؤكدًا فيه هذا التعهد المزدوج.
وللأسف فبعد وفاة روزفلت واعتلاء الرئيس "ترومان" سدة الحكم تغير هذا الكلام ولم يعد ترومان ملتزمًا بتعهد روزفلت، وقال في اجتماعه بالسفراء العرب: "آسف أيها السادة ولكن علي أن أصغي لما يقوله مئات الملايين من الأميركيين الذين يحرصون على نجاح الصهيونية، بينما لا توجد ملايين من العرب بين الناخبين الأميركيين".