محسن فرجاني يترجم كافكا الصين

محمد الحمامصي
مختارات فرجاني تضم إحدى عشرة قصة منها "أوراق الزهور الأرجوانية" و"منامات العابرين وطلاسم رجل الأحلام" و"وجهان للحياة الواحدة"، و"زيارة آخر الليل" و"غرفة على التل".
الناقدة إيلين مايلز: تسان شيوي تمشي على الحد الفاصل والحاسم بين الحقيقة والخيال والأسطورة والواقع، بين السياسة واللامنطق
الهدف المشترك لأبناء جيل شيوي يتحدد في نقطة واحدة، وهي "تهشيم أبواب العذاب لتحرير الروح السجينة"
الساحة الأدبية في الصين الآن أكثر ظلاما مما كان قائما في صين الثلاثينيات والأربعينيات

يفتتح د. محسن فرجاني أستاذ اللغة الصينية في كلية الألسن جامعة عين شمس لترجمة  مختاراته القصصية للقاصة والروائية الصينية تسان شيوي "غرفة فوق التل"، بعبارة دالة على عمق ما تحمله تجربتها الإبداعية من تجليات، تقول "أفضل أن أوجد في الكلمات عن أن أذوب مع السكوت أو أذوي في ظلال العدم"، ثم يوضح أنها "كانت قد عاشت مع صمت التأملات طويلا بالقدر الذي يفجر أطنان الخوف في أعماقها، خشية أن يكون السكوت مصيرا يترادف مع العدم. 
والحقيقة أن تسان شيوي بالذات لا يمكن أن تخشى صمتا أو نفيا لقيمة حضورها في سجل الذي خلدوا قيمة الكلمات، فهي الآن وفي تقدير عدد من نقاد القصة الصينية المعاصرة أهم كاتبة صينية، أهم من "مويان" كما قد يقال ـ ومويان هو الروائي الصيني الحائز على نوبل في الآداب عام 2012.
ويفرد فرجاني في مقدمته للمجموعة البديعة الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة لآراء وأفكار ومقولات تسان شيوي، ليتشكل لنا رؤية متكاملة عن كاتبة تستحق الإشادات النقدية الصينية والغربية التي تناولت أعمالها، والتي لم تخف تأثرها بكافكا وبورخيس وكالفينو ولوشون، وبغضها لنظرية "ما بعد الحداثة" ورفضها لتصنيف كتاباتها ضمن هذه النظرية، مؤكدة أن قصصها "تحتوي على ظلال واقعية لأن مادتها الأصلية منحوتة من الواقع لكن الصياغة أحالت هذا العنصر لشيء آخر". 

في كل النماذج تنقل السلطة إلى يد الأم، دون أن يعني هذا زوال السلطة الذكورية من مفاهيم الثقافة السائدة

يرى النقاد الصينيون في تسان شيوي "أعظم مبدعة صينية حداثية"، "أخطر متمردة على التقاليد"، و"نموذج التيار الطليعي في الرواية المعاصرة"، "الروائية المتفردة في ساحة الابداع الصيني المعاصر"، "صناعة المتاهات"، "كافكا الصين" وهذان الوصفان الأخيران ـ وفقا لفرجاني ـ كانا الأقرب إلى تعيين قيمتها الإبداعية في ساحة الإبداع القصصي الصيني الحديث والمعاصر، باعتبار أن قصصها علامة على الكتابة المحتشدة بالغموض وهذاءات اللامعقول والصور المبعثرة المفكّكة مثل لوحة "الجرنيكا" لبيكاسو، لكن شتات الصور في كتابتها كان وفرة في الدلالات، رغم أن لوحة معانيها كانت متداخلة الرموز والتضمينات، فقد كانت تقود القارئ المتفاعل معها إلى البؤرة الجمالية، إلى نقطة الضوء في آخر النفق بعد مسعى طويل في ردهات المتاهة.
ويشير فرجاني إلى أن كتابة تسان شيوي تحتاج إلى قارئ يفهم الألغاز، وهو سيفهمها بالتأكيد لأنها جزء من خبرة الإنسانية المختزنة في أعماقه، ليس عليه إلا أن يفتش عنها عبر دروب الحكي التي تبدو لأول وهلة في قصصها كأنها متاهة. رغم كل العناصر المفككة يبقى الجذر العميق للسرد في تركيبه الأساسي ومستوياته العميقة كامنا في قلب النص، وإذا كانت لغتها غامضة فلأنها تريد أن يكون الوضوح من صنع قارئها الذي سيفطن إلى أغوار المعنى، قد يبدو عالمها القصصي وكأنه حلم يستعصي على التفسير أو كابوس جاثم على الأنفاس أو صورة مشوهة للوقائع حيث يتداخل وعي الإنسان مع وعي الكائنات من حوله، مع مفردات الطبيعة حتى يصبح جزءا منها. 
تمتلئ قصصها باللامعقول والصور الخيالية للأشكال المتحولة، ليس لكي تربك القارئ بل على العكس فهي تحثه على تجاوز صور الحياة وصولا إلى حقيقة ذهنية ونفسية، عبر الحس العميق بالوجود، الحس الذي يصدر عن أعماق الإنسان.
ويرى فرجاني أن النظرة الجمالية التي تريد تسان شيوي أن تؤكد عليها في قصصها تقوم على فكرة أن يمتلك القارئ بوصلة حسه الجمالي بنفسه، أن يستكشف ذاته ويستحضرها في تجربة القراءة، أن ينهل من معين الفلسفة والفن، وهو المعين الذي نبع في الغرب وأخذ عنه العالم كله هذا المنحى، لكن البئر جفّ هناك، في الغرب، ولعل الثقافة الشرقية الصينية تستطيع أن تضخ دماء جديدة في شرايين الإنسانية، لكن طبعا ليس قبل أن "نهضم ميراث الحضارة الغربية العظيم" كذا كانت تقول.
أهم أعمال تسان شيوي القصصية "حوار في الجنة" 1988، و"سحابات زائلة" 1989، "تمثيلية فك الحصار" 1990، "شارع الطمي الأصفر" 1996، "كوخ عجيب من الخشب" 2000، "شارع التوابل" و"أستاذ المشاعل الصنوبرية" 2002، و"الحبيب الأخير" 2005 رواية، و"فقاعات صابون فوق مستنقع". 

أخطر متمردة على التقاليد
نموذج التيار الطليعي في الرواية المعاصرة

وقد انتخب د. فرجاني عددا من القصص القصيرة والنوفيللا وإحدى الروايات لتصدر في جزءين، و"غرفة فوق التل" تمثل الجزء الأول وقد ضمنه أكثر القصص القصيرة شهرة من بين أعمالها وخصوصا "غرفة فوق التل" التي كانت علامة فارقة في تاريخ الأدب الصيني الحديث والمعاصر، عندما صدرت في عام 1978.
ويؤكد فرجاني أن "غرفة فوق التل" قصة مثلت فراقا سرديا بين كتابة جديدة وبين ما سمي بـ "أدب الجراح" ـ الأدب المتأثر بالحلقة السابقة على زمن الانفتاح في الصين ـ وعلامة على انتماء تسان شيوي إلى تيار الأدب الحديث وتأثرها بطرق السرد العالمي. والقصة تعرضت لتقديرات نقدية متعددة، منها ما كان يعتبرها "كتابة هستيرية نموذجية" حيث تفتقد الروابط المنطقية في المتصل السردي. هذا وقد وقعت بعض هذه القراءات النقدية في افتعال مضامين أيديولوجية على أساس أن السرد مزدحم بظلال الثورة الثقافية، وأن الكاتبة تستهجن الاتجاه اليساري المتطرف على مدى سنوات في الصين. ثم كانت هناك قراءة أخرى ترى الرمز الكلي الإنساني في فضاء "الغرفة" على اعتبار أن الكاتبة تضع شخوصها داخل فضاء الوجود الإنساني، داخل الطقس اليومي المعتاد للحياة، والغرفة هنا تفارق المعنى التقليدي عن وحدة سكنية بحجم الغرف، فهي رمز على تبدد الألفة العائلية الحميمية والصلات الودية بين أفراد عائلة.  إذ حل محلها ـ وفقا لتسان شيوي ـ فراغ وجودي داخل مساحة ضيقة متضاغطة مختنقة تحت إسار الزمن، وسجن الروح الفردية، إلى آخره". 
سال تسان شيوي أحد المحررين الأدبيين ذات مرة، كيف تفسر تلك الثيمات الغامضة في الكتابة والفراغات الموحشة، عن الصور المتكررة الظهور في قصصها وغالبا ما تكون فكرة الفضاء الواسع هي الوحدة الأكثر تكرارا في السرد، وخصوصا المناطق الفراغية الغامضة مثل الظلام، الأرض الخلاء.. إلخ، فأجابته قائلة "ليس سوى الروائي صاحب الذهنية المتفتحة هو وحده القادر على اختراق الفراغ واقتحام المشاهد الغريبة، ومثلا فإن دانتي هو أحد أولئك الذين تجرأوا على مواجهة الفراغات البدائية الموحشة، وأنت عندما تتأمل مشهد الجحيم تجده مليئا بالطاقة والأمل، فالأشباح العظيمة التي فاقت من يقظتها فازت بفراغها الذي يتسع لوجودها أو حصلت عليه وسط صراعها بين الموت والحياة، فلما انتهى الصراع تبدّد الفراغ، فدائما ما يكون الفراغ المجهول هو طاقة الحياة بالنسبة للمبدع".
وقالت تسان شيوي أيضا إن الهدف المشترك لأبناء جيلها كان يتحدد في نقطة واحدة، وهي "تهشيم أبواب العذاب لتحرير الروح السجينة" فسئلت عما إذا كانت متأثرة بأهداف السرد عند "لوشون" رائد الأدب الصيني الحديث، التي أوجزها في "تحطيم الغرف الحديدية الموصدة" أجابت "إن طريقة لوشون في التعامل أو النظر للأدب الأجنبي هي النموذج الذي أحتذيه، وهذا الموقف المتفتح المتحرر من عقد النقص هو ما نفقده نحن أدباء الصين، وقد نشرت مقالات كثيرة بهذا المعنى وأزيد الآن جملة واحدة عما ذكرت من قبل وهي أن حالة الساحة الأدبية في الصين الآن أكثر ظلاما مما كان قائما في صين الثلاثينيات والأربعينيات، ومهمتي هي مقاومة الحالة الأدبية الراهنة، وإعلاء روح "لوشون" ومذهبه ومنحاه وبعث طيف من الأمل لدى جيل الكتاب الشبان، فالساحة الأدبية المعاصرة عبارة عن شلليات نفعية".  
ويلفت فرجاني إلى أن تسان شيوي ناوشت مركزية الصورة الذكورية وموقعها التقليدي في الثقافة القومية حيث يتردد الصوت الذكوري في جنبات السرد عندها متخاذلا هشا ضعيف الأثر، ففي قصة "فقاعات صابون فوق مستنقع" تتناول حكاية أسرة تعيش في كنف الأم وولدها الذي تعبر عنه الأنا في السرد، ويبدو طوال الوقت كأنه كومة قاذورات بلا قيمة، مجرد كيان هش لا يقدر على حسم أي شيء بنفسه، حتى قرار الزواج يتم وفق إرادة الأم، أما ما يعتري هذه الأنا من سخط أو رضا أو كراهية فهو كامن في طياتها السحيقة، منسحب في الأعماق، هي الأنا التي تخشى الأم ولا تجد مفرا من الاعتماد عليها في نفس الوقت. 
أما في قصة "الهموم التي حاصرت إيمي تحت وهج الشمس" فهي تصف الولد الصغير داجو بتبيان وجه الشبه بينه وبين أبيه "ذي الأرداف الكبيرة الرجراجة" أو "الآلية الضخمة" وكلها صفات تشريحية أنثوية، ثم إن صورة الذكر في قصتها "خواطر حول زهرة الكريزانسيم" لا ترد فقط ضمن معالم التشريح الأنثوي بل تأتي كملامح محددة في شخص الرجل "لاو جيانغ"، وفي كل النماذج تنقل السلطة إلى يد الأم، دون أن يعني هذا زوال السلطة الذكورية من مفاهيم الثقافة السائدة.
 تضم المختارات إحدى عشرة قصة منها "أوراق الزهور الأرجوانية" و"منامات العابرين وطلاسم رجل الأحلام" و" وجهان للحياة الواحدة"، و"زيارة آخر الليل" و"غرفة على التل"، وهي قصص تتجلى فيها مقولة الناقدة إيلين مايلز حيث تقول "تسان شيوي تمشي على الحد الفاصل والحاسم بين الحقيقة والخيال والأسطورة والواقع، بين السياسة واللامنطق".