مخاض عسير لأيقونة الفن الشعبي التونسي في 'نوبة'

المسلسل التونسي يحول بعض قصص نجوم فن المزود وظروف سجنهم ومعاناتهم من التهميش والإقصاء إلى مادة فنّية سردية.

تونس - نجح المسلسل التونسي "نوبة" المعروض على قناة "نسمة" الخاصة للمخرج الشاب عبدالحميد بوشناق بنكهته الشعبية في إعادة المشاهدين لذاكرة الأحياء التونسية الشعبية واسترجاع المخاض الصعب للفنّ الشعبي وتحديدا "المزود". 
ويغوص العمل الجديد للمخرج الواعد ونجل الفنان الكبير لطفي بوشناق في الأرشيف السوسيولوجي والنفسي والدرامي للمزود "أيقونة الفن الشعبي التونسي".
وسعى المسلسل الجديد الى تحويل بعض سير نجومه وأعلامه المعروفين وقصصهم وظروف سجنهم إلى مادة فنّية سردية تعكس صورة هامة من الحياة الاجتماعية لتونس في الماضي.
وتزخر تونس بأصناف عديدة من الفنون الموسيقية الشعبية، التي تحتل حيزًا مهمًا في التقاليد الشفوية التي تكونت عبر العصور وتناقلتها الأجيال، من ذلك "المزود" الذي يعكس جوانب من الثقافة التونسية الضاربة جذورها في أعماق التاريخ.
وبدأ ظهور هذا النمط الموسيقي في تونس كوسيلة لهو وترفيه للطبقات الكادحة في المناطق المهمشة.
وتطور الفن الشعبي عبر الوقت، وأصبح ينال إعجاب أغلب التونسيين مهما اختلفت أعمارهم أو طبقاتهم الاجتماعية، واكتسب هذا الفن اسمه من الآلة التي تسمى في الأصل مزوج (أي ثنائي)، وذلك نسبةً إلى القرنين اللذين يكونان عادةً في أعلى الآلة التي تصنع من جلد الماعز مع قصبة في الأسفل فيها خمس أو ست فتحات.

وفن المزود مرآةً عاكسة لقضايا المهمشين والمساجين والكادحين، وهو انعكاس لمشاعر وأحاسيس طبقات منسية من المجتمع.
ويتمرد فنانو "المزود" ومعظمهم من الأرياف التونسية الذين صدمتهم المدينة بأضوائها عن الأطر المجتمعية المعروفة.
 ومسلسل "نوبة" بطولة باقة من الوجوه الفنية المشهورة والمواهب الجديدة مثل الاسعد بن عبدالله والبحري الرحالي والشادلي العرفاوي وأميرة الشبلي وجميلة الشيحي وعزيز الجبالي وبلال بريكي وهالة عيّاد.
وقدم عبدالحميد بوشناق في المسلسل رؤية فنية مختلفة تراوح بين الأحياء الشعبية ونظيرتها الراقية.
وأغلب أحداث العمل تدور في حيّ شعبي له قوانينه ونوامسيه المجتمعية المنفصلة أحيانا عن قوة الدولة وسلطة القانون، حكايات المزود وعالمه وموسيقاه يقودها "بابا الهادي" والذي لعب دوره البحري الرحال.
و"بابا الهادي" شخصية مركبة متناقضة عصبية ولينة في الوقت ذاته، وهو "عراب" المزود في الحي الشعبي الذي يقطنه والجميع يتعلم منه أصول الفن الشعبي.

أما "ماهر" ويلعب دوره الممثل الشاب بلال بريكي 
فينحدر من حي "المنزه" الراقي وقد عشق الموسيقى الكلاسيكية والغربية في صغره، ولكن بدخوله السجن تنقلب حياته ويتعرف على عالم "المزود" ويبحر في تفاصيله.
وبمجرد مغادرته السجن يدخل في دوامة من الصراعات والخلافات مع أبناء الحي الشعبي الذي انتقل للعيش فيه ويحاول فرض وجوده بينهم وتحقيق حلم الشهرة.
ولطالما وجهت أصابع الاتهام لفن المزود باعتباره موسيقى ينفرد بها المنحرفون وأغلبها ينبع من الأحزان والآلام والأوجاع.
وكانت الفنون الشعبية مهمّشة وممنوعة من البث في التلفزيون التونسي الوطني بحجة أنها ليست لها أي جذور تاريخية.
ويقول بعض النقاد إن الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة منع دخول "المزود" إلى وسائل الإعلام الرسمية، ولم يكن من الممكن طيلة فترة حكمه تقديم أغنية شعبية معتمدة على "المزود" ضمن البرامج الإذاعية والتليفزيونية المختلفة.
وكتب الشاعر صلاح الدين بوزيان المقدمة الغنائية لمسلسل "النوبة" وغنّاها كل من الهادي حبوبة وهو من قامات الفن الشعبي في تونس ولطفي بوشناق صاحب الصوت القوي والفن الهادف والذي أضاف للعمل.
ومن كلمات الاغنية "عشاق الدنيا قلوبهم مسلوبة، والدنيا خضراء، الطبل يدوي والشطيح يدوّخ، الحفلة حمراء، ودخلت هي نوبة في نوبة".
وتمكن المخرج عبدالحميد من شد الأنظار إليه بأول فيلم رعب في تاريخ تونس "دشرة".

وقدم المخرج الشاب فيلم "دشرة" في "أيام قرطاج السينمائية"، بعدما عُرض في مهرجان البندقية السينمائي.
ويروي "دشرة" قصة طالبة جامعية في اختصاص الصحافة تعمل رفقة صديقيْها على حلّ لغز جريمة غامضة تعود إلى أكثر من 25 سنة.
أطفال تذبح قربانا للجان لفتح كنوز مدفونة، بشر يلتهمون لحم بشر، وموتى في خدمة السحر الأسود بخياطة الفم أو يد تقوم بتحريك "الكسكسي" في طقوس لطالما رددتها الذاكرة الشعبية وأخرجها عبدالحميد في "دشرة" وهي اسم لقرية نائية في تونس.
وقد أعلنت شركة التوزيع "هكّا للتّوزيع" أن عدد المشاهدين للفيلم بلغ أكثر من مئة ألف شخص في 17 يوما وهو رقم قياسي في السينما التونسية.
ومنح "دشرة" صورة جديدة ومختلفة عن الأفلام التونسية التي تركز عادة على المشاهد الساخنة والإثارة ومداعبة الغرائز.
وتمكن جيل شاب من السينمائيين والمنتجين  والمخرجين التونسيين من إثارة مواضيع اجتماعية وسياسية جريئة للمساهمة في ظهور سينما جديدة وثورية.