مذكرات نوبار باشا تكشف عن إعجابه بنفسه

من يرى مصر منذ أربعين عامًا لا يسعه إلا أن يندهش من التحولات والإصلاحات التي حدثت بها. 
لماذا لا يريد العالم أن تستيقظ مصر وتستمر في طريق النمو بعد أن تقوم بهذا البناء العمراني وتبدأ البناء الصناعي الذي يضعها على عتبات الحداثة التكنولوجية؟ 
عالم جديد هذا الذي يظهر إلى من يرجاه، وما السبب في هذا التحول وكيف حدث؟

لفتت نظري هذه الفقرة التي جاءت على لسان نوبار باشا في مذكراته التي أطالعها الآن. وقد قالها مناجيًا نفسه وهو في مدينة "كان" الفرنسية في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1890، أي بعد الاحتلال الإنجليزي لمصر بثماني سنوات:
"إن من يرى مصر منذ أربعين عامًا لا يسعه إلا أن يندهش من التحولات والإصلاحات التي حدثت بها. إنه عالم جديد هذا الذي يظهر إلى من يرجاه، وما السبب في هذا التحول وكيف حدث؟
ما أن يتعلق الأمر بمصر الحديثة، فإنه دائمًا يجب الرجوع إلى محمد علي الكبير؛ إنه هو الذي حوَّلها وفتح لها أبواب المدنية الحديثة والمنافسة مع أوروبا، ومن خلال الأبواب التي فتحها محمد علي جرت الأحداث، ودخلت الأفكار التي أكملت العمل الذي بدأه، فقد وجدت نفسي مدعوًا لأداء دور في هذه الأحداث، بل ووجدت نفسي واحدًا من الذين ابتكروا كثيرًا من هذه الأفكار.
والآن.. وقد وصلت إلى عمر لا يعني معه المستقبل شيئًا كثيرًا، بالنسبة لي سوف أعيش وأعايش هذه الذكريات والأحداث التي كنت أنا نفسي شاهدًا عليها، وسوف أترك لنفسي العنان لكي أبحر معها وسط تيار أفكاري".
فهذه العبارة تدل في رأيي دلالة قاطعة على مدى التغيير الذي حدث في مصر منذ جاء محمد علي إلى الحكم، وهو من الأمور التي تكاد أن تكون مصر وحدها هي التي اختصت بها؛ فالتغيير يحدث في مصر منذ عصر محمد علي خلال فترة قصيرة من اليقظة تقفز فيها البلاد بحماسة شديدة وبقوة دفع غريبة، إلى أن تصاب بضربة تعيدها إلى الوراء! فتنام، وفجأة تستيقظ مرة أخرى وتقوم بنفس الدور في البناء والإحياء والتطوير. لكن السؤال هو: هل هذه خصلة محمودة في مصر وفي طبيعتها وتكوينها؟ أم أنها خصلة ذميمة في الظروف التي تحيط بمصر؟

أهمية هذه المذكرات تكمن في كونها صادرة عن إنسان أسهم في صنع الأحداث حتى ولو كان يحاول من خلالها أن يدافع عن نفسه، أو يبريء ساحته

ولعل هذا يدعوني إلى طرح سؤال: لماذا لا يريد العالم أن تستيقظ مصر وتستمر في طريق النمو بعد أن تقوم بهذا البناء العمراني وتبدأ البناء الصناعي الذي يضعها على عتبات الحداثة التكنولوجية؟ لماذا دائمًا تُجهض المحاولات؟
إننا في حاجة إلى من يفكر في معرفة الأسباب، وأنا أدعو للعكوف على دراسة هذه الظاهرة لنصل إلى حالة الاستمرار الطبيعي إلى الأمام؟
على كل حال ملاحظة نوبار باشا هذه أثارت الشجون في نفسي.
ويحتوي هذا الكتاب الضخم الذي يربو على سبعمائة صفحة من القطع الكبير على مقدمة، ودراسة، وأوراق نوبار باشا؛ وقد قسّمتها الدكتورة لطيفة سالم إلى أقسام حسب تتالي العصور التاريخية، حيث بدأت القسم الأول منها بعصر محمد علي باشا وابنه إبراهيم، وجاء القسم الثاني حول عهد الوالي عباس، والثالث عن عهد الوالي سعيد، أما القسم الرابع، وهو الأكبر حجمًا في هذه المذكرات حيث يشغل أكثر من نصف عدد صفحاتها، فكان من نصيب عصر الخديوي إسماعيل. 
وذلك بالإضافة إلى الملاحق التي تمنح المذكرات رائحتها التاريخية.
أما نوبار نفسه فهو دليل على المرحلة الانتقالية التي كانت تمر بها مصر في نظام الحكم والحياة، فنوبار باشا الذي وصل إلى درجة رئيس وزراء مصر، وكان أهم شخصية تنفيذية فيها، والرجل الثاني بعد الخديوي، والذي تحمل بعض شوارع مصر اسمه ويرتفع تمثاله وسط ميادينها حتى الآن هو نوبار نوباريان، المولود في 4 فبراير/شباط 1825 في أزمير.. المدينة التركية، ولكنه لم يكن تركيًا، وإنما منحدر من نسل عائلة أرمينية عريقة ترجع أصولها إلى أعالي أرمينيا.
إذن فهو أرميني، ولا يخفى علينا مدى المكابدة التي عاشتها أرمينيا بسبب بطش الأتراك. 
أتم دراسته الابتدائية في جنيف ثم التحق هو وأخوه "أراكيل" بمدرسة "سوريز" بالقرب من تولوز، لمدة أربع سنوات من 1836 إلى 1840، وقد استُدعي إلى القاهرة وهو في سن السابعة عشرة، أي أنه كان لا يزال في بداية مرحلة النضج، أما الذي استدعاه فهو خاله بوغوص بك يوسفيان، الذي كان وزيرًا للتجارة والأمور الإفرنجية لوالي مصر محمد علي باشا.
وقد بدأ نوبار سلم حياته الوظيفية سكرتيرًا في مكتب خاله، وبعد أن توفي خاله في عام 1844 أصبح هو السكرتير الشخصي والمترجم الخاص لمحمد علي.
وبعد ذلك التحق بخدمة ابنه إبراهيم باشا، الذي اصطحبه معه في أغلب أسفاره إلى أن توفي إبراهيم باشا عام 1848.
 وفي عام 1850 تزوج نوبار امرأة أرمينية هي فوليك ابنة كيفورك بك باراميان، الذي عمل سكرتيرًا لمحمد علي في القسطنطينية.

وكُلِف نوبار بالسفر إلى لندن في مهمة سياسية لمناقشة بعض الأمور التي تتعلق بالدولة المصرية مع اللورد بلمار ستون سكرتير وزارة الخارجية البريطانية، وفي هذا دلالة على مدى ذكاء نوبار وثقة الحكام الذين خدمهم في شخصه، والذين يصل عددهم إلى ستة ممن حكموا مصر.
ونوبار باشا صاحب شخصية وقد جعل فكرة العدل نصب عينيه دائمًا، ويقال إن هذا سر إطالة عمره في البلاط وفي الخدمة العامة. 
وقد كان هدفه محاولة معالجة ثلاث مظالم كان يعاني منها الشعب المصري: التعسف في تقدير الضرائب، ونظام الامتيازات، والسُخرة، وقد كان يحاول أن يجد سبلًا لحل هذه المشكلات من أجل التخفيف عن كاهل الشعب المصري وبخاصة الفلاحين منه.
ومن الواضح من قراءة هذه المذكرات أنه اصطدم ببعض الكبار، وقد كان هذا من طبائع الأمور أن يوجد الرأي والرأي الآخر، والأخذ والرد، وإن كان نوبار ليس من هذا النوع الذي يسهل انقياده. كما كان له دور في إلغاء المحاكم المختلطة نهائيًا من مصر.
وفي هذه العجالة لا يمكننا أن نوفي هذه المذكرات حقها من الكتابة، ولكن يجب أن نُقر بأن هذا الإصدار أعطى صورة لعصر كثيف الغيوم، لأننا لا نعرف عنه إلا ما سطرته كتب مؤرخي مصر في ذلك الوقت، ولكن نشر مذكرات مسئولين من هذا الصنف العالي يعطي صورة أقرب وربما أصدق لما كان يحدث داخل قاعات القصور ذات الأسوار العالية، كما يعطي فكرة عن طبيعة المجتمع المصري وأحوال المصريين ومحاولات الخروج من وضع إلى أوضاع أفضل.
كما تكمن أهمية هذه المذكرات في كونها صادرة عن إنسان أسهم في صنع الأحداث حتى ولو كان يحاول من خلالها أن يدافع عن نفسه، أو يبريء ساحته.
 ومن خلال المقارنة بين كتب التاريخ وهذه المذكرات يمكننا أن نحدد الملامح الأقرب إلى الواقع.
وتبقى ملاحظة وهي أن هذه المذكرات لم تُكتب باللغة العربية، وإنما كُتبت باللغة الفرنسية. وقد اشترك في تقديمها لنا بالعربية أربع شخصيات: المترجم جارو روبير طبقيان، والمراجعة الدكتورة إلهام ذهني، وصاحبة المقدمة والدراسة والتعليق الدكتورة لطيفة محمد سالم، فضلًا عن ميريت بطرس غالي صاحبة التقديم أيضًا التي أبدت بعض الملاحظات، ويبقى طرف خامس في هذا العمل الجماعي وهو "دار الشروق" بمصر التي أصدرت طبعة ثانية منه عام 2015 بعد أن أصدرت الطبعة الأولى من هذه المذكرات في عام 2009.
لكن الانطباع المؤكد الذي يخرج به قاريء هذه المذكرات هو أن صاحبها كان دائم الإعجاب بذاته والحديث عن نفسه، وأنه كان ينسب أي إنجاز إلى ذاته هو.