مشكلة التابع في رواية 'القطار إلى منزل هانا' لسعد محمد رحيم
تتبنى رواية "القطار إلى منزل هانا" للعراقي سعد محمد رحيم * فكرة الغرام المستحيل. وتدور الحبكة حول علاقة غرامية لمرة واحدة. طرفاها هانا ابنة ديفيد عالم الآثار الإنكليزي. ورمزي مساعده من العراق. وتبدأ الأحداث باختفاء هانا لأربعين عاما، ثم اكتشاف رمزي لمكانها في لندن وهي أرملة وكبيرة بالسن.
وبهذه الطريقة يتحول الحب إلى تجربة مازوشية يقبل بها حاملها رغم ما تسببه له من عذاب ومشقة. وبناء على ذلك يأخذ الحب قيمة أحفورية - ويتحول إلى خبيئة مطمورة في الوعي الزائف لمشكلة المعرفة. ولا أجد ما هو أفضل من هذه العلاقة الجبرية لتصوير مشكلة التابع subaltern، فهي ذات وجهين. أسود - يدل على الاستعمار الناعم، ولذلك كان والد هانا يمتطي كل الوقت دراجة سوداء كما تعتقد ابنته ص59، ولكنها في الحقيقة كانت زرقاء كما يتذكر رمزي جيدا ص59. وهذا الطباق في الألوان يحمل دليلا مؤكدا على التباين في عمل الذاكرة، إن لم يكن في مخزونها، لاسيما أن الأسود لون ذاتي وبارد، لكن الأزرق لون أممي وحار. ومثل هذه الملاحظة تفيد بترقية الطباق إلى محاور سياسية تعزل بمقدار ما هي تقرب، كما يحصل في العلاقة بين الرغبة وموضوع الرغبة. الوجه الآخر أحمر - ويدل على الاحتلال الناعم، فقد كانت هانا تحتل قلب وعقل رمزي وتهدده بعقدة الخصاء الدائم. ويستعمل سعد رحيم الكثير من المترادفات التي لها معنى واحد وهو الاستلاب والتحكم والسيطرة مثل: أسرته ص42، استحوذت عليه ص44، افترسته ص44، استسلم ص45، ارتدى بنطاله وتبعها ص47. ولم يبق إلا أن يقول إنها ركبته.
وفي كل هذه التفاصيل يتخلى سعد رحيم لأول مرة عن تصوراته الشعرية والساكنة عن المرأة، مع أنه كان يكتفي في بقية أعماله بالرؤية أو النظر - وهو فعل مشاهدة الغاية منه تغذية الخيال وتحريك المتخيل، بالإضافة إلى اهتمامه بالتوابل الغربية، والتي يعبر بها عن نفوره من واقعه. ويذكرني هذا الأسلوب بمشروع الأردني غالب هلسا. وأستطيع أن أجد أكثر من علاقة متينة بين هلسا ورحيم من جهة وكولن ولسون من جهة مقابلة. ولكن إذا كان ولسون يصدر عن فهم تجريبي لأزمة وجودية اجتاحت أوروبا بعد انتقال مركز الحضارة إلى العالم الجديد، فإن رحيم وهلسا يحرصان على إضفاء طابع حديث ومعاصر على صور المرأة كما قدمتها لنا الذاكرة الشعبية في القرن العاشر الميلادي في "ألف ليلة وليلة"، وبعدها في "الديكاميرون" لكنهما بنفس الوقت يجردان هذه التصورات من السرد - أو الحكاية - أو الحبكة، ويحتفظان بالوعي الباطن الذي تحتله الغرائز.
ويؤكد رحيم على هذه الفكرة حين يقول عن هانا: إنها امتحان للقلب الذي ينافس الذاكرة ص104. ويستغل فيما بعد هذه المعادلة ليعرب عن أشواقه الصوفية للاندماج بالمجتمع العالمي - أو النظام متعدد الأعراق والقوميات حين يعزو لقلبه قيمة مازوشية يسعدها الشقاء والألم، مقابل التشكيك بذاكرته. فهي، والكلام دائما لرمزي، لامجدية ومضجرة وتدعوك للسأم والنفور ص108. بمعنى أنها مرادف لهوية لاوطنية، وربما الأصح: لوجود غير متأكد من ماهيته.
وباعتقادي يوجد إجماع على هذه النقطة الحاسمة بين الوجوديين العرب والأوروبيين. كلاهما يفرط بالإشارة للبيرة (الجعة) وحي سوهو والحانات والرقص والانتحار وممارسة الحب (العهر المأجور في معظم أعمال هلسا مع البغي الفاضلة ذات القلب الذهبي، لاسيما في "سلطانة" و"الخماسين"، والجنس في أعمال رحيم، ويستعمل هذه المفردة بكل ما فيها من إيحاءات عارية وثقيلة، إن لم نقل صادمة وفجة). وكلاهما أيضا يرثي أطلال الماضي بدموع حارة، ويتعايش مع أنقاض الحاضر. ويلح رحيم على هذا الهدف في رواية "القطار.." حين يقول على لسان رمزي: إنه ترك الماضي خلفه، ولم يعد معنيا بالمستقبل، ولكنه مهتم بالوقت الراهن ص70.
وقد تدل هذه النغمة على الربط بين الحرب وضرورة الحياة. ولذلك تكون الأحداث دامية، وتتفاوت بين الدم الذي يسفك في الحروب (حالة "خيال امرأة" لسعد رحيم)، والاغتصاب والقتل بدافع الشهوة ("الشك" و"القفص الزجاجي" لكولن ولسون). حتى أن هانا تلقب رمزي في رواية "القطار.." باسم البدوي الأحمر، كناية عن سفك دماء التابع، أو بإشارة ضمنية لسياسة الإبادة (تدمير الشعب والأرض واحتلالها بعمل راديكالي، وهذا لا ينطبق على هنود أميركا أو أبورجين أستراليا فقط، ولكن أيضا على الآشوريين والكلدان في سوريا والعراق). وبالتأكيد إن ذكر رواية "أمستردام" لماك إيوان في السياق العام ص70 مسألة لها معنى. فهي عن ميلودراما القتل الرحيم، وكأنها تبرر سفك الدم للتخفيف من المعاناة (أو تبديل قدر ومصير الأفراد مثلما راهن الاستعمار القديم على تبديل قدر الشعوب). وينقل رمزي في الرواية عن لسان دافيد، والد هانا، أن قدر أوروبا أن ترث حضارات ما بين النهرين ووادي النيل. ولا أفهم لماذا استثنى بلاد الشام مع أنها الجسر الذي يربط بين أضلاع المثلث الهيليني وما بين النهرين. ولكنه يلح على فكرة فشل الثورات الوطنية، ويرى أن الاستعمار ضرورة حتى يبلغ الشرق سن الرشد مجددا ص97، ثم يقول بأعلى صوته: إن هزيمة العرب حتمية، ولا علاقة للموضوع بما تريد وما لا تريد. ص99. ولم يبق إلا أن يقول: إن الحكمة تقتضي استعمال الغرب للقوة والإكراه في حكم المستعمرات.
ويبدو لي هذا الحوار انتكاسة في وعي الغرب للشرق إذا قارناه بكلام مماثل دار ببن فوكيه الفرنسي ومستر بلاك الإنكليزي في مطلع الجزء الثاني من "عودة الروح" لتوفيق الحكيم**. فالفرنسي يعترف ضمنا بخلود الحضارة الشرقية حين يرى أن العلم الأوروبي مكتسب والحضارة دائمة ص55، وأن أوروبا بنت أمجادها على سرقة الحضارات القديمة ص55. في حين يجد رحيم نفسه محتارا أمام ما يسميه "الحلقة المفقودة" ص100. وينسحب ذلك أيضا على سيمياء اللون. فالفرنسي يتفاءل بالسماء الزرقاء الساطعة في مصر، بينما يقول رحيم عن سماء لندن إنها رمادية وقاتمة ص278- وكأنه يشير إلى احتراقها البطيء.
ويكرر هذه الفكرة في عدة إشارات علنية لأعمال أغاثا كريستي، فهي دائما تنقب عن نفوس ضالة ومجرمة وبأسلوب يشبه كثيرا طريقة التنقيب عن بقايا الحضارة النائمة. والحفر في جدار التاريخ يكون عادة لتنشيط الجزء المفقود من الذاكرة وليس الهوية الوطنية. ولم يسبق لسعد رحيم أن غامر بدخول هذه المنطقة العمياء، مع أنها إحيائية وليست محايثة، بمعنى أنها تهتم بالدائم والأزلي وليس المتغير والقابل للتداول. وأعتقد أن أول فصل من رواية "ثلاث وجوه لبغداد" لغالب هلسا هي عودة إلى هذه الحلقة المفقودة من خلال مشاهد حب بالإكراه كانت قد وردت في "القفص الزجاجي" لكولن ولسون. ويقترب سعد رحيم من هذه المشاهد الطقوسية في روايته "القطار.."، وبعدة مواضع. ولكنه يبدو أكثر ليبرالية ممن سبقه. فهو يختلف عن التفاصيل الأرثوذوكسية التي يتمسك بها غالب هلسا، وأجزم أنه ورثها من عمله بالصحافة التقليدية مثل وكالة أنباء شرق ألمانيا، ثم وكالة أنباء الصين. وقد تعرض صنع الله إبراهيم للطرفين بالنقد الذاتي، لاسيما في روايته المتأخرة "برلين 69"، وفيها لم يجد حلا لمشكلة الخلاف بين الذات والموضوع أو الواقع والخطط إلا بانتحار بطلة الرواية.
وكذلك يختلف رحيم عن وجودية كولن ولسون بإضفاء طابع جغرافي على الغرائز. وإذا كان الحب عند الاثنين مؤقت وعابر وله طابع فيزيائي - بمعنى الامتلاك أو متعة الحيازة فقط وبالتجرد عن أي هدف- كإشباع مبدأ اللذة في حالة ولسون - وهو نتاج ثقافة هضمية واستهلاكية تتعامل مع المادة مثل التعامل مع الأفكار، أو انتقام الحضارة الجريحة لنفسها عند رحيم، فمشهد حب رمزي مع هانا في رواية "القطار.." لا يخلو من الإسقاطات والترميزات (وهذا أيضا رأي فاضل ثامر في المقدمة الهامة التي كتبها للرواية).
أولا لأن رحيم يكرر كلمة جنس وجنسي عدة مرات، مع إضافات عاطفية بسيطة بغاية الترقية والتمويه. وينظر إلى المرأة - بالتحديد للعلاقة البيولوجية معها على أنها هي الحياة كلها ص237.
وثانيا اختار لهانا الإنكليزية أن تكون فوق، ولرمزي العراقي أن يكون تحت، أو ما يسميه كولن ولسون وضعية الفارسة. ولا أظن أن تفسير هذه الصورة بريء من ألعاب السياسة. وبالتأكيد يعكس أزمة ابن المشرق مع الحضارة الغربية الصاعدة والمتنفذة. وإذا اختار من سبقه العزف على نغمة الأخلاق والمعرفة، وأن يكون سلاح الأخلاق بيد ابن المشرق، والمعرفة بيد المرأة الغربية، فإن سعد رحيم جعل المعركة بين مشكلة العمل ومشكلة المعرفة. بتعبير آخر وضع الأهداف الاستعمارية للغرب بموازاة الهدف الحضاري والتعليمي للشرق. وهي مقايضة جائرة لن يحسن شعوره الباطن التغطية عليها. وكانت هانا بهذا السياق تمتلك رمزي، ومن خلف هذا التصور كان الغرب يغزو أراضي الشرق، ويعيد تجهيزه عاطفيا، وبنفس الوقت يعيد تركيبه، وللأسف كما يعترف رمزي أنه كان يحب هانا / رمزيا الغرب، أو بلغة أوضح الحلم الغربي - على وزن الحلم الأميركي، وطيلة أربعين عاما. والأسوأ أنه حب من طرف واحد ص103، وهي أزمة ناقشها فورستر في "ممر إلى الهند" وبيرل باك في "نسل التنين". ولكنها انتهت بتمرد التابع، بينما ترك رحيم النهاية معلقة، وحكم على التابع بتقديم ما لديه من مخزون نفسي ومادي. فبعد اعتلاء هانا لرمزي في موضع للتنقيب عن الآثار، سافر رمزي إلى هانا بعد أربع عقود، وهو تأكيد آخر على تأصل أخلاق وسلوك التابع. ويدعم هذا التفسير سفره بالقطار إلى لندن، والقطار مثل النهر رمز لحركة التاريخ باتجاه واحد. وحسب الخطاطة التالية:
عراق - مملكة متحدة
واقع - خيال
رمزي - هانا
أو بلغة مباشرة شرق يرتمي في أحضان الغرب (مدفوعا بهدف مزدوج وهو المعرفة والسعادة - غذاء الرأس والقلب معا).
وأعتقد أن سعد رحيم ينفرد بهذه الرؤية من بين كل من سبقه، سواء علي بدر الذي نظر لدخول الإنكليز وخروج الأتراك من بغداد مثل وليمة عارية ينهب فيها الفاتحون مدينته، أو أحمد السعداوي الذي صور خرائب بغداد وكأنها مهد لفرانكشتاين عراقي. وحقن هذا التصور بمدلول تعليمي وتراكمي، حين جعل مخلوقه المرعب لا ينتقم من الغزاة إفراديا، وفضل أن يعبر به عن وعي جمعي وإرادة شعبية ومعرفية عامة.
ولا أريد أن يفهم أحد أن سعد رحيم يشرع للغزو الثقافي، ولكنه حاول أن يوسع من المظلة الحضارية. فقد كان مؤمنا بأهداف الاستشراق الغربي. وقد ورد على لسان رمزي شيء بهذا المعنى، فهو يرى أن الاستشراق ساعد العرب على معرفة ماضيهم بشكل أفضل ص240. وماضي رحيم يبدأ مع نمرود وأور وينتهي بهما ص243، وتلعب لديه مثل هذه الثقافات النائمة دور بوابة مفتوحة تنقله من أرض العراق التاريخي إلى بلاد الأنغلو ساكسون وتجليات الثقافة الغربية. ويمثلها عنده دان براون وألبرتو مورافيا في السرد وبريتني سبيرز والبيتلز وشوبان في الفن. ولذلك جعل حركة التابع ترددية ومتعددة، ولم يعمد لبناء أحداث روايته بالتسلسل ولكن بالتناوب، واستعمل عدة أصوات لإضاءة الحدث الواحد. وتطعيم الرؤية بالصوت يساعد على إنشاء مجال فوق مادي - أسميه الفسحة المضيئة. وأستعير هذا التعبير من الدكتور سامي أدهم. وأعني به تجريد وجهة النظر من مغزاها التاريخي مع الاحتفاظ بجدلية الحضارة، فهي تعاقبية وتاريخية حتما. بتعبير آخر إنها تعبر عن أزمة روحية في حالة تاريخية محددة. وأعتقد أن ما يحدو سعد رحيم لهذا الاتجاه هو تفكيره الدائم بغواية الغرب، وهو بنظره دائما مؤنث والشرق باستمرار مذكر. والغريزة هنا تحكم، وهي دهرية، ولكنها أيضا معرفية، تحمل جينات ومعارف مرحلتها.
ولا يخجل رحيم من الاعتراف بتبعية رمزي، فهو يتخيل هانا حين يكون في الفراش مع سمارة، وأقرأ هذا الاحتلال بالإزاحة على أنه التعبير الموازي لسياسة ملء الفراغ – أو خطة جونسون للشرق الأوسط في مستهل القرن العشرين. وهو أيضا إقرار بفراغ الزمن العربي.
وجاذبية الغرب عند رحيم صفة مستديمة لازمته منذ روايته "ترنيمة امرأة" - تدور أحداثها في إيطاليا، حتى "مقتل بائع الكتب" - التي تدور أحداثها في براغ وباريس. وهو لا يبني أحداثه بشكل أدب رحلات أو ارتحال، ولكن على أنها مساكنة أو تهجير للأفكار والرغبات. ولذلك لا يشكل امتدادا لأدبيات صراع الشرق والغرب بقدر ما يعبر عن مأزق حضاري. وإذا استعرنا من السيد ولد أباه لغته هو لا يفكك الاستعمار، ولكن يتبناه ويهضمه. وأعتقد أن كل رواياته مشروع لإنتاج كائن هجين غير تراكمي، يحمل في جهازه المعرفي ما أقول عنه الجنس الثالث. فهو ليس الشرق المذكر - ولا الغرب المؤنث ولكنه فرانكشتاين الألفية الثالثة الذي خضع لعمليات تجميل. وبهذه الطريقة يتهرب أيضا من أزمة صراع الأزمنة كما يصورها هاني الراهب في "خضراء كالعلقم"، لأنه لا يحارب القديم بالجديد، ولكنه يوحد كل الأزمنة في المشكل الحضاري. ويقول عن ذلك: إن حبه لسمارة لم يحرره من حب هانا. وهذا اعتراف غير مسبوق بأزمة التابع وتخليه عن معركة التحرير. كما أن رمزي يقر باستسلامه لهانا حين يلجأ إلى العادة السرية كي لا تموت ذاكرته الاستعمارية، ويكذب على سمارة ليخفي نفوره من حكومة الاستقلال، وما يثبت هذه الفكرة اسم هانا - المحبوبة والفارسة والمستعمرة. فالاسم بالأساس آرامي ومن جذور عبرية ومعناه الرب، كما أنه تأنيث للقديس يوحنا. وعلى الأرجح أن هانا كانت إلهة اختارها الرب ومنحها ابنا، وكأنها أحفورة لفكرة الحبل بلا دنس. وليس من المستبعد أنها هي نفسها مريم عليها السلام المذكورة في القرآن. ويدعم رحيم هذا السياق باستعمال لغة رعوية للكلام عن مجتمع المدينة. وفي الحبكة قرائن على هذا السياق لاسيما أن مشهد الحب الوحيد كان في البادية بين آثار مدينة الحنينة. لكن لقاء رمزي المتكرر مع الأرملة هانا تم في مدينة لندن. وهو ما يقسم أصوات الرواية إلى نصفين، رعوي وشرقي / تذكير، ومديني وغربي / تأنيث.
ولكن دائما كان الزمام بيد المؤنث. حتى أن هانا تقول في التعليق على أول ظهور لرمزي في لندن:
لا يحق لهذا البدوي الأحمر أن يفرض نفسه هنا.
وتضيف: فأنا من يختار ومن يغوي.
ويذكر رمزي في موضع آخر: إنها كانت تطارده مثل نمر جائع ص44.
ثم يذكر على لسان هانا: إن ما حصل لا يعبر عن علاقة متكافئة، ولكن تقاطع خط قدره مع قدرها بالمصادفة ص58. ويتكرر ذلك بعد تعرفه على جاكلين. فهي مع غسيل الذاكرة وتطهيرها من المشاعر والأحاسيس وفي مقدمتها الحب. وتقول بهذا الصدد: الحب شيء بغيض.
وتضيف مباشرة: وهو هدر للوقت. ص77.
وعلى الأرجح إن جاكلين قناع من أقنعة هانا، فالاسم يختلف لكن الجوهر واحد. ويذكر رمزي أنه كان يسهو أحيانا ويناديها باسم هانا ص94. وتكفي كل هذه التلميحات من الشعور الباطن - لاوعي الشخصيات والروائي، لتكون هانا أما غربية لرمزي، وليكون هو ابنها الشرقي أو على الأقل أوديبها. حتى أن لحظة الحب تأخذ دراميا شكل واهب / بصورة رمزي المستلقي على الأرض، كناية عن أرض العراق التاريخي، ومستفيد / بصورة هانا التي تمتطيه. وبذلك تعكس الرواية ما تعودنا عليه في أعمال العجيلي من الصراع بين المدنية والبداوة، ثم الانتقام من الغرب بامتلاك نسائه (والتعبير الأخير لجورج طرابيشي). ويقول سعد رحيم بلسان رمزي عن هذه العلاقة المعكوسة: إنه شعر بها وهي تغتصبه برضاه ص 46. ثم يضيف: إنه استسلم لها حتى شربت (أقرأها حتى استولت) على محتوياته ولآخر قطرة ص46.
بقيت نقطة أخيرة. أن أدبيات سعد رحيم تنتمي لتقاليد رواية الاستقلال. وهي غالبا مخلصة لدور التابع، وتتلخص مهمتها بمحاكاة الحاكم الاستعماري. وكل ما يهم التابع أن يجلس في مكتب المندوب السامي أو أن يقود سيارته. كما أنه لا يبدل أدواته، ولكن يعربها، مثل أي دوبلير في أي عمل أجنبي. والتعريب بحد ذاته استراتيجية نهضوية، ومن رواده المنفلوطي أحد أهم نجوم الوعي الوطني والإصلاحي في بواكير القرن العشرين. ولا يسعنا إنكار تطلعات روايات رحيم لربط بلاد ما بين النهرين بجنوب أوروبا، أو شرق الهلال الخصيب بالمياه الدافئة. وتبقى هذه التطلعات ذات نظرة أممية وضمن فقاعة من الأحلام - الرغبات والكوابيس - وأسميها المكروهات. ولذلك يتطور سرده في معظم الحالات داخل جو ضبابي قليل الانتماء للواقع ومتين الصلة بما بعد الواقع - ولو بقوة التمني أو نظريا. ولذلك تقف شخصياته، كما يقول رمزي، عند الحافة الضبابية من الوعي، وحينها يكون العالم على وشك الغياب، وبحالة خدر ص236. ولكن يوجد خلاف جوهري ببن روايات الاستقلال ورواية الثورة. فأول نموذج يدين بوجوده للمدينة، وتخطيط المدن لديه لا يكون بعدسة الزوم، ولكن بمشاهد وبورتريهات بانورامية. وثاني نموذج إما أنه يكتب عن معدة المدينة - بمعنى أسواقها وأحيائها الداخلية - مثل غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي أو أنه يدين لثقافة الأرض والكدح والإنتاج. وبلغة أوضح للاقتصاد الريفي. وهذا يستوجب أحيانا غزو أبناء الريف لمحيط المدينة وإنشاء حزام هجين يستهلك ماضيه دون أي فكرة محددة عن مستقبله - كما فعل عبدالرحمن الشرقاوي في عمله المعروف "الأرض" ثم في روايته "الشوارع الخلفية". وإذا كانت روايات الاستقلال واضحة بتبعيتها - ولا تخلو صفحة في أعمال سعد رحيم من الإشارة لكاتب أو فنان غربي فإن لروايات الثورة أسلوب ذاتي في المعرفة والإدراك، وبلغة ناقد عراقي معروف هو حمزة عليوي: مثل هذه الروايات هي استجابة فورية لجدل السرد وتأسيس الدولة***.
*منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق. 2018. بغداد. 280ص.
*عودة الروح. المطبعة النموذجية. مصر. دون تاريخ.
*** جمرات يارا، تاريخ دولة. جريدة الشرق الأوسط.22 شباط 2021.