مصرع المتنبي بين ثلاث روايات متناقضة
توجد ثلاث روايات متناقضة تناولت حيثيات مصرع المتنبي.
في أمهات الكتب الكلاسيكية لا يبدو الأمر لغزا، وهو محسوم لمصلحة ثأر عادي.
بينما يعتقد طه حسين أنه كان منضويا تحت لواء القرامطة، ثم تعاون مع الحشاشين، ويفسر على هذا الأساس رحلاته الماراتونية في بلاد الشام، فهي لم تكن للبحث عن الثروة ولكن للتبشير بعقد اجتماعي جديد. وربما لهذا السبب ارتهنت شعريته لبنية سردية تعبر عن التعالي والغرور والانفصال عن الواقع، فهو كما ورد في قصائده، متمرس "بالكر والفر"، ويتقن "الضرب بالسيف والرمح" في أصعب "الأزمنة والأمكنة"، عدا أنه "مثقف وشاعر".
والمعرفة في هذا السياق ليست عالمة ولكنها غالبة. والكلمات التي تشير للصراع ومكامن الخطر ضعف الكلمات التي تهتم بالثقافة، حتى أنه أعطى الأولوية للجيش على حساب العقل كما ورد في قوله: "المجد للسيف ليس المجد للقلم". ولم يكلف نفسه عناء الموازنة بين "السلطة والإيمان" بطريقة غراهام غرين في روايته المعروفة "السلطة والمجد". وليس سرا أنه قدم نفسه للجميع وكأنه استثناء أو ظاهرة فوق طبيعية. فقد كانت "البحار تسعى إليه" و"الأسود تعاهده وتؤاخيه". وهذه تمثيلات لا معقولة وسريالية، وتعتمد على المبالغة والتهويل. وكلما تضاعف تجاهل الولاة له زاد غروره، حتى وصل لدرجة هجاء الدهر.
ومن الأمثلة على ذلك قوله:
قبحا لوجهك يا زمان فإنه
وجه له من كل قبح برقع
وقوله:
أُطاعِنُ خَيلاً مِن فَوارِسِها الدَهرُ
وَحيداً وَما قَولي كَذا وَمَعي الصَبرُ
وَأَشجَعُ مِنّي كُلَّ يَومٍ سَلامَتي
وَما ثَبَتَت إِلّا وَفي نَفسِها أَمرُ
ولا يغيب عن الذهن الصدع النفسي في هذه الأبيات، بعد ذم الدهر يعزي نفسه بقدراته غير المحدودة على الصبر والقتال وتحمل الأمراض والأهوال. وهذه المواقف تفاقم من الاشتباه بأمر من اثنين.
الأول أن استعداده للتمرد تحول إلى قناعة تامة بأهليته للرئاسة.
الثاني أنه تعامل مع شعريته كما لو أنها وحي من جهة لا يفهمها عامة البشر (فنفسه لم تثبت إلا لأنه صاحب فكر وعقائد)، وهو ما يؤكد تخطيطه لعمل عسكري ضد النظام، والإسلام العربي لا يفرق بين مفهوم النبي والقائد الحربي أو السياسي. كما أنه يبرر لقبه - أنه يقف على نبوة - بمعنى درجة أو مرتفع بسيط من الأرض، وهو مقام للخاصة وليس العامة. ومعظم رواد حركات الإصلاح والتنوير لهم منابر، ومنهم نبي جبران وقف على مكان مرتفع ليبشر برسالة تؤكد أن العقل يتبع العاطفة، وأن العاطفة تتبع البديهة، والبديهة هي نتاج طبيعي وفطري. والدليل على ذلك قوله: دع روحك تحلق بعقلك إلى ذرى العاطفة، حتى تصدح بالنغم.
وهي عبارة تذكرنا بقول المتنبي:
لا يعرف الشوق إلا مهجة عشقت
فاض الحنين فنادتكم قوافينا
والشوق في هذا السياق لشيء طال انتظاره، وهو حب مثال أو صورة وليس امرأة. ولم يعرف عن المتنبي أي غزل ملموس أو تشبيب. والحب لديه مرهون بالرغبة في السلطة كقوله:
ما لي أكتم حبا قد برى جسدي
وتدعي حب سيف الدولة الأمم
ولكن غيابه عن الكوفة في وقت الشدة يطعن بكل هذه الاستنتاجات، فقد لجأ إلى بغداد أثناء الاجتياح الأول عام 924، والاجتياح الثاني عام 930. وكان غيابه وقائيا، أو أنه نزوح بالإكراه هربا من أهوال الحرب (فالمصادر تختلف).
ويذهب الناقد يوسف اليوسف لأبعد من ذلك ويجزم أنه صمد في أحداث عام 964، واستبسل في الدفاع عن بيته مع غلمانه وعبيده. وإن كنت أستغرب منه هذا التصرف، فمبيته في الكوفة كان أقصر من غيابه عنها، حتى أنه لم يذكرها في شعره، ودخلت في حفرة أو هاوية الإهمال مثل زوجته وأبيه. وكان يفضل عرب الشام والبادية على الفرس الذين عادوا لحكم العراق "ومن الشائع قوله: وما تفلح عرب ملوكها عجم. وذلك عام 948 بعد انتصار سيف الدولة على برزويه". وربما كان خروجه من الكوفة للنأي بالنفس من الطرفين المتنازعين: الفرس والقرامطة. ولكن من المؤكد أنه هجا القرامطة في ميمية قال فيها:
لَأَتـــرُكَــنَّ وُجــــوهَ الخَــيلِ سـاهِـــمَــةً
والحَربُ أَقوَمُ مِن ساقٍ على قَدَمِ
بِــكُــلِّ مُــنصَـلِـــتٍ مـا زالَ مُنـتَــظِـري
حَتَّى أَدَلْــتُ لَهُ مِـنْ دَولَــةِ الخَــدَمِ
شَيخٌ يَرَى الصَّلَواتِ الخَمسَ نافِلَةً
ويَستَّحِــلُّ دَمَ الحُجَّــاجِ في الحَـرَمِ
في إشارة واضحة لنهبهم مكة والاستيلاء على الحجر الأسود.
كما أنه امتدح القائد العباسي الديلمي دلير بن لشكروز الذي جاء لنجدة الكوفة (المعلومة وردت في كتاب "مع شعراء الأندلس والمتنبي" للمستشرق إميليو غارثيا غوميث 1905 -1995*)، وقال فيها:
شجاع كأن الحرب عاشقة له
اذا زارها فدته بالخيل والرجل
فتمليك دلير وتعظيم قدره
شهيد بوحدانية الله والعدل
ولكنها أبيات ميكانيكية، وتندرج في عداد الشهادات والوثائق، أو شعر المناسبات، ولا يمكن تشبيهها بما كتبه عن شخصيات عروبية مثل سيف الدولة وبدر بن عمار.
ومع ذلك يبدو لي المتنبي متألها وليس متنبئا (فهو يرى أنه "إنسان كامل" وكأنه يعيد صياغة عبارة "ليس كمثله شيء" التي وردت في القرآن). ويعتقد أنه علة أو سبب أول أو باختصار بداية "لانقسام البشرية إلى شعوب وقبائل" تختصم حول ما صنعته يداه. وهذا لا يعني بالضرورة أنه بشّر برسالة سماوية أو دين. وربما لا يزيد الموضوع على تهمة باطلة مثل حالة مسيلمة الحنفي، فقد أدين بالردة مع أنه كان من الأحناف فقط وليس مسلما. وأرجح أن إفراط المتنبي في التعالي يدل على الرغبة بوأد أصوله إن لم يكن حرقها (فهو لا يتباهى بقومه، ولكن هم من يتباهون به. وهو لا يفخر بأجداده ولكن بنفسه(. ويوجد فرق ملحوظ بين مبالغته في وعي الذات، ووعي رموز الشعر العربي بالأسرة والعشيرة (كعمرو بن كلثوم أو دريد بن الصمة). فأنا المتنبي يحيل للمفرد وأنا ابن الصمة وابن كلثوم يحيل للجماعة. والنبوة فداء وتضحية أو مشقة يبذلها الواحد في سبيل الكل، بعكس الألوهية (التي تعزو لنفسها قيمة جوهرية أو علة وجود شامل وتستعمل لغة تدل على معاني البطش والتجبر).
والأمثلة كثيرة.
مثل قوله تعالى في سورة الأنعام "وهو القاهر فوق عباده" وقول المتنبي "أي محل أرتقي أي عظيم أتقي". والأسوأ أنه يسأل نفسه ولا يخاطب الحشود.
ويذكر يوسف اليوسف عدة أخطاء ارتكبها المتنبي تسببت بمقتله، وسفح دم ابنه محسد (تسميه بعض المراجع محمد). منها كراهيته لمعز الدولة البويهي واختلافه مع المهلبي وزيره الماجن والخليع، ثم هجاؤه لضبة أحد الموالين للقرامطة. وكان يعيش بحمايتهم في حصن قرب الكوفة. وأخيرا فاتك الأسدي خال ضبة، ويعتقد أنه زعيم كتيبة قرمطية، فقد هاجمه بحوالي 25 -30 فارسا، ويرى طه حسين أنهم بلغوا 70. وكمين من هذا النوع هو، بالمنطق، أقرب لغارة مخطط لها (أو أنها على الأقل إشارة استراتيجية تمهد لحصار أو حرب طويلة الأمد كما جرى في غزوة بدر مثلا). والأغلب أن دافع فاتك ليس الانتقام ولكن السياسة. ومع أن هذا التفسير يأتي من باب الاجتهاد القائم على التكهن يلتقي مع نفي إبراهيم عوض لقرمطية المتنبي، فاسمه لم يرد في مجالس الدعاة لا من قريب ولا بعيد، كما أنه لم يمتدح قياداتهم. ولا يجوز نسيان معجز أحمد الذي وضعه المعري، فهو شهادة له بترفعه عن المكاسب المؤقتة، وبوجود هدف ملحمي في ذهنه. والتعبير الأخير ليوسف اليوسف الذي اعتقد أن المتنبي شاعر تراجيدي خذل نفسه بعد أن فقد كل الروابط العضوية مع أمته.
ويمكن أن نعزو غموض حياته لعدة أسباب.
الأول هو الخجل من خلفياته الاجتماعية وتكتمه عليها. وإسراف المتنبي في تعظيم نفسه قابله إنكار لأسرته وعشيرته، حتى أن مسقط رأسه لم يكن له أي رصيد لا بالمديح ولا الذم. ويصعب في هذا المجال أن لا نلاحظ الفراغات الكثيرة في الأخبار التي رسمت صورته. نحن لا نعرف على وجه اليقين من هي زوجته. وإن كان يوسف اليوسف يرجح أنها من العنصر العربي ومن بلاد الشام. ولكن هذا لا يلغي احتمال تعدد الزوجات بالنسبة لشاعر كثير الترحال. ويفاقم من الشك أنها لم تكن معه في رحلته الأخيرة أو رحلة موته. فهل يعقل أنه عاش في خراسان وحده بدون نساء وبصحبة ابن واحد فقط. وقبل ذلك عاش في حلب في بيت من دورين وكثير الغرف والممرات بلا مؤنسة وكأنه رجل عازب، ثم أين بقية الأبناء؟؟. والشيء بالشيء يذكر. ربط بلاشير هذا الغموض بدواعي التكتم السياسي. ورأى طه حسين أنه دليل آخر على مشاركته في الثورة أو في الإعداد لها.
السبب الثاني تهافته على رجال الحكم بأسلوب وصولي، ولا يخلو من روح انتهاز الفرص، والمقامرة بشعريته وسمعته. وهو رأي طه حسين الذي استغرب غموض حياة شخصية عامة من وزن المتنبي.
وثالثا التنافس مع بقية الشعراء أصحاب الحظوة (ويأتي ذلك في سياق الخصومات داخل الحزب الواحد)، فقد حرصوا على تشويه تاريخه بالدس والحذف والمبالغة مع الكثير من سوء التفسير. يضاف لذلك تقلبه بين الحكام المتحاربين، حتى أنه تحول عمليا إلى فارس ليلي، كلما ضاقت به الحال يهرب في جنح الظلام من قصر إلى آخر.
*أشار لها إبراهيم عوض في ترجمته لكتاب ماسينيون. ص 53. طبعة عام 1988.