مصر والسودان في مذكرات صلاح سالم

صاحب هذه المذكرات زامل جمال عبدالناصر، وجمعته به الظروف حين فكرا معًا في تكوين تنظيم الضباط الأحرار. 
المذكرات حققتها ونشرتها الدكتورة صفاء محمد شاكر، بإشراف الدكتور أحمد زكريا الشلَّق وتقديمه
السودان ظل قرنًا وثلث جزءا من المملكة المصرية بمسمياتها المختلفة من "باشوية مصر" إلى "خديوية مصر" إلى "سلطنة" إلى "مملكة واحدة

عن "مركز تاريخ مصر المعاصرة" بدار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة، صدرت "مذكرات صلاح سالم باعتبارها مذكرات أحد أقطاب ثورة يوليو 1952؛ فقد زامل صاحب هذه المذكرات، جمال عبدالناصر، وجمعته به الظروف حين فكرا معًا في تكوين تنظيم الضباط الأحرار. 
وكان واحدًا من هذا الجيل من الضباط الذين التحقوا بالكلية الحربية الملكية بعد معاهدة 1936، إبَّان حصول مصر على استقلالها، وهو ما أتاح لأبناء الطبقة الوسطى من الشعب المصري أن تلتحق بالجيش ضباطًا وليس مجرد جنود.
وتشير هذه المذكرات - التي حققتها ونشرتها الدكتورة صفاء محمد شاكر، بإشراف الدكتور أحمد زكريا الشلَّق وتقديمه – إلى أن صلاح سالم ولِدَ في بلدة "سنكات" بشرق السودان، حيث كان أبوه يعمل موظفًا لدى حكومة السودان، وقت أن كانت حكومة مصرية حينما كان السودان جزءًا من مصر منذ وحَدَه محمد عليّ باشا إلى أن حصل السودان على الاستقلال في عام 1955.
 والمعروف أن السودان ظل قرنًا وثلث، جزءا من المملكة المصرية بمسمياتها المختلفة من "باشوية مصر" إلى "خديوية مصر" إلى "سلطنة" إلى "مملكة واحدة"، وكان ذلك منذ عام 1822 إلى عام 1955، بعد أن خضعت مصر والسودان للاحتلال الإنجليزي، ونجحت انجلترا في إخراج مصر من السودان، ثم قطعه عن الوحدة، ثم استقلاله. ولذلك فالسودان يعتبر جزءًا عزيزًا من تاريخ دولة وادي النيل.
وتشير هذه المذكرات إلى أن صلاح سالم عاش في السودان حتى بلغ سن السادسة من عمره، ثم انتقل بعد ذلك إلى القاهرة، ويدرس في مدارسها، وقد نال الشهادة الابتدائية من مدرسة الحلمية الجديدة، وحصل على البكالوريا من مدرسة الإبراهيمية الثانوية. قبل أن يلتحق بكلية الهندسة جامعة الملك فؤاد الأول لمدة عامين ثم تركها ليلتحق بالكلية الحربية الملكية التي تحرج منها ضابطًا، وهو في الثامنة عشرة من عمره.
وبعد تخرجه، عمل في مرسى مطروح، في المنطقة التي عرفت بجبهة العلمين، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، التحق صلاح سالم بكلية أركان الحرب، وتخرج منها عام 1948، حيث كانت مصر معبأة لخوض قضية فلسطين. وعندئذ كانت بداية تعرفه إلى جمال عبدالناصر.

لا يمكن أن يكثف هذا الكتاب الذي جاء في لغة أدبية راقية في مقال كهذا، مهما كان حجمه، ومع أنه يقع في ثلاث مائة وثمان وثلاثين صفحة، فإنه غني بالأحداث الكثيرة التي كتب عنها صاحبها

ويروي صلاح سالم في مذكراته أن القوات المصرية في رفح كانت تعاني محنة قاسية، إضطرتها إلى تراجع خطوطها بعد أن كانت على مقربة ثلاثين كيلومترًا من "تل أبيب". فتراجعت حتى "قطاع غزة"، تاركة وراءها لواءً كاملًا محاصرًا في "الفالوجة وعراق المنشية".
ويقول صلاح سالم إن القيادة العامة كلفته هو وزكريا محيي الدين ومعهما بعض المعاونين بتوصيل رسالة وبعض الذخائر والأدوات الطبية إلى تلك القوات المحاصرة، ونجحوا بالفعل في النفاذ داخل خطوط العدو الذي طاردهم بنيرانه، فتفرقوا.
ونجح صلاح سالم في التقدم حتى "عراق المنشية" قرب "الفالوجة" حتى دخل في مرمى نيران القوات المصرية المُحاصرة التي كادت أن تفتك به دون أن تسمع صياحه بكلمة السر، لولا أن أنقذه يعض الجنود السودانيين الذين تعرفوا عليه، وأوصلوه إلى جمال عبدالناصر الذي تلقى الرسالة.
وفي "عراق المنشية"، انضم صلاح سالم إلى الضباط الأحرار، ولمع اسمه، وحصل على ترقية استثنائية إلى رتبة "الصاغ" التي تساوي رتبة "الرائد" حاليًا، وذلك تقديرًا لشجاعته وبسالته.
منذ ذلك التاريخ، بدأ صلاح سالم يمارس دوره في إطار "تنظيم الضباط الأحرار" للتخطيط للقيام بحركة الجيش، وتنفيذها بعد أن صار عضوًا في اللجنة التنفيذية لهذا التنظيم.
وقد نشر صلاح سالم مقالًا في مجلة "المصور" عام 1950 عبَّر من خلاله عن ضيقه بالأوضاع السائدة داخل الجيش، وسخطه على النظام الملكي، مما لفت إليه القائد العام للقوات المسلحة، الفريق محمد حيدر باشا، الذي كان وثيق الصلة بالملك، فاتصل بصلاح سالم وحاول كسبه إلى صفه، الأمر الذي وجد تشجيعًا من جانب زملائه من "الضباط الأحرار" للحصول على أكبر قدر من المعلومات لصالح حركتهم، مقابل أن يقدم عنهم معلومات مضللة إلى حيدر باشا. وقد كان القصر يعلم بنشاطهم، إلا أنه لا يعبأ بهم.
غير أن "الضباط الأحرار"، ما لبثوا أن أدركوا ضعف مركز حيدر باشا لدى القصر، وأن سلطة إدارة أمور الجيش تقع في أيدي عناصر معينة بالقصر، فشجعهم ذلك على المضي في خطتهم للإطاحة بالنظام الملكي.
ومن موقعه في "غزة"، لعب صلاح سالم دورًا مهمًا لصالح هذا التنظيم، وخطة القيام بحركته، فحتى ليلة 23 يوليو/تموز كان بالعريش، مع أخيه جمال سالم، وقد سيطرا على القوات المتمركزة هناك، واستطاعا تأمين دورها في الثورة.
 وفي يوم 26 يوليو/تموز 1952 عاد صلاح سالم من العريش إلى القاهرة على إحدى طائرات سلاح الجو، قُبيل خروج الملك فاروق من قصر رأس التين بالإسكندرية بساعات. وخلال الأيام الأولى للثورة كان مسئولًا عن قوات الجيش في فلسطين، وسيناء، وشرق القنال.
وبعد اسنقرار الأوضاع للنظام الجديد، استُدعي صلاح سالم إلى مبنى القيادة في كوبري القبة، حيث كانت توزع المهام، وقد استقر الرأي على توزيع الإشراف على الجيش بين: صلاح سالم، وعبدالحكيم عامر، وكمال الدين حسين. وكانت ضمن مسئوليات صلاح سالم الإشراف على وحدة الجيش في السودان. وهكذا بدأت صلته تتجدد بالسودان، وارتباطه بالمسألة السودانية يتخذ شكلًا أكبر.
وقد تولى صلاح سالم بعض المناصب الوزارية؛ ومنها وزارة الإرشاد القومي، ووزارة الدولة لشئون السودان، وكان يجمع المنصبين معًا في عدة وزارات بين عامي 1953 و1955 في وزارتي محمد نجيب الأولى والثانية التي شُكلت فور إعلان الجمهورية في مصر. وقد استمر في الوزارة حتى بداية أزمة فبراير/شباط 1954، وبالتحديد حتى 10 فبراير/شباط التي كان جمال عبدالناصر فيها نائبًا لرئيس الوزراء ووزيرًا للداخلية. وتلك الوزارة لم يدخلها من العسكريين - بالإضافة إلى محمد نجيب وجمال عبدالناصر - سوى صلاح سالم وعبداللطيف البغدادي.

وفي وزارة جمال عبدالناصر الأولى التي لم تدم أسبوعين، وقد شغل صلاح سالم فيها نفس منصبيه السابقين. وبعد أزمة فبراير ومارس التي حُسمت لصالح عبدالناصر وفريقه، وكان صلاح سالم ضمنها، تشكلت وزارة عبدالناصر الثانية من 17 أبريل/نيسان 1954 حتى 29 يونيو/حزيران 1956، وفيها استمر صلاح سالم يشغل المنصبين ذاتهما حتى قدم استقالته في 28 يونيو/حزيران 1955.
هذا، وقد تولى وزارة الإرشاد بعده فتحي رضوان. وكان من الطبيعي أن تنتهي وزارة الدولة لشئون السودان الذي كان في سبيله للاستقلال والانفصال عن مصر نهائيًا.
وقام صلاح سالم ببعض المهام القومية في علاقات مصر مع الدول العربية؛ إذ إنهم كانوا من المؤمنين بمبدأ الوحدة بين الشعوب العربية كافة. وسافر بالفعل إلى العراق أثناء حكم نوري السعيد، بعد توقيع اتفاقية الجلاء عن مصر بالأحرف الأولى، وكان الهدف من الرحلة أن يُعبر عن أمل مصر في ألا يرتبط العراق بأي حلف أجنبي حتى تجلو القوات البريطانية عن مصر، وعن باقي الدول العربية تمامًا، فأبدى نوري السعيد تخوفه من وصول المد الشيوعي إلى العراق، وفي مؤتمر صحفي قال صلاح سالم إن مصر لا تمانع من حدوث وحدة بين بعض الدول العربية، وفسَّر العراقيون ذلك بأن مصر توافق على مشروع "الهلال الخصيب" الذي أراد به نوري السعيد ضم سوريا إلى العراق.
 وقد أغضبت هذه التصريحات جمال عبدالناصر، فاستدعي السفير العراقي بالقاهرة، وأبلغه عدم موافقته على ما ورد في البيان لأنه يتنافى مع استقلال الدولتين. 
ومع ذلك سافر صلاح سالم إلى دمشق عام 1955، واجتمع مع وزير خارجية سوريا، خالد العظم، ثم انتقل معه إلى كل من: الأردن والمملكة العربية السعودية لعرض نتائج هذا الاتفاق المشترك الذي كان ينص على عدم انضمام الدولتين إلى حلف بغداد أو الحلف التركي العراقي، وقد نص في الوقت ذاته على إقامة منظمة دفاع وتعاون اقتصادي عربي مشترك، وإنشاء قيادة عسكرية دائمة تُشرف على تدريب القوات العسكرية التي تضعها كل دولة تحت تصرف القيادة.
 وكان من أهم الأعمال التي قام بها صلاح سالم أنه شارك جمال عبدالناصر والشيخ أحمد حسن الباقوري في المؤتمر الآسيوي الأفريقي الذي انعقد في "باندونج" في "إندونيسيا" في أبريل/نيسان 1955، وقد حدث بعده بقليل العدوان الثلاثي على مصر في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1956. وقررت القيادة المصرية سحب الجيش المصري من سيناء حتى لا يتعرض للحصار والإبادة، وكان لمجلس قيادة الثورة رأيان؛ الأول: الاستمرار في المقاومة والحرب، والثاني: طلب إيقاف القتال.
وانحاز صلاح سالم إلى الرأي الثاني باعتبار أنه يستند إلى واقع الحال حيث إن مصر كانت تواجه ثلاث قوى كبرى، وليس أمام عبدالناصر إلا الاستسلام، بسرعة قبل تدمير البلاد وتمزيق جيشها. إلا أن موقف صلاح سالم هذا تسبب في بداية التباعد بين الزميلين بعد انتهاء أزمة 1956.
والحقيقة أن هذا الكتاب الذي يضم مذكرات صلاح سالم ويضم أيضًا التحليل الذي قامت به الدكتورة صفاء شاكر بإشراف الدكتور أحمد زكريا الشلَّق، يحوي معلومات في غاية الأهمية عن مرحلة مهمة من مراحل التطور السياسي في مصر بعد انتهاء عصر الملكية، وققيام الثورة، وإعلان الجمهورية، والتطور الكبير الذي مرت به مصر بين صعود نجمها، تارة، وهبوطه، تارة أخرى، في أحداث عالمية كانت أكبر بكثير من قدراتها على الاستيعاب، فضلًا عن قدرتها على المواجهة.
ولا يمكن أن يكثف هذا الكتاب الذي جاء في لغة أدبية راقية في مقال كهذا، مهما كان حجمه، ومع أنه يقع في ثلاث مائة وثمان وثلاثين صفحة، فإنه غني بالأحداث الكثيرة التي كتب عنها صاحبها وقامت بدراستها الباحثة، ومن ذلك حديث صلاح سالم عن سبب استقالته من مجلس الثورة ومجلس الوزراء، والسر في صمته ثمانية أشهر، وأول اتصال بين الثورة وقضية السودان، ونص قرار مجلس الثورة بشأن السودان، وغير ذلك من الموضوعات التي عاش صلاح سالم أحداثها خلال سني عمره القصير، إذ أنه ولد عام 1920 وتوفي عام 1962.