مصطفى نصر: لولا هذه الأشياء ما استطعت تحمل حياتي

الروائي السكندري يرى أن روايته "يهود الإسكندرية" ذات الـ 8 طبعات قضت تمامًا على "المساليب".
"دفء المرايا" تتحدث عن أحداث حقيقية حدثت في المجتمع الثقافي في الإسكندرية، وهي قريبة من مرايا نجيب محفوظ
لـ"جبل ناعسة" فضل كبير على صعود "الجهيني"

على الرغم من أن صداقة عمرها نحو أربعين عامًا جمعتني بالأديب السكندري البارز مصطفى نصر، إلا أنني لم أطرح عليه هذا السؤال إلا في مستهل حواري هذا معه: منذ كتبت روايتك "الجهيني" أدخلت في أذهان قرائك أنك كاتب سكندري ينحدر من أصول سوهاجية في صعيد مصر، وعلى سبيل التحديد من مركز "جهينة" الذي  نسبت إليه بطل روايتك، وجعلته عنوانًا لهذا العمل المهم من أعمالك الروائية؛ في حين أن مَن يبحث في سيرتك يكتشف أنك من مركز "المَرَاغَة"، لا من "جهينة" وكلاهما تابعان لمحافظة سوهاج. فما السر وراء ذلك؟ أجاب مصطفى نصر قائلًا إن رواية "الجهيني" تحكي عن انتخابات عام 1957 - أول انتخابات برلمانية بعد نجاح ثورة يوليو 52 - حين تقدم أحد أبناء بلدتي "المراغة" بترشيح نفسه لهذه الإنتخابات أمام رجل ثري اسمه عبدالحليم حاتم – ابن عم عبدالقادر حاتم، السياسي المعروف، ومن عائلة حاتم – من أكبر العائلات في الإسكندرية - لكن الكثافة السكانية للمراغية المتجمعة في منطقتي: "غربال" و"جبل ناعسة" التي أقطن فيها هنا في الإسكندرية، كانت سببًا في نجاح ابن بلدتنا.
ومن هنا كان لا بد من تغيير "المراغة"، فأنا – عادة – أغير أسماء الأشخاص الحقيقييين، واسم المكان أيضًا، وخير مثال على ذلك ما فعله صالح مرسي عندما غيَّر اسم رفعت الجمال إلى رأفت الهجان - رغم أن الذي فعله رفعت الجمال عملا شريفا ويستحق الإشادة والتكريم، لكن صالح مرسي غيَّر اسمه لكي يعطي لنفسه حرية في القول والحركة.
 والسبب الأهم عندي، سبب فني؛ فلو عنونت الرواية بـ "المراغي" بدلا من "الجهيني"، سيظن القارئ أني أسرد حياة شيخ الإسلام محمد مصطفى المراغي، الذي جعل للمراغة أهمية كبيرة. وقد لاحظت أن أي مراغي ربنا يكرمه ويشتهر أو يصل لمكانة كبيرة يضيف لاسمه لقب "المراغي"، وأنا أعرف كثيرين أضافوا لأسمائهم لقب المراغي، يعني كان يجب أن أسمي نفسي مصطفى المراغي.   

novel
أصول سوهاجية

وأسأله عن أحدث رواياته "دفء المرايا" الصادرة عن دار المعارف بمصر، وكيف أنها تحيل الناقد مباشرة إلى "المرايا" - رواية نجيب محفوظ، ولو من ناحية التكنيك؟ فيقول: في حوار سابق لي، قلت إننا نتنفس نجيب محفوظ دون أن ندري، وبيني وبينك، رأيك سليم، فمرايا نجيب محفوظ تعكس رؤية شخصيات حقيقية كثيرة، وقد كتبت مقالة ذكرت فيها الأسماء الحقيقية لبعض شخصيات المرايا مثل: سيد قطب، والشيخ مصطفى عبدالرازق، وكامل كيلاني، وثروت أباظة، وغيرهم. وفي روايتي "دفء المرايا" أتحدث عن أحداث حقيقية حدثت في المجتمع الثقافي في الإسكندرية، يعني قريبة من مرايا نجيب محفوظ، وعلى فكرة، كثير من الكتاب تأثروا بمرايا نجيب محفوظ؛ فالراحل محمد الجمل له أكثر من رواية أتبع فيها طريقة نجيب محفوظ ذاتها، وبالمناسبة الذي أختار عنوان الرواية هو الصديق الأديب محمد السنباطي عندما قرأ مخطوطة الرواية قبل أن تطبع. 
 وأعود لسؤاله: هذه الرواية ذاتها تشي بأحداث وشخصيات لعبت أدوارًا مهمة بالسلب والإيجاب في حياة مصطفى نصر الخاصة، وفي الحياة العامة أيضًا.. أليس كذلك؟ فيجيب بأن الشرارة الأولى التي دفعتنه للبدء في كتابتها، أنه وقف على باب قاعة سيناقشون فيها مجموعة قصصية لكاتب سكندري يعمل في القاهرة، ويحيطونه بهالة من الاهتمام، فسأل المستشار فوزي عبدالقادر الميلادي، أستاذًا جامعيًا سيشترك في المناقشة: إيه رأيك في المجموعة؟
فكان رده هكذا: كلام فارغ!
لكن عندما جلس إلى المنصة أخذ يمتدح هذه المجموعة القصصية ويثني عليها! 
والأمر الآخر إننا في الإسكندرية قمنا بدور مهم عندما حجمنا الذين يتعاملون ثقافيًا مع إسرائيل؛ واتخذنا منهم موقفًا سلبيًا، وعاوننا في ذلك كثير من الكتاب الشرفاء في القاهرة، حتى أنهينا الموضوع تمامًا. لكن كما يقول نجيب محفوظ في رائعته "أولاد حارتنا" إن آفة حارتنا النسيان. 
وأسأل مصطفى نصر: بم تفسر ظهور كتاب بعنوان "آخر يهود الإسكندرية" بعد أن أصدرت لك الدار المصرية اللبنانية عملك الضخم "يهود الإسكندرية"، فيرد قائلًا: حصلت على منحة تفرغ  في المدة من 2002 – 2005. وكتبت في السنة الأولى روايتي "المساليب"، التي ظلمت؛ فقد جاءت طبعتها الأولى داخل مجلد من مجلدات أعمالي الكاملة، وأملي أن تطبع في كتاب مستقل، ولو حدث هذا ستحقق نجاحًا لم تحققه "يهود الإسكندرية" التي طبعت 8 طبعات.
أما سنوات التفرغ الثلاث التالية فكتبت فيها "يهود الإسكندرية"، يعني انتهيت منها في 2005، وظلت حبيسة درج مكتبي وأنا رافض نشرها، إلى أن أكتشفها الدكتور سمير المندي؛ فقد زارني في بيتي مع صديقنا المشترك طارق إمام، وتحمس لها، ولولا هذا ما طبعت للآن. فقد اتصل بي وحدثني بشأنها، ونشرت في يناير 2016.
 فلقد عانيت من التجاهل المقصود، حتى هجرت الرواية وقللت لنفسي: لقد حققت بعض النجاحات فيها، فلا يجب أن تضيع ما حققته، خاصة وأنني قدمت الجزء الأول من الرواية الذي يدور في فترة حكم الوالي سعيد مكتوبة على الكمبيوتر لأستاذ في آداب الإسكندرية، فإذا به يهاجمها في ندوة بقصر التذوق! وصدقته، فأنا عادة لا أثق فيما أكتب، وكان الشاعر الراحل أحمد مبارك - الذي قرأها مخطوطة يلومني كلما قابلني قائلا: فيه حد عنده روايات بالشكل ده، ومش عايز يطبعها؟! وكنا في سفر إلى القاهرة للتصويت في انتخابات اتحاد الكتاب، فقال لي: لقد سرقوا روايتك عن اليهود. فقلقت، وما إن عدت للبيت، وبحثت عن مسلسل "حارة اليهود"، حتى تأكدت من أنه بعيد عن موضوع روايتي فاطمأنيت. 

ويضيف قائلًا: "يهود الإسكندرية" ليست أفضل أعمالي، فرواية مثل "جبل ناعسة" فاقتها شهرة، لكن الفرق بين رواياتي مجتمعة و"يهود الإسكندرية" هو الناشر، فقد كنت أبحث عن نسخة واحدة من "جبل ناعسة" في مكتبات هيئة الكتاب التي نشرتها  في كل المحافظات فلا أجد، وفي هذا الصدد يتساءل مصطفى نصر: هل ستفكر هيئة الكتاب في أن تنشر طبعة ثانية وثالثة منها، بعد أن نفدت نسخها كلها؟!
إن "الدار المصرية اللبنانية" عرضت "يهود الإسكندرية"، في معارض الكتاب بالعواصم العربية كلها، وحققت أعلى أرقام المبيعات، لأنها دار تجيد فهم لعبة التوزيع، والترويج لما تصدر من كتب، فقد اتصلت بهم من الإسكندرية لأسألهم عن طريقة دفع ثمن نسخ أريد أن يسلموها للنقاد: فلان وفلان وفلان، فكانت إجابتهم: إن هذا هو عملنا، وقاموا بتسليم النسخ لمن طلبت، لذا كتب النقاد عن "يهود الإسكندرية" ما يزيد على ثلاثين مقالة.  
وأعود لسؤاله من جديد: وهل الكتابة الآن أصبحت ترتبط بتقليد "العلامة التجارية" الناجحة؟ فيقول: لو رجعت لعالم السينما فستجد هذا واضحًا، فما أن ينجح فيلم حتى ينتجوا أفلامًا كثيرة مستتنسخة من الاسم ذاته؛ فقد نجح فيلم "إمرأة في الطريق"، فأنتجوا أفلامًا كثيرة جدًا في هذا الطريق مثل: "نهاية طريق"، و"قاطع طريق"، وغيرها من الأفلام. 
ثم أقول له: بدون تجميل أو دبلوماسية، ما تقييمك لما تقرأه في مصر حاليًا من إبداع سردي يتصدر واجهات مكتبات المولات وأرففها؟ فيجيب: هذا يذكرني بحادث يعبر عن حقيقة ما يحدث، وما سيحدث في المستقبل، فقد ظهر إسماعيل ولي الدين في الوسط الأدبي، وناصره وحماه يحيي حقي لأنه شركسي مثله، وتخصص بعض كتاب السيناريو في تحويل رواياته إلى أفلام: "الباطنية"، و"الأقمر"، و"حمام الملاطيلي" الذي أخرجه صلاح أبوسيف، ثم اختفى "إسماعيل ولي الدين"، إلى أن اكتشف صحفي أنه مازال يعيش بيننا في مصر، ولكن بعيدًا عن الأضواء، فقد تغير المناخ، ولن تجد أعماله من يهتم بها، وهذا مصير الكثيرين غيره.
 وروائي آخر كان يقلد نجيب محفوظ، كتب روايات كثيرة جدًا، وتحولت بعض أعماله إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيون، وذهب بعيدًا، ونسيه الناس.
ولذلك فأنا موقن بأنه لن يبقى سوى الفن الجيد.
وأسأله: بعد "يهود الإسكندرية" لماذا لم يستمر تعاونك مع آل رشاد في الدار المصرية اللبنانية، أو في مكتبة الدار العربية للكتاب؟ فيقول: أذكر دائمًا حدث أنت شاركت فيه، فقد قلت لصديقنا المشترك – محمد عبدالله عيسى – هو حدث خلاف بين مصطفى نصر وجمال الغيطاني، ده ما بيجيلهوش سيرة خالص الآن. 

novel
لم أختلف يومًا مع جمال الغيطاني 

والحقيقة أني لم أختلف يومًا مع جمال الغيطاني فقد اختصر لي الطريق، ووفر عليَّ جهدًا كبيرًا، وأتمنى أن يفعل كل الأدباء هذا مع غيرهم، ولكن هذه هي طريقتي في التعامل، وكان الراحل صبري أبوعلم يقول لي: "أنت زي عمتي حميدة، الناس تروحلها، وهي ما تروحش لحد". 
أذكر هذا مضطرًا لكي أوضح حقيقتي، وفي الشركة التي كنت أعمل بها كان رئيس قسم يحبني ويقول أنا أبو مصطفى نصر الروحي، ووصل هذا إلى درجة رئيس القطاع المالي كله، فامتنعت عن زيارته، واضطررت لدخول مكتبه لأن فيه شيك مهم لا بد أن يخرج يومها، ولا يوجد في الإدارة غيري، فدخلت لمقابلته، فقال لي: أخيرًا مصطفى نصر جالي؟!
وما أقصده إنني لم أتقدم بروايتي للمصرية اللبنانية، وإنما في حديث تليفوني بيني وبين سيد محمود حسن – رئيس تحرير جريدة القاهرة وقتها، قال لي: ليه مش عايز تجيب لنا فصل أو فصلين من روايتك عن اليهود لننشرها في "القاهرة"؟!
فقلت مندهشًا: إيش عرفك أن عندي رواية عن اليهود؟
فقال إن دكتور سمير المندي من شدة إعجابه بها يتحدث عنها في كل مكان، فتحدثت تليفونيا مع دكتور سمير الذي أرسل لي فصلين من الرواية نشرت في الجريدة، فاتصلت المصرية اللبناينة برئيس التحرير معربة عن رغبتها في نشر الرواية. ونشرت بالفعل، ونفدت طبعتها الأولى، وحققت نجاحا عاليًا، ثم طبعوا لي كتاب "حكايات زواج العباقرة والمشاهير" أكثر من طبعة.
وأنا أتمنى لو طبعوا لي رواياتي "الجهيني"، و"جبل ناعسة"، و"الهماميل"، و"سينما الدورادو"، و"اسكندرية 67"، و"المساليب"، فلدي إحساس أنه لو حدث هذا ستطبع الرواية أكثر من طبعة كما حدث مع "يهود الإسكندرية"، و"حكايات زواج العباقرة والمشاهير". 
وأطلب من مصطفى نصر أن يصف لنا يومه وكيف يمضيه بمفرده في بيته بالإسكندرية فيوافق ويقول: بعد أن مات هيئم أحمد زكي، كتبت مقالة نشرت بجريدة "القاهرة"، قلت فيها إن مدرس اللغة العربية في فترة من فترات دراستي قال لنا إن ربنا خلق الناس كلهم في الأول كأرواح، وحدد مصيرهم؛ مؤمن أو كافر، وسعيد أو تعيس، وظل هذا الوصف موجودًا بعد أن حلت الأجساد في الأرواح، وهيثم هذا هو وأبوه وأمه من التعساء، وذكرت كثيرًا من التعساء، مثل: حسن عابدين، وجلال عامر، يشتهرون لفترة قصيرة ثم تطاردهم التعاسة، وقلت في آخر المقال إنني من التعساء، فقد ماتت أمي في طفولتي، وتعذبت طوال حياتي بسبب فقدها، ثم مات ابني الشاب عندما تجاوز الثامنة عشرة من عمره، وماتت زوجتي وهي أصغر مني سنًا، وكانت أصح مني، كانت هي التي تذهب للسوق لتشتري لنا الأشياء، والآن أعيش وحدي في الشقة نفسها التي كان يعيش فيها أكثر من عشرين فردًا. لا شغل لي سوى متابعة الكمبيوتر، والقراءة والكتابة.
فلولا هذه الأشياء ما استطعت تحمل حياتي.