مفارقات الانتخابات الاميركية

أسهمت هذه الانتخابات في التأسيس لولايات متحدة ربما ستكون مختلفة عما نعرفها او نتمناها.
أي شك في العملية الانتخابية سيكون اللجوء للقضاء الباب الاسهل
تمويل السباق الانتخابي الرئاسي سجل ارقاما قياسية في زمن الركود الاقتصادي غير المسبوق
الانقسام العمودي الحزبي بين الجمهوريين والديموقراطيين تخطى الخلاف حول البرامج الى بنية النظام الدستوري

ما جرى في يوم الثلاثاء الكبير من مظاهر على هامش السلوك الانتخابي للمجتمع الأميركي يسجل جملة سوابق يمكن ان تؤسس لواقع مختلف في النظام السياسي الاميركي، سياسيا واجتماعيا، وبالتالي يؤسس أيضا لجملة أسئلة تتعلق بالنظام الدستوري الأميركي ومدى فعالية استمراره، ومستويات القبول في انتقال السلطة سلميا، إضافة الى جملة تحديات متصلة بالثقافة السياسية الاجتماعية للمجتمع الأميركي بمختلف شرائحه العرقية وغيرها من التصنيفات الثقافية والحضارية.  

بداية انتخب حوالي المئة مليون ناخب الكترونيا أي ما نسبته ستون بالمئة من حجم التصويت المعتاد قبل اطلاق الانتخابات التقليدية، وهو ما يؤشر الى سلوك غير معتاد عززه الخوف من تداعيات نهار الانتخاب وما يمكن ان يتركه من تداعيات سلبية، علاوة على ان هذا لاقتراع أتاح امكانية التشكيك والتلاعب في تعداد الأصوات وبالتالي تأخيرنتيجة الاقتراع واعلان الفائز؛ وان لم تكن سابقة التأخير ظاهرة متكررة الا ان هذه المرة ستكشل نقطة تحوّل في الحياة الانتخابية الأميركية. وفي سياق متصل، وبناء على تلك الفرضية سيشكل اللجوء الى القضاء لحسم النتائج وسيلة أخرى سيتم اللجوء اليها في حالات مماثلة لاحقة، ما يعني ان أي شك في العملية الانتخابية سيكون اللجوء للقضاء الباب الاسهل للفصل في الموضوع، وهو سلوك لم يكن شائعا في الولايات المتحدة وان يكن قد حدث في محطات سابقة مثال حسم المحكمة العليا نتائج انتخابات الرئاسة في العام 2000 بين المرشح الديموقراطي آل غور والجمهوري جورج بوش الابن لمصلحة هذا الأخير وبفارق 538 صوتا.

وطالما ان القضاء من سيحسم النتائج، يعني ان تداول السلطة والاعتراف بالفوز او الخسارة لم يعد امرا بديهيا او معتادا عليه في السلوك الانتخابي الأميركي، ما يعني أيضا ان تحوّلا رئيسا بدأ في الظهور في السلوك الجمعي الاميركي مفاده التملص من مبدأ رئيسي تعمل عليه الفلسفة الاميركية وهو تداول السلطة بشكل سلس وسلمي في مختلف الظروف، الامر الذي سيؤدي الى بناء صور هي اقرب لصور النظم في دول العالم الثالث، وهي مظاهر الخلاف على نتائج الانتخابات، وهو أمر شائع وشبه مكرس في الحياة السياسية والدستورية لتلك النظم.

تلك المظاهر المتعلقة بقبول النتائج وعرقلة انتقال السلطة، سنرسم صورا أخرى للنزاع المجتمعي المتصل بأزمة نظام اكثر منه ازمة حكم، ما يعني ان الانقسام العمودي الحزبي بين الجمهوريين والديموقراطيين تخطى الخلاف حول البرامج والتقديمات الاجتماعية ومسائل الضرائب وغيرها، الى مستويات اعلى في الخلاف تتصل في بنية النظام الدستوري ووسائل وضوابط الحكم فيه، بخاصة بعد سلسلة الخروق التي حدثت في تركيبة التصويت في بعض الولايات التي تعتبر تاريخيا محسومة لحزب معين والتي تغيرت بشكل مفاجئ من الجمهوريين الى الديموقراطيين او بالعكس.

اما المفارقة الأخرى في هذه الانتخابات، فتكمن في حجم تمويل السباق الانتخابي الرئاسي، الذي سجل ارقاما قياسية غير مسبوقة في وقت تشهد فيه البلاد ركودا اقتصاديا غير مسبوق نتيجة تداعيات فيروس كورونا وأثره على الدورة الاقتصادية الاميركية، علاوة على القضايا الاجتماعية السلبية المتصلة بالبطالة والتأمين الاجتماعي وغيرها.

لقد تجمعت مظاهر ووقائع تعتبر سوابق مؤسسة في السلوك المجتمعي الاميركي لفترات زمنية قادمة، وستجعل من الفائز في أي انتخابات، كمن يحمل كومة من الجمر بين يديه، وسط انعدام الحلول السريعة، وعدم قدرة المؤسسات على استيعابها. 

ان التدقيق في المشهد الأميركي، يشي بصورة غير وردية كانت مطبوعة في عقول الكثيرين، وباتت اليوم نموذجا في الكثير من المظاهر والصور كدولة من دول العالم الثالث، التي وصلت الى حد التفلت الأمني الذي يتوقع ان يظهر بصور أكثر عنفية وأكثر توسعا بأبعاد مختلفة، وصلت الى توصيفها بحرب أهلية منتظرة.

باختصار أسهمت هذه الانتخابات في التأسيس لولايات متحدة ربما ستكون مختلفة عما نعرفها او نتمناها، وعلى الرغم من الصور التشاؤمية، تبقى ميزة التغير المتسارع والقدرة على التجديد، يمكن ان تخفف من مثالب وسيئات تداعيات هذه الانتخابات، وبالتالي امكانية الحد من التداعيات السلبية التي تبدو مؤثرة ومؤلمة في اقل التقديرات.