من كواليس الرقابة على المصنفات الفنية في مصر

كتاب "عزف على أوراق زمان" لطارق شرارة، أصدق ما فيه هو عنوانه، فالعزف إنما هو تنفيذ نوتة موسيقية مكتوبة بعناية.
المؤلف يسترجع ذكريات طفولته في حضن خالته الدكتورة سهير القلماوي
كتاب ممتع للقارئ العام وللمشتغلين بالعمل الثقافي أيضًا

كتاب "عزف على أوراق زمان"، لطارق شرارة، الصادر في القاهرة عن مؤسسة سنابل للكتاب، أصدق ما فيه هو عنوانه عزف على أوراق زمان؛ فالعزف إنما هو تنفيذ نوتة موسيقية مكتوبة بعناية.
وهذا بالضبط هو ما فعله مؤلف هذا الكتاب الذي انتقى بعناية أوراق الزمن التي يعشقها وهذا راجع إلى أنه يعشق الموسيقى بل ويؤلف موسيقى بعض الأفلام.
وهو يهدي كتابه إلى كل من ذكرهم على صفحاته، باعتبارهم أبطال أحداث حياته الزاخرة بالمواقف والبشر، كما يهديه إلى من لم يذكروا وكان لهم فضل في صدوره، ويقدم شكرًا خاصًا لهذه الأسماء: هشام يحيى، وسامح إبراهيم، وعادل عوض، والدكتور مؤمن جودة، ومحمد درويش، ثم يقدم للكتاب معرفًا بعائلته ومحطات حياته، فيقدم لنا والدته التي تعلمت في مدرسة الأميركان كوليج التي كانت تقع في شارع الملكة نازلي، الذي يحمل حاليًا اسم شارع رمسيس، ويشير إلى أنها كانت تتمتع بثقافة أدبية وموسيقية أيضًا بل إنها كانت تجيد العزف على البيانو. وبسرعة ينتقل إلى والده الذي كان باشا من الباشوات، وسليل عائلة من ملاك الأراضي الزراعية الذين تعرضوا للتأميم في عهد عبدالناصر، وإن كان في الوقت ذاته يقول إنه لم يكن مختلفًا مع رجال الثورة. 
وهو يشير إلى أن والده لم يكن إقطاعيًا وإنما جاءت ثروته من استصلاح الأراضي التي اشتراها في صحراء الشرقية، ويذكر أنه حين قامت ثورة يوليو 1952 حددت الملكية الزراعية بمائتي فدان، وبالتالي سحبت أرض والده التي أنفق عليها ثروة طائلة، ويضيف: ومع ذلك فنحن لا نحمل أية كراهية لذلك العهد لأننا نؤمن بفكرة المساواة.
ودعنا من أنه يؤمن بهذا أو لا يؤمن به، ولكن قارئ الكتاب سيتساءل: ولكن سياق ما يطرحه صاحب الكتاب يدل على أنه مولع برموز العهد الذي أنجبه؛ فهو دائمًا يتحدث عن الشخصيات بألقابها في العهد الملكي، فلان بك، وفلانة هانم، وفلان باشا. 

Biography
الكاتب مع المؤلف

 

كما يذكر أن الملك فاروق أنعم على والده بالباشاوية في عام 1948 نتيجة لخدماته المتميزة للفلاحين وللريف الذي كان يعيش فيه، وكانت له فيه مشاريع خيرية كثيرة. ويضيف إن فؤاد باشا سراج الدين عرض على والده أن يصبح وزيرًا، ولكنه اعتذر لارتباطه بالأرض الزراعية.
وما يهمنا أن المؤلف - بعد ذلك - يعرج على عبدالناصر ومشروعاته وأهمها بناء السد العالي، ورفض هذه الفكرة من الأميركان، مما ألجأه إلى تأميم الشركة العالمية لقناة السويس لتصبح شركة مساهمة مصرية، وما ترتب على ذلك من العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956. وبعد ذلك يقول طارق شرارة إنه من الذين كانوا يقدرون دور جمال عبدالناصر في خدمة المجتمع المصري. 
وعلى صفحات كتابه يسترجع المؤلف ذكريات طفولته في حضن خالته الدكتورة سهير القلماوي، ويوضح لنا كيف أنها كانت تهتم به وهو مقيم في بيتها وبعد أن انتقل إلى بيت أمه وألحق بالمدرسة، فكانت ترسل له خالته طرودًا على مدرسته تضم اللعب التي يحبها.
 كما يوضح أنه بعد أن التحق بمدرسة المعادي النموذجية، انتقلت أسرته إلى الجيزة، فأكمل دراسته بمدرسة الأورمان، وقد أشار إلى عدد من الشخصيات التي زاملها وأصبحت بعد ذلك من نجوم المجتمع المصري والدولي ومنها: إسماعيل سراج الدين، ونصر مرعي ابن سيد مرعي، ومحمد البرادعي الذي درس الحقوق ومنها ذهب للعلوم السياسية، وعلي إبراهيم ابن خال إسماعيل سراج الدين، وحمزة الشيمي.
ويوضخ أنه بعد تخرجه في كلية الحقوق بجامعة القاهرة كان يريد أن يلتحق بالعمل الدبلوماسي، ولكن والده طلب منه ألا يفعل ذلك لأن ثلاثة من أشقائه يعملون في الخارجية، ويمضون سنوات طويلة بعيدين عن مصر، فتقدم طارق شرارة لامتحان في الجامعة العربية كانت قد أعلنت عنه لتعيين ملحقين دبلوماسيين في مكاتبها في: نيويورك، وسان فرانسيسكو، ولندن. وعلى الرغم من أنه اجتاز هذه المسابقة بنجاح وأحرز ترتيبًا متقدمًا إلا أنهم قاموا بتعيين من جاءوا بعده بكثير في الترتيب، فاتجه لخوض امتحان العمل بوزارة الثقافة ونجح فيه، وكان ذلك في عهد الدكتور محمد عبدالقادر حاتم الذي كان وزيرًا لوزارات ثلاث هي: الإرشاد القومي، والثقافة، والسياحة.
فعمل في مكتب رئيس التليفزيون في زمن افتتاحه، ثم عمل في الرقابة على المصنفات الفنية بعد أن انتقلت تبعيتها من وزارة الداخلية، فأصبحت تابعة لوزارة الثقافة بفضل جهود الدكتور ثروت عكاشة، وفي تلك الفترة عايش عديدًا من الرقباء المهمين الذين رأسوا إدارة الرقابة على المصنفات الفنية، وكان منهم: اعتدال ممتاز، ومصطفى درويش.
وهو يشير في كتابه إلى أن من المهام التي تطلبتها وظيفته تلك أن يشاهد الأفلام قبل التصريح بعرضها، وكانت الأفلام الأجنبية تعرض بلغاتها الأصلية وعليه أن يشاهدها باهتمام بالغ، ومتابعة الحوار الدائر فيها على ألسنة الممثلين كي يوصي بما ينبغي أن يحذف منها حتى لا يخدش الحياء العام، أو يتعارض مع قرارات وقوائم المقاطعة التي كانت تصدر عن جامعة الدول العربية ضد المتعاملين مع إسرائيل في الغرب، والتي كانت تعمم على مختلف الدول العربية لتنفيذها.  

Biography
تمثال للمؤلف بصنع يده

ويقول طارق شرارة إن عمله كرقيب على المصنفات الفنية لم يكن يقتصر على مراقبة الأفلام الأجنبية المطلوب عرضها فقط، وإنما كان ينسحب أيضًا على مصاحبة ومرافقة تلك الأفلام التي كان يطلب منتجوها من الدولة تصويرها على أرض مصر، وهو يذكر أنه في الفترة التي تلت حرب يونيو/حزيران 1967 جاء طلب من منتج أجنبي لتصوير بعض مشاهد فيلم في الصحراء، وتمت الموافقة، وعهد إلى طارق شرارة بمرافقة طاقم التصوير، فإذا به يكتشف أنهم اختاروا التصوير في منطقة قريبة جدًا من مواقع عسكرية في منطقة الهايكستب، وتعجب من ذلك ولكنه سرعان ما لاحظ أن التمثيل يجري بينما المصور يغافله ويوجه الكاميرا صوب الموقع العسكري! 
كما لاحظ أن الطائرات المعادية كانت تغير على المكان الذي تم تصويره في اليوم التالي وتقوم بتدميره.
ولعل هذا الاستنتاج جعله يبلغ السلطات السيادية في مصر بذلك. وما أن شعر فريق التصوير الأجنبي بذلك حتى تسلل أفراده جميعًا هاربين قبل اعتقالهم، وتركوا الفندق ليلًا دون سداد فواتيرهم أو دفع أجور للممثلين والكومبارس.
وفي سياق آخر، يشير طارق شرارة إلى أنه بعد النكسة كانت هناك رغبة في التوسع في عرض الأفلام الأوروبية، بعد أن سادت الأفلام الأميركية. وكان من الأفلام المرشحة للعرض فيلم "رجل وامرأة" الذي كان حاصلًا على جائزة مهرجان كان السينمائي، وعندما شاهده طارق شرارة أوصى بعرضه كاملًا كما هو دون حذف، ولكن اعتدال ممتاز رئيسة الرقابة على المصنفات الفنية في ذلك الوقت رأت أن هناك بعض مشاهد العري ينبغي أن تحذف لأنها مخلة، فاعترض هو على ذلك وأوضح لها أن هذه المشاهد الجنسية في حال حذفها سيختل مضمون الفيلم، وبسبب قوة دفاعه عن وجهة نظره تم عرض الفيلم للجمهور دون حذف، ولقي نجاحًا كاسحًا.
كما يحدثنا أيضًا عن حكاية الرقابة مع فيلم "انفجار"، وكيف أنه أقنع مصطفى درويش رئيس الرقابة بعد ذلك بعرض الفيلم كاملًا وعدم حذف المشاهد التي تظهر فيها البطلة شبه عارية.
وفي كتابه يطلعنا طارق شرارة على الحيلة التي كانت تلجأ إليها الرقابة على المصنفات الفنية أحيانًا لتمرير بعض المشاهد، بأن تطلب من معامل أنيس عبيد التي كانت تطبع الترجمة العربية على النسخ الني تعرض في السينمات من الأفلام، عدم ترجمة بعض جمل الحوار، أو الألفاظ الجارحة أو الخادشة للحياء.
وكذلك يحدثنا المؤلف عن اللجنة التي رأسها نجيب محفوظ وكان المؤلف عضوًا بها، وكيف أن لحنة تنظيم العروض السينمائية كان الهدف منها عدم تكرار عرض فيلم هندي في أكثر من دار عرض سينمائية في مصر في الوقت ذاته، بعد أن كانت الأفلام الهندية تعرض في عديد من دور العرض السينمائية في مصر في أكثر الأوقات.
ويتوقف شرارة أمام موقف الرقابة من أفلام لنجيب محفوظ ذاته ومنها  "ثرثرة فوق النيل"، وكذلك فيلم "المذنبون"، وفيلم "من روسيا مع حبي".
ويعترف المؤلف بأن عمله في الرقابة على المصنفات الفنية أوصله في يوم من الأيام إلى اتهامه بالإلحاد ومثوله أمام المحقق لأخذ أقواله، إلا أن المحقق اكتشف أنها مسألة  كيدية.
ويذكر طارق شرارة أن وجوده في المجال الثقافي وفي إدارة معهد الكونسير فاتوار جعله يرتبط بصداقات مع عدد من نجوم الموسيقى والتلحين والغناء الأوبرالي والشرقي ومن بينهم: رمزي يس، وجمال سلامة، ومصطفى ناجي، وجورج ميشيل. 
وفي الختام نحن بصدد كتاب ممتع للقارئ العام وللمشتغلين بالعمل الثقافي أيضًا.