هل استحقت ثلاثية هيلاري مانتل أمجادها؟
في مقالة الأستاذ إبراهيم العريس الأخيرة عن ثلاثية هيلاري مانتل (إندبندنت عربية 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2024)، لفت انتباهي أمران.
الأول أنه اختار لها عنوان "المستشار"، علما أنه لم يرد في النسخة الإنكليزية والأصيلة للعمل، ولو أنه تناول حياة شخصيات عدة مستشارين في البلاط الإنكليزي. فقد حمل الجزء الأول اسم "قصر الذئاب"، والثاني "هاتوا الجماعة". أما الثالث فقد اختارت له مانتل عنوان "المرأة والضوء". وإذا لحق بالترجمة أي تصرف أو تحوير هذا لا يلغي العناوين الأصلية التي وضعتها مانتل بنفسها.
ولكن من عادة المترجمين العرب منح أنفسهم حرية استثنائية في التلاعب بالنصوص، ووصل ذلك إلى درجة الحذف والتلخيص، وليس الدوران من حول العنوان فقط.
وفي هذا المضمار أذكر رواية "حين فقدنا الرضا" لشتاينبك، فقد ظهرت في روايات الهلال بعنوان "شتاء الأحزان". وكذلك رواية "أشندين" لسومرست موم، ظهرت في نفس السلسلة بعنوان "كنت جاسوسا". وجدير بالذكر أن المرحوم سعدي يوسف بدل عنوان روايتين للأسترالي دافيد معلوف من "لعبة طفل" و"أوفيد في المنفى" إلى "الإرهابي" و"حياة متخيلة" على التسلسل. ولكن ما يشفع لسعدي يوسف أنه استشار الكاتب بهذا الشأن.
الموضوع الثاني هو قيمة الثلاثية نفسها. فقد أعطاها الأستاذ العريس خمس نجوم، وقال عنها بالحرف الواحد إنها عمل جبار، أعاد الاعتبار للرواية التاريخية، ولم يبق إلا أن يقول إنها أهم ثلاثية بعد "الحرب والسلام" لتولستوي.
وسبق لفلاديمير شاروف أن حصد مثل هذا الثناء عن عمله الضعيف الحائز على البوكر الروسية وهو "أثر على أثر". وكذلك حال شولوخوف الذي فاز عن روايته "الدون الهادئ" بنوبل، قبل أن يفتح النقاد ملفه ويقدمون أدلة لا يرقى إليها الشك على وجود كاتب شبح يختفي وراء اسمه، وربما هو فيودور كيريوكوف. ومهما كانت هوية الكاتب أرى أن طموح هذه الرواية يتجاوز نصها بعدة مراحل. وبعبارة أوضح هي، مثل ثلاثية مانتيل، تتلاعب بعاطفة القارئ غير النوعي لتؤثر بالقراء النوعيين. فقد عمد الاثنان، شولوخوف ومانتل، للتوقف عند رموز أساسية في مجتمعات صاعدة، النهر والسهول عند شولوخوف (مهد الإنسان الفطري والبسيط في الإيديولوجيا السوفييتية). والأسماء الكبيرة والمعروفة عند مانتل (وهي من بقايا التاج الذي احتل نصف العالم في وقت من الأوقات).
أولا لنتفق أن هيلاري مانتيل برزت بعد خفوت أصوات إنكليزية سابقة مثل وليام غولدنغ وغراهام غرين وسومرست موم، وشقت طريقها من الصفوف الخلفية في فترة رحيل ثم غياب هذه الأصوات. ولكنها احتفظت من غولدنغ بلغته وتركيب شخصياته ومن غرين بتصوراته الجريئة عن العالم الثالث. وأضافت لذلك صوتها النسائي، والذي يتصف بثلاث صفات ملحوظة.
التأمل الرواقي. وعبرت عن ذلك بهندسة المباني في أعمالها، وهي غالبا بيوت بنوافذ عديدة. وللبيت مكانة مرموقة في مجمل كتاباتها ابتداء من سيرتها الذاتية Give Up the Ghost ، ويمكن ترجمتها باسم "اقهري الشبح" أو ربما "اطردي الأشباح". أو في روايتها الهامة "تبدل في الطقس"، وموضوعها تفشي العنصرية كالوباء في جنوب إفريقيا. ويبدأ العملان بالخروج من البيت وينتهيان بانتكاسة مروعة تفرض على الشخصيات حالة حصار أو إقامة جبرية في البيت أيضا (عودة قهرية). بمعنى أن المكان الضيق وأحواله كان رمزا لكامل المشهد السياسي والاجتماعي الذي يمر به العالم الحديث.
الصفة الثانية تختص بالجندر. ومع أن نساءها مسترجلات هن عرضة لنوع خاص من الشقاء والعذاب مثل الحرمان من الإنجاب وتحويل عاطفة الأمومة إلى سلوك إيماني يجعل من كل امرأة أما للبشرية وكأنها ترشح النساء لتبني أفراد المجتمع. وبهذه الطريقة تتحول بطلاتها إلى ربات. وبذلك يتحدد طريق الخلاص لديها بالكنيسة وليس القانون. وهي تبدي شكوكها بعدالة النظام العنصري الذي يفصل حتى بين السجناء على أساس عرقي فيزج اللص الأسود مع ناشط سياسي ومثقف لأنه ملون، بينما يضع القاتل الأبيض مع أبيض آخر متهم بمخالفة مرور. وينسحب هذا الفصل العرقي على عمل آخر وهو "ثماني شهور في شارع غزة" الذي تدور أحداثه في مدينة جدة السعودية. وأجد فيه إشارة واضحة لصراع الحضارات. فهي تبني عدة جدران بين الهويات المختلفة ومنها نوع الطعام وآداب الحوار ثم المعتقدات الدينية. وبالنتيجة توجه انتقادات لاذعة للعقد الاجتماعي المشوه بين التخطيط – ثقافة الرأس المنتج، والإدارة – ثقافة اليد المنفذة. وأستطيع أن أقول إن هذه الرواية إعادة تدوير لفكرة وبناء "ممر إلى الهند" لفوستر. كلتاهما نبوءة بالقطيعة مع التابع. ولكن إذا اهتم فوستر بوصف الطبيعة البدائية وغير المشذبة للتضاريس والبشر ورسمها في فضاء مفتوح ومتسع فإن مانتيل تحرص على كشف زيف العلاقات بين الإنتاج والاستهلاك في متاهة من الأسواق والبيوت الضيقة. ولذلك يختم فوستر روايته بمحاكمة علنية يتخللها ثورة التابع. وتسدل مانتل الستارة على فك التحالف النفعي بين الطرفين بصمت وبأقل ضجة ممكنة مثل ترحيل شخص غير مرغوب فيه، أو إنهاء عقد عمل من طرف واحد وهكذا..
الصفة الثالثة والأخيرة اختيار محطات مؤلمة من سيرتها ومنها إصابتها بمرض في الرحم، والتشخيص السريري الخاطئ، والثمن الذي دفعته لاحقا وهو عدم القدرة على الإنجاب. أو التجربة غير الموفقة في بلدان زارتها مع زوجها. وهذا يعيد إلى الذهن أجاثا كريستي أو السيدة مالون. فقد كتبت عن عدة محطات زارتها في الشرق الأوسط برفقة زوجها عالم الآثار المشهور. ولا نعدم في حالة مانتيل وكريستي فلتات لسان تشير لأزمة وعي. وإذا كانت كريستي تنظر لمشكلة الشرق من الخارج وضمن شبكة ألغاز لا يتحكم بها أي منطق تتابع مانتيل ما يجري بمفهوم الحضارة الجريحة ومن فوق. فقد كانت تعطف على الشخصيات ولا تحاسبها. وهذا يعني بنظرها أنها شخصيات مخطئة وتحتاج للرعاية والإنقاذ، وبأسلوب أبوي. وكأنها تمهد لنوع رابع من الاستعمار أرى أن الثورة الصناعية الرابعة هي أحوج ما تكون له (والترويج لموجة ديمقراطية رابعة يرعاها حلف شمال الأطلسي موضوع مطروح على الطاولة).
وعلى ما يبدو أن تنازل مانتيل في الثلاثية عن هذه الخطة – أقصد صوتها النسائي والكتابة عن تجاربها الذاتية فرض عليها واجب الكتابة عن شخصيات عائمة. والأسوأ أنها اختزلت الحوار إلى صوت مونولوجي. وقد أغلقت هذه الدائرة بتوسيع مسرح الأحداث من غرفة وكوخ إلى قصر وقاعة عرش، دون أن يرافق ذلك أي زيادة في عدد الشخوص. وشخصيات تعد على رؤوس الأصابع لا تحتاج لكل تلك الممرات والسراديب والكنائس.
وهو خطأ تورط به أيضا سلمان رشدي في رواية "أطفال منتصف الليل" التي حازت على تقدير البوكر مرتين. فقد أراد أن يكتب عن كل الهند من وجهة نظر إفرادية. وهذه أزمة هوية قبل أن تكون مشكلة لها علاقة بالتاريخ. فرشدي ورط نفسه بأزمة لها علاقة بمكان الهند من العالم، بينما اهتمت مانتل بموقع موطنها من نفسه. وهي إشارة تدل على الانسحاب من مسرح الأحداث الدولية. وربما على اليأس من دور بلادها في تغيير العالم بعد انفصال أجزاء واسعة من الإمبراطورية.
وفي سياق الكلام عن الهوية.
هدف مانتل يتلخص بدعم الاستعمار الناعم بعد فشل الاستعمار التقليدي. فهي دائما موجودة في العالم الثالث لتقديم خبراتها الفنية والمأجورة. ودائما لديها عين ساحرة تنظر بها من خلف الباب المحرم – أو الباب الممنوع. وهذا مجرد إعادة ترسيم للحدود مع إعادة توزيع للأدوار. ووجودها في عالم كوزموبوليتاني لم يساعدها على تقريب البعيد. ولكن قدم لها طريقة لوعي مختلف بثقافة الآخر. وتستطيع أن تجد نفس المشكلة لدى ليلى سليماني في ثلاثيتها "بلد الآخرين". لكنها وضعت أمام طموحات المرأة الفرنسية كبرياء زوجها المغربي، وتمرد وثورية أخيه brother in law . وهو جانب غائب تماما عن ذهن مانتيل.
ولم تخالف مانتل في مجمل أعمالها رواد أدبيات الكومنولث، أو رابطة الأنغلوفونيين. فقد كانت سفرياتها ضمن نطاق الأطراف، سواء كانوا في صف العدو – كوبا وفيتنام، أو الصديق، جوهانسبيرغ والرياض. بمعنى أنها ابتعدت قدر الإمكان عن عنتريات الظاهرة التجارية، والتي وقفت على أبواب موسكو، رأس الأفعى بنظر المعسكر الغربي. ومن الأمثلة على ذلك ظاهرة العميل 007 المعروف باسم جيمس بوند وغيره. ولا أستطيع أن أفهم لماذا تغوي محاولات نابليون وبعدها هتلر لغزو روسيا تيار الأدب التجاري. ولكن إذا لجأنا للمنطق والبديهة هي تتكلم باسم العقل الباطن وبصوت مسموع، وتكشف عن الوجه الحقيقي لاقتصاد السوق. بعكس الأدب الإنساني الذي يبتعد ما أمكن عن البؤر الدموية لصدام الحضارات، ويبحث عن مخرج مشرف وفروسي لهذه المعضلة التاريخية.
وتضع مانتيل كل أطراف العالم الثالث في سلة واحدة. ويجري التمييز على أساس الجغرافيا الاجتماعية – أو العرق والدين وليس الجيوبوليتيكا كما يفترض من كاتبة مهتمة بالشأن الدولي. ولذلك يكون رصيد العرب والفلسطينيين لديها أضعف من رصيد الملونين – في إفريقيا وبقية المجتمعات المضيفة. ولا يوجد غير تفسير واحد لهذه الظاهرة وهي مشاعر الرحمة المسيحية التي تعبر عن نفسها بلغة التبشير والوعظ الكهنوتي (انظر روايتها "تبدل في الطقس"). حتى أنها في مذكراتها ثم روايتها "العربية" اليتيمة "ثماني شهور في شارع غزة" والتي تناولت فيها إشكالات الهجرة والعمالة الآسيوية في الخليج العربي، لم تهتم لا بالبيئة ولا بهندسة أماكن العبادة. وكأن العرب غير موجودين على أراضيهم. وكل ما كان يعنيها شدة الاغتراب لدرجة الانفصال الحضاري عن المكان.
وبناء ثلاثية مانتل لا يختلف بقليل أو كثير عن بناء أعمال ملحمية غير حكائية من قبيل "المواطن توم بن" لهوارد فاست، و"الغاب" لأبتون سنكلير. فالحكاية بأضعف مستوياتها، وتبقى الكلمة للخطاب. وهو عمليا خطاب ذاكرة لا تفسر الماضي ولكنها تنبش عن بقاياه. ولذلك جاءت ثلاثية مانتل مثل إعادة إحياء للتقاليد الإنكليزية في فن السرد من ديفو وحتى ديكنز بعد تعريته من قدراته على التخيل. وهو أسلوب مكرس لتمجيد الأب – الفني والاجتماعي. وبظني أن هذا هو ما حظي بتقدير جماعة البوكر. أقصد أن الجائزة ذهبت للشخصيات التاريخية ولبلاغتها وليس لهيلاري مانتيل ونصها.