هل يحتاج العالم علميًا للولي الفقيه.. الليبرالية العلمية (1)‎‎

العلماء الحقيقيون يهربون من فاشية بلادهم أو تخلفها نحو فضاءات أرحب. كم عالما سيهاجر نحو إيران؟

«أول مراحل العلاج لشعور مبهم، أن نخترع مفردة تعبر عنه»

علي عكور

......

أروج في هذا المقال لعنوان الفصل الأول من الجزء الثاني من كتابي والذي دشنت جزءه الأول بسلسلة مقالات نُشِرت على موقع  Middle East Online والمقالات والكتاب بعنوان: "هل يحتاج العالم علميًا للولي الفقيه". ولاحقًا توسعتُ بالمقالات جاعلًا منها فصولًا فأكملت الجزء الأول الذي لم يُنشر بعد.

عنوان الفصل الأول من الجزء الثاني هو: الليبرالية العلمية.

لن أقتبس أو استشهد بما ورد في الفصل، بل سيتخذ هذا المقال منحًا مستقلًا في تفكيك العنوان. هو ترويج تعريفي يُبين المعنى من وراء نحت هذا العنوان: الليبرالية العلمية.

الليبرالية:

تُعرف الليبرالية بأنها تُعنى بالفرد وأصالة الفرد وتدافع عن حريته وتفكيره الشخصي وملكيته الخاصة، ويرجع تأسيس الليبرالية بهذا المعنى الى الفيلسوف جون لوك.(1)

العِلم:

للعلم تعريفات عديدة ولكنني وبحكم انتخابي لطريقة تُناسب تحكّم وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي في الناس في عصرنا الراهن أرجع الى ويكيبيديا:

"العِلْـمُ، الجمع: العُلومْ.. باللاتينية: Scientia. أي «المعرفة»، هو أسلوب منهجي يقوم ببناء وتنظيم المعرفة في شكل تفسيرات وتوقعات قابلة للاختبار حول الكون. يرتكز مفهوم العلم على مصطلح المنهجية العلمية الذي بدوره يدرس البيانات ويضع فرضيات لتفسيرها ويقوم باختبارها وكل هذه العملية للوصول إلى معرفة قائمة على التجربة والتأكد من صحتها بدل التخمين".

مزج المفردتين: ليبرالية وعلم؛ أنتج عندي العنوان التالي: الليبرالية العلمية. فماذا أعني بهذا العنوان؟

لو نظرنا الى الطفرات العلمية المفصلية التي حدثت في القرون المتأخرة لوجدناها قد تحققت بمساهمات صدرت من افراد، فنيوتن وآينشتاين قدّموا للبشرية نظريات علمية فيزيائية لها الفضل في ظهور تطبيقات وتقنيات أرتقت بالبشرية وزودتها بإمكانيات من الإختراع والصناعة هائلة ومذهلة، وبهذا المثال المختصر والبسيط أقترب من إفهام القارئ معنى: الليبرالية العلمية.

لم تتح ألمانيا النازية لآينشتاين مجالًا ليُكمل نظريته النسبية، وبلجوئه لأميركا تمكن من اكمال نظريته لما توفر له من احتضان ودعم، وهذا بالضبط ما يُميز البيئة المناسبة لليبرالية العلمية عن بيئة غير مناسبة، فالتأريخ يجود بأفراد يُقدمون للبشرية نظريات واختراعات غير مسبوقة كمساهمة متكاملة، ولكن اولئك الأفراد يحتاجون الى بيئة مناسبة وداعمة لإكمال مساهماتهم، أي أنهم بحاجة الى حرية التفكير والعمل، وحقوق تملّك الفكرة المُنتجَة. ومثل هكذا بيئة هي الحاضنة للمواهب الطبيعية الفردية والحامية لحياتهم والراعية لتفردهم، وهذا الاحتضان والدعم يأتي من خلفية ومحيط ينعم بالليبرالية السياسية والاجتماعية، فالأفراد في هذا المجتمع كالرأسمالي في السوق الحرة يتمتع بحرية التحرك التجاري والمالي، والأفراد العلماء في هكذا مجتمع ودولة يتمتعون بحرية فردية لإعلان نظرياتهم والكشف عن عملهم العلمي وكأنهم شركات القطاع الخاص ومختبرات البحث العلمي غير الحكومية، وقد اضطرت الصين الشيوعية لترك قطاعات العمل والاقتصاد للسوق الحرة والتطور والإنتاج التكنولوجي مع أن حكومة الدولة يتزعمها الحزب الشيوعي، وبفضل الشكل الاقتصادي الذي عملت به الصين تقدمت تقنيًا وتجاريًا إذ غادرت الفكر والمنهج الماركسي البروليتاري الإقتصادي والصناعي.. السياسة والمجتمع المناهضان لليبرالية العلمية تهيمنان بسلطة مؤثرة تؤثر في الثقافة والعلم، حتى أن الأمر يتجاوز التأثير القانوني والعرفي والتنفيذي وتسلط العادات فيتسرب الى النفسية الإجتماعية ويقلب الوعي جاعلًا إياه يمشي على يديه ويقلب كذلك المفاهيم التي تؤسس لمسارات العلم والثقافة فيتشكل مجتمع ودولة تميل نفسيًا وذهنيًا الى اللاعلم وهذا الميول النفسي والذهني يُمثل خطورة بالغة على العلم والثقافة.

لنأخذ بمثال يتكرر في دول الليبرالية العلمية؛ الجوائز، واقرأ الآن منشورًا عن حصول ثلاثة علماء على جائزة نوبل للفيزياء: (فوز الفرنسي ألان أسبيه، والأميركي جون كلاوسر، والنمساوي أنتون زيلينغر بجائزة نوبل للفيزياء 2022) فهل من فعاليات كبيرة يُسخّر لها الإعلام والترويج عالميًا يُكرّم فيها علماء أفراد في دول مثل ايران. هذا مثال واضح لليبرالية العلمية. في ايران وشبيهاتها التكريم والترويج وتسليط الأضواء يُخصص لرجال الدين والقول الديني أكثر من المُخصص لعلماء الفيزياء والطب وسائر العلوم الضرورية، وهذا ما يولد ميولا نفسيا وذهنيا عاما يهتم ويدعم الفرد المقدس والعقل الجمعي على حساب الليبرالية العلمية. وهاك مثال؛ طرحت صفحة في الفيس بوك السؤال التالي: كم عدد الجزائريين الذي يعرفون فرناند بويون؟ وفرناند بويون هو مهندس الفقراء ونحات تحف معمارية في الجزائر، وتُقدِّم الصفحة للمقال المُستهَل بالسؤال: "فرناند بويون.. مهندس الفقراء ونحات تحف معمارية في الجزائر. كم عدد الجزائريين الذي يعرفون فرناند بويون (1912 – 1986) رغم انتشار روائعه المعمارية في كل مكان؟ الإجابة معروفة إذا ما علمنا أن اهتمام النخب أو العامة من الناس بفنون العمران والتاريخ الحضري محصور جدًا، لا سيما وأن أغلب المباني والحدائق في المدن الكبرى هي إرث كولونيالي، يعتبره السكان غنيمة حرب، فأي شيء مرتبط بالحقبة الاستعمارية هو منبوذ في وجدان المجتمع حتى وإن تعلق الأمر بمعالم حضارية منفردة، دون الانتباه لكونها جزءًا من ذاكرة البلاد وميراثها الثقافي."

بما أني ابتدأت الفصل الأول من الجزء الأول من كتابي بنظرية الاصطفاء الطبيعي ونظرية الاصطفاء الإلهي أنقل هنا المنشور التالي: "فاز العالِم السويدي سفانتو بابو Svante Pääbo المتخصص في علم الوراثة بجائزة نوبل في الطب لعام 2022، لمساهمته في تقدم علم التطور. لقد حقق سفانتو بابو مهمة بحثية شبه مستحيلة استمرت لمدة 30 سنة، لقد قام بوضع تسلسل جينوم لرجل نياندرتال Neanderthal، وذلك بفك وقراءة الشفرة الجينية لحمض نووي DNA مأخوذة من عظام اصبعه، وهو أحد انواع البشر المنقرضين منذ 30 الف سنة، وأحد أقارب الإنسان العاقل Homosapien، نوعنا".

الإنسان العاقل أكثر ذكاءً من إنسان نياندرتال، لكن إنسان نياندرتال كان يمتلك بنية جسم أقوى وأكبر من الإنسان العاقل، انظر الصورة لتمثال نياندرتال بناءً على الهيكل العظمي له.

بحث سفانتو بابو أكد أن الإنسان العاقل الحديث وإنسان النياندرتال اشتركوا مع سلف ثالث لهما كان يعيش على الأرض منذ 600 ألف سنة وانقرض/ منقول.

أعتقد أن الأمثلة الآنفة توضح المعنى من عنوان: الليبرالية العلمية.

العمل العلمي للإفراد العلماء ظل الدافع فائق القوة والتحفيز لتقدّم البشر والانتقال بهم الى حيوات حضارية ومدنية تنفرد كل واحدة منها بأشكال ومضامين مدهشة غير مسبوقة. فما بذله ويبذله العلماء كلٌ حسب تخصصه من مشقة البحث وخسارة سنوات قد تطول من العمر ومخاطر وظروف خاصة ما اختبرها الناس العاديون؛ نقلت العالم البشري نقلات علمية يقف العقل مندهشًا أمامها. ولولا العلماء الأفراد ودورهم في البحث والاختراع والتطوير لما بلغنا هذا الحد من التقدم العلمي والإرتقاء التقني، ولكن العلماء المتميزون الأفراد لكي يُنجزوا مساهماتهم الفذة يحتاجون لبيئة حاضنة، ولهذا انتقل أحمد حسن زويل الى الولايات المتحدة وكذلك فعل فاروق الباز وكلاهما حاز الجنسية الأميركية، وحصل السير مجدي يعقوب على الجنسية البريطانية، والأمثلة كثيرة على انتقال واستعانة العلماء الأفذاذ بالدول الحاضنة، فهل سمعنا بعالِم اميركي أو بريطاني أو ياباني أو من أي دولة متقدمة انتقل الى مصر أو الجزائر أو ايران أو الى أي دولة من اشباه الدول التي ذكرت منجذبًا لبيئة بحثية متقدمة؟ لماذا لم ينتقل الأميركي باري شاربلس أو الدنماركي مورتن ميلدال أو الأميركية كارولين برتوزي الى ايران أو ليبيا أو اليمن والعراق وافغانستان ودول أخرى شبيهة بالتي ذكرت للعمل على انجاز بحوثهم في الكيمياء النقرية والكيمياء الحيوية التعامدية، والثلاثة قد حازوا جائزة نوبل قسمة بينهم وقضى شاربلس أكثر من نصف قرن وهو يُنجز البحوث ويُدرّس في جامعات ومعاهد اميركية مرموقة.

الليبراليون السياسيون والاجتماعيون مهدّوا السبيل لليبرالية العلمية، وهو تمهيد ليس بقريب العهد، اضافة للصعوبات والمخاطر. اولئك الممهدون بذلوا الكثير ليهيئوا مجتمعاتهم ودولهم لإحتضان الليبرالية العلمية. يكفي أن نعلم بدور الليبراليين في لوتسيرن السويسرية الذين ساهموا في هذا المسار وحسنّوا الدستور في عام 1831، ومنهم إغناز تروكسل الذي "أطلق بنفسه حركة الإصلاح الليبرالية في لوتسيرن. فيما بعد، أصبح أستاذًا للفقه الدستوري، وبقي مرتبطًا بمشروع المحافظين حول حق النقض. يُمكن أن يُنظرَ إلى تروكسلر على أنه فيلسوف لديموقراطية مسيحية، وذلك ما جعله محاورًا لمعسكرات عقائدية مختلفة كانت موجودةً في حينه.

لكنَّ أكبر انجازاته حققها في عام 1848. لقد نصح بتبني النموذج الأميركي للبرلمان ذي الغرفتين، ودافع عن التوازن بين مبدأي الديموقراطية والفدرالية. هذا التوازن يُعتبر حتى اليوم من أهم أسباب نجاح تأسيس الكنفدرالية في عام 1848 وبناء صرحها الديمقراطي".(2)

ذلك التناغم بين الديمقراطيات الليبرالية الغربية وروادها الأفذاذ تشابك عبر القرون فأنتج الحاضنة العلمية العصرية.

إغناز تروكسلر وأمثاله هم بُناة العالم المتقدم وواضعي لبناته الأساسية التحتية الممهدون لليبرالية العلمية، ولو أن دحرجة العجلة بدأت على يد ولي فقيه بعد ثورة ولاية فقيه لما شهدنا سويسرا وبريطانيا وأميركا اليوم.. ماذا تقولون، هل لكلامي صحة ومصداق؟

اشارات

(1) "غالباً ما يُنسب لفيلسوف القرن السابع عشر جون لوك الفضل في تأسيس الليبرالية باعتبارها تقليداً فلسفياً مميزاً. جادل لوك بأن لكل إنسان الحق الطبيعي في الحياة والحرية والتملك"

ويكيبيديا.. ليبرالية

(2) مقال بعنوان: "لوتسيرن: العاصمة السويسرية التي فشلت من تلقاء نفسها"

SWI swissinfo.ch: هي الوحدة الدولية التابعة لهيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية (SBC)، التي تقدم تقارير مُستقلة ومُتباينة ومتوازنة عن سويسرا. من خلال مضمونها التحريري المُتاح بعشر لغات، تصل SWI swissinfo.ch إلى حوالي 75% من سكان العالم.