
يا صاحب المدد .. محاولة لإنصاف زكي عمر
في هذا الكتاب الذي يكتسب أهميته من أن مؤلفه الكاتب الصحفي خيري حسن أوقف سنوات عمره الأخيرة كي يكشف للمجتمع شخصية شاعر العامية الحقيقي صاحب هذه الكلمات التي لحنها وأداها الفنان محمد نوح وأخرجها عبدالغفار عودة في عمل مسرحي موسيقي إبان حرب أكتوبر 1973 والتي تقول:
مدد.. مدد.. مدد
شدي حيلك يا بلد
بكرة الوليد جاي من بعيد
راكب خيول فجره الجديد
يا بلدنا قومي أحضنيه
دا معاه بشاير ألف عيد
وفي هذا الكتاب الذي أعطاه خيري حسن هذا العنوان "يا صاحب المدد"، والذي تعقد دار النشر بتانه بالقاهرة أمسية لتدشينه مساء الخميس 3 ديسمبر/كانون الأول الجاري، تحية لكاتبه الذي أصرَّ على نشره على نفقته الخاصة تخليدًا لمبدع رحل دون أن يسعد بمثل هذه اللحظة في حياته، ويسعى مؤلفه لتتبع حياة الشاعر المغبون زكي عمر، منذ ولادته في أسرة فقيرة بائسة في إحدى القرى في دلتا مصر، ثم وفاة والده إثر وباء الكوليرا الشهير الذي كتبت عنه الشاعرة العراقية نازك الملائكة واحدة من أهم قصائدها التي يؤرخ بها لظهور حركة الشعر الجديد.
ويتتبع خيري مآل أسرة زكي عمر بعد فجيعة أمه في فقد زوجها الذي كان عاملًا زراعيًا باليومية، وكيف نمت موهبة الطفل زكي الذي كان يحول الحياة وتجلياتها من حوله إلى قصائد بديعة.
وفي هذا الكتاب، يصف لنا خيري حسن بمداد قلمه الإنساني بيت زكي عمر بعد رحيل والده: في ذلك اليوم الحزين، بكى الأولاد رحيل أبيهم، وبكت الزوجة رحيل زوجها، وسندها، بعدما تركها حزينة، وحيدة، فقيرة تواجه قسوة الأيام بمفردها. ومرت ليالي الحزن وأيام الغضب بطيئة، وجاءت أيام الشقاء سريعة، الأمر الذي فرض عليها ضرورة لملمة أحزانها من أجل تربية أطفالها.

وذات يوم وهي تفكر فيما هو قادم من حزن الأيام، وجدت نفسها تبكي حتى ابتلت المصطبة التي تجلس عليها. وكان زكي بجوارها يشاركها البكاء حتى أحمرت عيناه. ثم فجأة توقفت، بعدما وجدته يقول بعزم وتصميم: "لا تحزني يا أمي.. أنا راجل من صلب راجل، وسأذهب للعمل مكان أبي".
ويراوح المؤلف بين الأحداث التي مرت بها مصر في ذلك الوقت وبين اشتداد عود الشاعر زكي عمر وتشبعه بالهم العام.
ويمضي الكتاب إلى ما حدث في مصر لحظة إعلان ثورة 1952، ويتحدث عن سنوات حلم عبدالناصر ويشير إلى أسباب نكسة 1967، ويطلعنا على ما حدث لعبدالناصر خلالها نتيجة إهمال المشير عبدالحكيم عامر، وذلك من خلال مذكرات الدكتور ثروت عكاشة التي حملت عنوان "مذكراتي في السياسة والثقافة" وعلى صفحاتها تحدث عبدالناصر قائلًا: "بعدما وصلت إلى مقر القيادة العامة في صباح ذلك اليوم، وجدت أسوأ معاملة من عبدالحكيم عامر وشمس بدران؛ فمنذ وصولي لم أجد من يلقي لي بالًا أو يُعنى بالرد عليّ، فإذا ما تساءلت عن أمر من الأمور، حملق عبدالحكيم مأخوذًا دون إجابة. ومما أثار دهشتي أني رأيت المشير يتصل تليفونيًا بالعريش يحاول تحريك أحد الألوية. فتساءلت: أين قادة الفرق الخمس؟ أين قائد الجبهة؟ كيف يحرك المشير قوات خاضعة لقيادة الجبهة دون إذنها. وحاولت مناقشته، لكنه كان متوترًا للغاية فلم يرد عليّ، بينما كان شمس بدران واقفًا فاغرًا فاه كالمذهول.
لقد كان الشلل الفكري مسيطرًا على جهاز القيادة بأسره. وبعد قليل انبرى المشير يقول: لقد أسقطنا للعدو مائة طائرة.
فقلت: غير معقول!
فقال: الأميركان يحاربوننا.
قلت: غير معقول!
قال: لا بد أن تعلن عن اشتراك الأميركان في القتال.
قلت: أعطيني دليلًا.
وهنا ثار المشير ثورة عارمة! فتركته وعدت إلى بيتي".
ويترك المؤلف ما حدث لعبدالناصر ليعرض لنا ما كان في كفر الأعجر، حيث التفت القرية حول أجهزة الترانزستور. وارتفعت أصواتها في الشوارع والحواري. الكل في دهشة، وقلق، وتوجس، وحيرة، وهم يسمعون البيانات الأولى لإذاعة صوت العرب وهي تُعلن عن إسقاطنا عشرات من طائرات العدو، وأن صواريخ القاهر، والظافر، قد أوشكت على تدمير تل أبيب!
وكان زكي عمر وقد بلغ الثلاثين من عمره وعاش مثل غيره مع الفرحة ساعات وهو يشعر بالفخر، ولكنه سرعان ما أصيب بالإحباط، فأغلق الراديو، ودخل إلى حجرة أمه فوجدها تهز رأسها وتقول: "انهزمنا يا زكي"؟! فهز رأسه هو الآخر ولم يرد، وهو الذي عاش سنوات الحلم والأمل، والقوة والنصر والعزة والكرامة، ولكن في لمحة عين انكسر الحلم، وتوارى الأمل، وانحسر المد العربي القومي. وجاء الذل بعد الفخر، وخيم الحزن. وصمتت صواريخ القاهر والظافر على أبواب القاهرة، فلم تعد تتحرك أو تنطق أو تنطلق!
وفي 28 سبتمبر/أيلول من العام 1970 وقبل طلوع الفجر، رحل جمال عبدالناصر. وهو يقاوم الهزيمة بإعادة بناء القوات المسلحة.
وينقلنا مؤلف الكتاب إلى مدينة المنصورة في العام 1968 ليطرح سؤاله: لكن متى كُتبت كلمات "مدد.. مدد.. مدد" التي اشتهر بها زكي عمر قبل أن يغنيها الفنان محمد نوح؟
ويجيب: كُتبت بعد الهزيمة في منزل زميله الشاعر محمد يوسف، أو ظهرت حروفها الأولى وهو جالس معه! وعن ذلك اليوم يقول الدكتور مصطفي يوسف، شقيق الشاعر الراحل: "كلمات مدد.. مدد.. صاحبها الحقيقي هو الشاعر زكي عمر، وليس أي شاعر آخر نسبها لنفسه. ولقد كتبها في بيتنا القديم 6 حارة سلطان، من شارع سندوب، بمدينة المنصورة. وكان وقتها جالسًا مع أخي الشاعر محمد يوسف. وبيتنا يقع بجوار مولد الشيخ حسانين. يومها تفاءل أبي بهذه الصحبة. وقال ـ بعفوية شديدة ـ (والمولد عمران) مدد يا شيخ حسانين؛ فالتقطها زكي بحسه الإبداعي، وهتف وهو جالس بيننا "مدد.. مدد". ثم أكمل كتابة الكلمات التي خرجت من ذلك المكان في ذلك الزمان لتهتف بها الجماهير. وبعدها انطلقت في أجواء، وسماء محافظة الدقهلية وعلى المصاطب وفي المنادر والعزب والكفور والبنادر.. وانضمت بصدقها وثوريتها إلى أشعاره النضالية التي كانت تُغنى على مسرح المنصورة القومي.
ويصل بنا الكتاب إلى أول يوم لزكي عُمَر في المعتقل، وقد جلس هذا الشاعر مع نفسه يسترجع ذكريات طفولته، وأحلامه، وأمه، وزوجته، وبناته، ومسرح أوبرا المنصورة، والجماهير الحاشدة التي كانت تهتف خلفه. وظل كذلك حتى نام في زنزانته ليلته الأولى قبل ترحيله إلى سجن القناطر.
وعن تلك الفترة يقول محمد الهادي، من قيادات الصف الثاني بالحركة الطلابية: "سجن القلعة لم يكن سجنًا كباقي السجون، فهو مكان للتعذيب، ولانتزاع الاعترافات. ولقد تم ترحيلنا منه على دفعات إلى سجن القناطر. وكان معنا في عربة الترحيلات الشاعر زكي عمر، الذي لم أكن أعرفه حتى تم تسكيننا في سجن القناطر، الذي قضى معنا فيه خمسة أشهر قبل الإفراج عنه".
ثم يقول خيري حسن إن مدينة المنصورة في عام 1972عاشت هي وقراها أجواء حرب الاستنزاف منذ انطلاقها بكل عزم، وبطولة. وكان الأهالي في الشوارع وعلى أسطح البيوت وتحت ظلال الشجر في الحقول، يتابعون معارك الطيران في السماء لحظة بلحظة، لأن قاعدة المنصورة الجوية كانت هدفًا مستمرًا لهجمات العدو، وكانت هذه المتابعة تتم بالعين المجردة. ووسط هذه الأجواء تفاعل زكي عمر وبدأ يواصل كتابة أشعاره التي تدعو إلى المقاومة، والمواجهة، والتصدي، والصمود والكفاح. وتحركت معه فرقة مسرح المنصورة لتشارك في دعم المعركة. هذا التفاعل والتجاوب السريع جعل زكي يسهر الليل تحت أضواء المسرح ليدعو للمقاومة. وبالنهار يعود لقريته وسط الناس، دون أن ينام؛ إلا بين أحضان بيوتها، ولا يسمع إلا أصوت عصافيرها، ولا يرى إلا مزارعها وفلاحيها.

وعن هذه المرحلة قال لصحيفة المساء في 7 نوفمبرـ/تشرين الثاني 1973: "أنا زي السمك أموت لو خرجت من كفر الأعجر. لست طبعًا أقصد كفر الأعجر بمكانها الجغرافي، لكن أعني كفر الأعجر بمحيطها الإنساني.. الفلاحين.. والعمال.. وبالتحديد عمال التراحيل.. والذكريات معهم. لقد رفضت كل إغراءات الذهاب والبقاء في القاهرة. لأن المدينة ضدي.. وأنا ضد المدينة، فهي في اعتقادي تقتل في الإنسان إنسانيته".
ويستطرد مؤلف الكتاب موضحًا أن الأيام كانت تمر وزكي عمر يتحرك في كل الجهات وهو يهتف: "مدد.. مدد.. شدي حيلك يا بلد"، وتهتف خلفه الجماهير الحاشدة. وبجانب ذلك كان يلبي الدعوات التي توجه له للسفر إلى محافظات مصر، ولا سيما دعوة لقاء طلاب جامعة القاهرة، وكان معه الفنان محمد نوح ـ أحيانًا ـ يهتفان معًا: "مدد.. مدد" كما حدث في مدرجات كلية الآداب في تلك الفترة الملتهبة، التي نشطت فيها الحركة الطلابية بهدف شحن الجماهير، للضغط على القيادة السياسية، من أجل بدء القتال. وبسبب ذلك الضغط الجماهيري النخبوي، قررت القيادة السياسية إلقاء القبض على معظم زعماء ذلك الحراك الضاغط بهتافاته، ومؤتمراته، وندواته، وأشعاره. والزج بهم في المعتقلات. وكان في مقدمة هؤلاء زكي عمر الذي أُعتقل في أواخر عام 1972 وهو يهتف باسم البلد، والأمل، من أجل تحرير الأرض، والوطن.. حيث كان يدرك أن النصر يحتاج للجلد. وعما حدث له في المعتقل يقول الناشط السياسي كمال خليل: "في يوم 11 فبراير/شباط عام 1973 تم القبض علينا حوالي الساعة السابعة مساء مع أحمد محمد شرف الدين أثناء مظاهرة طلابية بميدان الجيزة ضمت ما يقرب من ستة آلاف طالب من طلاب جامعة القاهرة.
وتم ترحيلنا إلى سجن القناطر، ودخلنا إلى زنزانة مع ثلاثة طلاب آخرين. وأبلغنا الزملاء بموقف المظاهرة الطلابية، ليصعد أحد الزملاء على نافذة الزنزانة ويٌبلغ الجميع، فهاج السجن وماج وتعالت الهتافات.
كان السجن يضم أكثر من 70 طالبًا وشاعرًا ومثقفًا.. فتحول من في السجن من حالة إحباط ويأس إلى فرح وابتهاج. فقد كانوا يظنون أن الحركة ضعفٌت بالخارج وأن الموضوع تم فضه. لكن بعد وصولنا للسجن أدركوا أن الحركة مازالت بقوتها وأن هناك مظاهرة ضخمة يٌعد لها وستكون يوم 21 فبراير/شباط في يوم الطالب العالمي.
وفي الصباح صحونا، وعند الظهر جاء الزملاء لي بجردل بلاستيك وقالوا لي اذهب للحمام وخذ معك الماء الساخن.. فاليوم هو يوم (الاستحمام)، وفيه نذهب عشرة يليهم عشرة آخرين بالتبادل. ولفترة انتابتني حالة من التردد، ثم قلت لنفسي: أنت في سجن وليس في عزبة أبيك.. ودخلت وأخذت أصب الماء الساخن على جسدي. وكان أجمل يوم في حياتي. وسر جماله أنني اكتشفت بالصدفة أن المجاور لي في الحمام هو شاعر مصر العظيم زكي عمر.
فدار بيننا أجمل حديث.. وقال لي: "أسعدتنا يا كمال بهذه الأخبار الجميلة".
ويخرج بنا خيري حسن من المعتقل إلى المسرح في عام 1973 عندما انطلقت (مدد.. الأغنية ـ والمسرحية) في سماء القاهرة لمدة 4 شهور متتالية. وأصبح زكي عمر من النجوم الساطعة في سماء المسرح والشعر معًا حيث لُقب وقتها بشاعر نصر أكتوبر.