‎ياسر الصافي يحمل مفاتيح طفولته ويطلق سراحها

أفضل السبل لإمتلاك مفاتيح المنطق هو إرسال الروح من جديد في طفولتنا، وعودة الروح لأطفال أكلتها البراميل والبارود.
الفنان السوري يقرأ الغد قبل أن يأتي ويفهم العالم بوصفه حضوراً للواقع
أعمال الصافي تحمل كل أثر المرحلة

وأنت تمعن في أعمال الفنان التشكيلي ياسر الصافي (القامشلي 1976) لا تنسَ أن تضع على عاتقك مهمة تجريدها من تصنيفاتها نفسها، كما لا تنسَ أن تتحلى ولو بجزء من جرأة ومغامرة جاك دريدا، حينها فقط قد تستطيع أن تخطو نحو دواخلها وتعيش علاقة حميمية مع وميضها، وبالتالي قد تستطيع أن تقوم بقراءتها، فنص الصافي (أعماله) تحمل كل أثر المرحلة، ولهذا لا تستطيع أن تتجاهل مفرداته ولا درجة انعطافاته نحو مراكز الحركة لتمارس فعله بأرواح مختارة ومستمدة من عبث الحقيقة، يستعيدها الصافي أقصد الأرواح ويكشف النقاب مجدداً عنها ويرسل فيها شهيقه وزفيره ويعقب أعماقها. 

هي أرواح أطفال تم مصادرتها من قبل آلهة الأرض بأساليب لا تليق إلا بكوكبنا، بوحشية نائمة فينا منذ قرون، أرواح يأبى الصافي أن تموت، ولهذا يحمل مفاتيح طفولته ويطلق سراحها لتبدو أكثر تمايزاً في لعق الحياة ودحرجته، فالموت القابع فينا يلوث استيقاظ الطفل فينا، ليواجه هو كل الضلالات المتضاربة ويخضع الذاكرة لهجومه نحو الريح، ليواجه عنا جبننا وهزيمتنا، وبعبارات أخرى فإن الصافي يطلق نوافذ طفولته بل طفولتنا أيضاً وهي متبلورة بنا ليكون لها نفوذها بتفكيك الحاضر وتقويضه، فمفهومها المفتاحي تكمن في البحث عن إجراءات تتضمن كمّاً هائلاً من خطوات للنقلة نحو إزاحة جوهرية لدوائر الخراب فينا، فهو يعتقد أن أفضل السبل لإمتلاك مفاتيح المنطق هو إرسال الروح من جديد في طفولتنا، وعودة الروح لأطفال أكلتها البراميل والبارود، ولهذا يشتغل الصافي كثيراً على إستراتيجيات الخلق بطرق محبذة نحو فهم المرحلة أو سوء فهمها حتى، فهو يظهر من خلال نصه (أعماله) خصائص الوضع الحسي لأطفاله ووعيهم لعالمهم الخارجي للتوصل إلى إتقان التصويب نحو الهدف وقيامهم بالضرورة على العمل من الداخل خشية الوقوع في عدم اتخاذ المفهوم المطروح لتحقيق الحياة الفعلية، ثم يروي لنا الصافي مشاهده البصرية الطفولية المنفتحة على الممارسة السلوكية رغم التحولات المحورية ودلالاتها الكثيرة.
من اللحظة الأولى تعتقد أن كل تلك الأشلاء المبعثرة والخراب الكبير في جسد أطفاله وحصاد القتل الممتد في أرواحنا وأرواح أطفال الصافي، بل الممتد أيضا لطفولته. أقول من اللحظة الأولى تعتقد أنها خربشات طفل لم يستيقظ من الحرب بعد، وقد يكون الطفل هنا الصافي بروحه اللامتناهية والمرتبطة بطرف ما من الكرة الأرضية قد تكون نتيجته فنان يتكئ على التجاهل لما هو قائم من تبعيات وتعارض، بل يعمد على تعيين الوجود (وجوده) ووجود أطفاله بعد إستيقاظهم من (موتهم المبكر)، والإنخراط في وجودهم الجديدة بوصفهم حضور لا غياب، حضور يمثل كل تصورات الصافي ومفاهيمه حيث يحدد السياق الجديد بإستمرار نسج سلسلة من العلاقات التجاورية داخل تتابع زوايا البعد الإجرائي لعمله وفق ما يثير محور هذا العمل من ذاكرته بمعطياتها التعبيرية، وعليه يمكن أن يقود ذلك فناننا ياسر الصافي إلى الدعوة بإعادة صياغاته في حدودها الظاهرية منها والجوهرية، وهذا ما يلحق تغييراً حتمياً لركيزة تجربته بإعتبارها الأساس في تشكلها ونموها وإشتغاله عليها دون أي خضوع إلا للحساسية العالية لأسلوبه ودلالاته مع سبر التجربة الإنسانية المتهالكة عنده حتى نقي الروح.

وربما هذا ما يدفعه إلى البحث المستديم عن سبل تعبيرية غير متداولة، فالأمر يتعلق بإصراره على التمايز، وهذا ربما الذي يدفعه إلى جعل تابلو عمله مساحات يلعب فيها الصافي مع الطفل المستيقظ فيه، ويستدعي أطفال الحرب أو أشلائهم لتكتمل لعبته أقصد عمله، وإن كانت أشبه بدوامة فيها يتيه المتلقي كثيراً وقد يخرج منها بجعبة محيرة فيها يشرئب كل الإحتمالات والمزاعم، قد يمسك بزمام ما دون أن يدري ما هو، وهكذا يقلب الصافي الرؤية التقليدية للمتلقي، ويحرر طاقاته بقدر ما يحرر طاقات شخوصه الغريبة القريبة رغم إنكساراتهم وتشوهاتهم، وبذلك يبذل جهداً مضاعفاً لتنشيط محركات مجازاتهم التي قد تولد وهم في عملية بحث وشوق للدخول إلى عالمه المغلف بمفاهيم تصنيفية غامضة.
ويمكن لصافي - وبإلمامة تعبيرية مستحدثة - أن يضع شخوصه، بدمامتهم وعفويتهم، بضجرهم ووجعهم، بملامحهم الغامضة، وبأوصالهم المتقطعة، في طريق الكشف عن تقاطعاتهم، والكشف عن تورطهم في تحديد الجميل وخلقه. أقول يمكن لصافي أن يعيد التجربة مع شخوصه بوصفهم الجزء المفترض والأهم من مشروعه الفني حيث الهيمنة المعرفية تطغى على المشهدية البصرية بكثافة ما، أي أن الإحساس بالمعرفة هنا كعنصر مهيمن على النص (العمل) يعطي فضاءاته نغمات تولد للمتلقي خيالات تطمح للمزيد وتمنحه كل التحليل المفاهيمي القابل لدراسة مراتب العلاقات بين الموجودات وفهمها أولاً ثم الإختلاف لاحقاً، مع تجاوز دلالاتها على نفسها وبذهنية مرتبطة على نحو ما بالكثير من عناصر ذي أبعاد إيحائية والتي تعد بحد ذاتها إبداعاً تأويلياً والتي بدورها قد تكون إشارات لتنظيم تجربته أو كينونته.
ياسر الصافي يقرأ الغد قبل أن يأتي ويفهم العالم بوصفه حضوراً للواقع، ولهذا تتداخل رؤيته وتتشابك بل وتتكرر أيضاً، وقد لا تعني له هذا الغد إلا هوامش إفتتاحية لتدوين (خراب الدورة الدموية) للإنسان، وتدوين تشتيته في القتل، قتل البدايات وقتل النهايات، ولاشيء خارج الدمار، فقيامته قائمة ولهذا لا داعي بالتفكير بالمدينة الفاضلة، ولا بجنة الأرض، فالطوفان قد بدأ ولا نوح عنده ولا جودي، فلا إمتيازات ولا أولويات، فالمسخ الذي تنبأه فينا ها قد عاشه في سقوط كل التجليات، ويرغمنا أن نعترف بعجزنا ووحشيتنا، بل ويعرينا من إنسانيتنا، ككائنات لا نستحق الحياة بل نحمل وزرها.