أدونيس في الدنمارك: المأساة السورية ليست ببعيدة عن التداعي الأوروبي

محمد الحمامصي
لم أتوان في معارضتي لسلطات البلدان التي عشت فيها

يقام منذ أكثر من عشر سنوات المهرجان الثقافي الدنماركي \"اوا كرافت\" أو مهرجان \"قوة الكلمة\"

في مدينة أولبورغ الشمالية، إحدى المدن الدنماركية الكبرى.

وتعني \"اوا كرافت\" حرفيا \"قوة الكلمة\"، أو كما عربها الشاعر الكبير أدونيس بـ \"فعل الكلمة\" خلال مشاركته في المهرجان، حين حل ضيفا، حيث يعد الشاعر العربي الأول الذي يحتفى به المهرجان، كون المهرجان اعتاد أن يدعو الكتاب والشعراء الدنماركيين فقط، ولكن لم يستطع المسئولون عن المهرجان تجاوز وجود الشاعر ادونيس في الدنمارك خلال هذه الفترة، فسارعوا لاستغلال فرصة تواجده ودعوه لأمسية وحوار مفتوح معه. وقد لبى الشاعر الكبير الدعوة بالمشاركة رغم أنه لم يعتد أن يكون من شعراء المهرجانات، ولكن قبوله كان استثنائيا.

وأشاد المنظمون للمهرجان بهذه المشاركة وأفردوا قاعة إحدى السينمات الكبيرى بالمدينة للقائه مع الجمهور حيث احتشد لسماعه عرب ودنماركيون لأول مرة في هذه المدينة.

أدار اللقاء المخرجة والمترجمة انا ستيسغورد، والتي تناولت في إحدى أطروحاتها الجامعية شعر أدونيس، وبالتحديد كتاب \"أغاني مهيار الدمشقي\"، كما شاركت الشاعر سليم العبدلي الذي ترجم عدة أعمال لأدونيس من بينها \"أغاني مهيار\" إلى الدنماركية وإصداره في العام السابق عن إحدى دور النشر الدنماركية الكبرى، \"دار لينهارد وغينهوف\".

وقد خص الشاعر أدونيس ريع هذا الكتاب بمجمله لضحايا الحرب في سوريا، وشاركه في ذلك المترجمان ودار النشر ذاتها. بعد أن قدمته ستيسغورد إلى الجمهور الدنماركي والعربي وعرفت بأهميته الأدبية، ليس فقط في الوطن العربي بل في العالم كله لما يحتل من مكانة رفيعة تشهد بها العديد من الجامعات التي تدرس كتبه كجزء من مقرراتها الدراسية. وأعربت كذلك عن امتنانها للشاعر الذي لولاه لما تولعت هي ذاتها بالشعر، لأنها ـ كما أشارت في تقديمها للأمسية والندوة ـ بدأت تهتم بقراءة الشعر فقط بعد أن قرأت ادونيس.

استهلت المقابلة بحوار مفتوح تطرق للعديد من القضايا في مقدمتها الأوضاع في سوريا، وقد تولى الشاعر سليم العبدلي ترجمة الحوار الذي انطلق بسؤال:ـ نحن نعلم بأن الشاعر أدونيس انتفض على النظام السوري في أولى مراحل شبابه، وترك وطنه الأول سوريا في العشرينيات عمره، ليكون منفيا منذ ذلك الوقت، فكيف لنا ان نفهم، ونحن في حضرة مهرجان \"فعل الكلمة\"، أن تكون الكلمة رافضة؟ وكيف تسنى لك تسخير الكلمة في هذا المنحى؟

وقال أدونيس \"في البدء أود أن أؤكد على ما طرحته سابقا بأنه لا يمكن لأي كاتب أن يكون كاتبا حقيقيا ما لم يكن معارضا للسلطة.. أي سلطة، خاصة تلك السلطة التوتاليرية والدكتاتورية والدينية. وبذا يجب أن تكون كلمته معبرة عن هذا الرفض أو على الأقل النقد الحقيقي للنظام، وإلا لكان بوقا وليس كاتبا. والأمثلة عديدة في التاريخ، خاصة العربي القديم، حيث نرى أن معظم الكتاب العرب الكبار، والذين لا يزالون يعتبرون من الكتاب المهمين، كانوا مرفوضين من السلطة وفي بعض الأحيان من العموم، وذلك لأنهم أيضا كانوا سابقين لعصرهم، أو لزمانهم على الأقل.

أما عن تجربتي الشخصية، فإنني لم أتوان في معارضتي لسلطات البلدان التي عشت فيها، إن كانت عربية أو أجنبية، ولم أحسب حسابا لأية مصلحة ذاتية يمكن أن أنالها إن لم أنتفض بكلماتي، ولهذا تركت وطني الأول سوريا.

إن الكلمة تكون رافضة إن لم تهادن النظام وإن كانت أداة لتذكير النظام بأن هناك من يراقب مسيرته وله القدرة على الكشف، كشف المسير الذي تنتهجه السلطة بغض النظر عن ادعاءات السلطة الكاذبة أو المموهة عن مسيرتها. كذلك للكلمة فعلها إن كانت صادقة، تعبر عن رأي الشاعر الحقيقي، حينها فقط يستطيع القارئ أن يكتشف صدقها ويتبناها.

وردا على تساؤل: في خضم الوضع الراهن الذي تعيشه سوريا والشعب السوري والممتد منذ سنوات، كيف تنظر الى الواقع في بلدك الأول؟ أوضح أدونيس \"أن نذكر سوريا، علينا أن نذكر قول أحد كبار الأثريين الفرنسيين، والذي عمل بحوثا أثرية كثيرة في سوريا، حيث قال: إن لكل فرد في العالم، نعم في كل العالم، وطنين: وطن ينتمي إليه، أو وطنه، ووطن ثان هو سوريا. إن سوريا تتمع بخاصية لا مثيل لها في العالم، لما تلم من تاريخ للبشرية وتواصل لهذا الإرث فيها.

إنني وبكل أسى أرقب الأمر في سوريا منذ بدايته ولحد الآن. وتأكيدا لما جاء به الباحثون الأثريون، دعوني أخبركم بأن الوضع في سوريا كما أراه لا يمكن تجريده عن الوضع السياسي والاقتصادي والحضاري في أوربا وفي أميركا وفي العالم أجمعه. وإن حددنا الأمر في الغرب فقط، فإننا نجد أن التداعي الذي يمر به الغرب ومنذ فترة تناهز العقدين أو أكثر هو أحد الأسباب التي دعت إلى تأجج الموقف السوري. فهنا نرى أن الاتحاد الاوروبي يتعثر في مسيرته بشكل فاضح، وخروج المملكة المتحدة منه وصعود اليمين المتطرف وتلعثم الحكومات في حل الأزمات وتراجعها عن القيم الإنسانية التي نصت عليها لوائح الامم المتحدة، إضافة إلى ذلك مجئ ترامب للسلطة في أميركا، كلها أحداث لا يمكن عزلها عن المشهد السوري.

وأضاف أدونيس \"أما ما يجري في داخل سوريا، فإنني لا يمكن أن أضيف إلى ما قلته سابقا، بأن ما مرت وما تمر به سوريا اليوم لا يمكن أن يكون ثورة، كما يحلو للبعض تسميتها، وإنما إساءة إلى فكرة الثورة. لماذا؟ ببساطة، حيث لا يمكن لثورة أن تقوم على أكتاف مرتزقة ومأجورين، ففي سوريا اليوم جنسيات متعددة، من بلدان المنطقة ومن خارجها، تحارب النظام وتحارب بعضها البعض.

يا للهول، في أي بلد وفي أي مرحلة من التاريخ شهد العالم مثل هذا الوضع؟ كذلك، هل يمكن لثائر أن يدعو القوى الأجنبية للقيام بثورته؟ هذا ما يحدث في سوريا من تداعي، وهو مرتبط بالتداعي الذي يحدث في بلدان العالم المتقدمة، والذي بالنهاية يمكن له أن يؤدي بتقدمها الحضاري والثقافي والعلمي والاجتماعي إن لم يحدث تغييرا جذريا في المسار السياسي الذي انتهجته هذه الدول منذ بداية هذا القرن.

بعد ذلك قرأ الشاعر نماذج من قصائده من مجموعته \"الكتاب\" ومن \"أغاني مهيار الدمشقي\" ومن كتابه \"أول الجسد آخر البحر\"، وقد طغى على اللقاء الذي دام ساعة الانصات الذي لم يقطعه سوى التصفيق في آخر كل قصيدة قرأها الشاعر، حتى قبل أن تتم قراءتها باللغة الدنماركية.

يشار إلى أن تواجد الشاعر ادونيس في الدنمارك كان تلبية لدعوة من مسرح اودين، الذي يعد من أهم المسارح الدنماركية والذي يملك مدرسة خاصة به لتأهيل الممثلين والمخرجين وعاملي المسرح بشكل عام.

وقد أقام مسرح اودين حفلا تكريميا لأدونيس، قدم الممثلون فيه بعضا من قصائده المترجمة الى الدنماركية وصحبتها معزوفات وأغان مسرحية أعدت خصيصا لشرف زيارة الشاعر. واختتم الحفل الذي حضره جمهور ملأ قاعة المسرح قراءات شعرية بصوت الشاعر ادونيس بالعربية وقام بإلقائها الشاعر سليم العبدلي بالدنماركية. وقد دامت استضافة الشاعر لمدة خمسة أيام.