"جمر وماء" رواية الوجع والإشراقات

آمنة الرميلي التي تلبس ثوب المحامية كانت تستمع إلى شهادات شخصيات الرواية الأنثوية.
الحكاية ليست لشخصيات مجهولة أو أفكار راودت الراوية في العتمة أو استفهام حول الواقع بل هي حكايات نابضة بحرارة الوجدان
كل شخصيات الرواية عبرت عن الشعور بالتطير، عن الإحساس بالفجيعة عبر أشياء حصلت واقعا وحلما

"أخيرا، أنت هنا يا رواية الجمر والماء والحكايات الحارقة، أخيرا أنت هنا في طبعتك الثانية كما أحْلمني بها العظيم توفيق بكّار وهو يهنّئني بك ويقول: قرأتها وتابعتها بالحرف، لو اقترحتِها على دار الجنوب لنشرناها في (عيون المعاصرة)، وها أنت بعد هذه السنوات تلتحقين بهذه السلسلة المميّزة، (عيون المعاصرة)  دار الجنوب، بتقديم للدكتور محمد ایت ميهوب".
هکذا قدمت الروائية آمنة الرمیلي روایتها "جمر وماء" الصادرة مؤخرا في طبعة ثانیة.
إشراقات الحكاية
كيف تشرق النفس بالحكي وهي تسترجع حكايات الآخرين؟ إن سرد الحكاية لم يكن مجرد اجترار أو استرجاع آلي، إنه سبر لتفاصيل الحكاية ومحمولها الفكري والوجداني والتغلغل في حرارة الحكي.
فهل السارد مجرد ناقل؟ أم ناقد؟ أم رائي يرى بحدسه ما خفي في طیات الحكايات التي تروی؟
إن السرد ليس مجرد تحويل المتون إلى مبنى حكائي بل البحث عن إشراقات إبداعية تصهر تفاصيل الحكايات في جوهر واحد، والراوية الأنثى في رواية "جمر وماء" لآمنة الرمیلي التي تلبس ثوب المحامية كانت تستمع إلى شهادات شخصيات الرواية الأنثوية، لم تكن غير نفس توقدت فيها شعلة الإبداع وهي تحاول القبض على الحكاية قبل انغماسها في التخوم المظلمة، فالحكاية ليست لشخصيات مجهولة أو أفكار راودت الراوية في العتمة أو استفهام حول الواقع بل هي حكايات نابضة بحرارة الوجدان، باختلاجات النفوس: "التفاصيل، الدقائق، الرقائق، التوقف عن الكلام، التنهد، رحى الحديث، الرائحة. الحكاية اختمرت لعشر سنوات وسبعة أشهر وما يزيد".
إن شخصية الراوي لا تحمل عاطفة انفعالية، شخصية تتسم بالبرود والتأمل، واكتشاف الحياة في الكتب وعلى الورق حتى في المآتم تبقى "موزعة ما بين ذلك الفراغ تلك الهوة، ساهمة، متلبدة، غائبة. لا تغسلها دموع ولا تخفف عني آهات، إذ تكاشف نفسها "أنغرس بأفق قاتم تعربد فيه الريح ويرقص الصقيع على دقات طبول مجهولة  لا يرجع في داخلي إلا صدى أصفر ملحاح: الموت!
وتأخذ الحکایة شكلها الدرامي في فضاء يقترب فيه الإنسان من العجز، أو الموت، ويشعر فيه أنه ضعيف وأن للموت سطوته: "لم نلتق في تلك الليلة، في ذلك المكان العبق برائحة الأدوية والموت، هل كانت الحكاية تطلع من صدرها بذلك الشكل؟ بتلك الحرقة؟ لو التقينا في غير تلك الليلة، في غير ذلك المكان فإن الحكاية ستأخذ بالضرورة شكلا آخر".

عنوان الرواية يختزل قدرة إشراقات الإبداع على التوهج بشعلة النار والتطهر بالماء، فرمزية النار الإبداعية هي منح الطاقة، تعطي للثمار مذاقا، تلون الطبيعة وقد تتحول إلى محبة إذا تحولت إلى تجربة صوفية فتشع أكثر ولا تخمد

إن الإبداع تعبير عن حرائق النفس: "أنا المستنفدة لكل إمكانيات الحرائق في دمي، ومتى اشتعل دمي؟ أنا الخط المستقيم المحافظ على استقامته وعلى عدد نقاطه التي تكونه".
لذلك جاءت الرواية مكتوية بحرائق الشخصيات مصورة لمواقف درامية للتعبير عن الحزن وخاصة حزن الأم والبنت، فالجد شبيلة حين سمعت بمقتل ابنيها ورغم ما عرفت به من قوة ورباطة جأش فقد انكشف بعدها الإنساني: "ماذا أقول لك، لا أحد رأى ما رأيت، انفتح فم حنة وجحظت عيناها، وکأنها تتلقى ضربة سكين في معدتها، تخلخلت قامتها يمينا وشمالا ودارت حول نفسها دورتين أو أكثر، ثم لا أدري من أين جاءتها تلك القوة الهائلة، فاندفعت إلى حفرة وسط الدار مملوءة بالماء والطين، تتوسط حوض شجرة العنب، وبدأت تأخذ الطين وتمسح به رأسها ووجهها وصياحها يملأ الدنيا. ونزعت محرمتها ومرغت رأسها في الطين المتعفن المسود، وضربت بيديها على وجهها وركبتيها ومزقت شعرها وتناثر الماء والعفن من حولها. ووجدت نفسي أحبو إلى جانبها وأخذ الطين والعفن بين يدي وأضرب به وجهي وصدري".
أما الابنة آمال التي اختلفت مع أمها القتيلة وانفصلت عن منزل العائلة وعرفت علاقتها بوالدتها برودا وفتورا فقد جسدت من خلال مشهد حزنها تلك الحرقة التي تغمر طبقات الجليد فحمم بركان يذيب القلب "حضنتها، قبلت وجهها ويديها ورجليها، مسدت على شعرها، ناديتها، استغفرت، مرغت رأسي في حضنها، كان باردا بلا رائحة، وكانت عيناها مغمضتين بينما تنطبق شفتاها فيما يشبه الغضب أو العتاب.. كذا أذكرها، تزم شفتيها بهذه الطريقة حين تكون غاضبة أو معاتبة".
الرواية وإن توزعت بين حكايات لشخصيات أنثوية من تونس أو فرنسا تصور ما يفرق البشر وما يجمعهم، ما يفرقهم هذا التدخل في خصوصيات الآخرين ومحاولة ربط العلاقات الاجتماعية بمنظور قيمي، فكيف لرجل وسيم أن يتزوج بامراة ليست جميلة وليست من عرشه؟ وكيف لفتاة من عائلة تونسية في الخارج تقع في حب شاب أفريقي أسود وتبادله العشق؟ وكيف  يقبل فرنسي عنصري بوجود عائلات عربية تقاسمه خيرات بلاده؟ وكيف نقبل بالاخر المختلف دون شحنات عاطفية؟ لماذا تتكوم هذه الشخصيات على بعضها البعض في حالة الحزن، وتصبح جسدا واحدا وروحا واحدة؟ وهل تغفر المرجعيات التقليدية أي خروج عن نواميسها من ذلك خنق الجدة شبيلة حفيدتها آمال في مأتم ابنيها اللذين قتلا ببندقية صيد لعنصري فرنسي؟ 
إن الإقصاء هو الذي يوجه العلاقات الاجتماعیة، فالفرنسيون يرفضون العرب والعرب يرفضون الأفارقة، والجدة وصية على القيم ومن يتمرد عليها ويختار حريته يخنق حد سلب الصوت؟ إذن نحن في واقع إنساني يجهض الأصوات المختلفة، وقد يكون ذلك باقتراف جرائم قتل عند تحول الأفكار المقصية إلى أحقاد دفينة. 
إن الراویة لم تسرد الحكاية في حالة باردة متيبسة بل في حالة عاطفية أليمة وهي تدمج الحالات الوجدانية الانفعالية، في المخزن أو بيت الغول الذي يجمع إرث العائلة الثقافي والطبيعي وكل ما يربطها بوجودها ومعيشتها، في المخزن الذي أخرجت منه جثث القتيلين بعد المجيئ بهم من فرنسا "كم بكيت يومها وأنا أرصف الأواني بعضها فوق بعض وأدفع بالجرار والصناديق إلى سراديب المخزن ودواخله، وألم أکوام الغبار، وأفرز الصرر وأكوم الأكياس في ركن على حدة". 
وعناصر المخزن هي استعارة لداخل النفس التي تستبطن أدوات الحكي الملطخة بالغبار، استدماج الحكاية  لتعبر الساردة عن عاطفة اجتماعية، عن اندماج الخاص بالعام، والفجيعة هي التي تفتت الحجر وتؤلف بين القلوب، وما الحزن غير شرارة من شرارات الإبداع المتوقدة. "بكيت يومها وأصوات النواح تأتيني من وسط الدار الكبيرة".
ليس الحزن وحده ما يشرق بالحدس الإبداعي فقد عبرت كل شخصيات الرواية عن الشعور بالتطير، عن الإحساس بالفجيعة عبر أشياء حصلت واقعا وحلما، وهي بذلك تكشف عن حدس يسرد تفاصيل الواقع، "عندما دفعت الدينار إلى صاحب الدكان سقط من يده أرضا فثنى ركبتيه وجعل يتحسسه وهو يتسخط حينا ويستعيذ أخرى". 
فجأة داهمني الحلم الذي رأيته الليلة الماضية "رأيت الجدة شبيلة ترقص في الزنقة وشعرها محلول، حولها. يرقص جدي رحمه الله وكل أبنائه ما عدا خالي محمد وخالتي حبيبة عندما داهمني الحلم دارت بي الدنيا وتعثرت في حفرة المياه أمام دار علجية جارت". 
حتى البنت زهرة التي كانت تمج المعتقدات الشعبية وتراها مجرد أوهام قد عبرت عن تلك الحالة: "نحن في فرنسا لا نؤمن بالطيرة ولا بالفال، وأنا نفسي لا يعني لي هذا الأمر شيئا. ولكن ما حصل في ذلك اليوم وأنا ذاهبة إلى المعهد جعلني أبقى طيلة الحصص الصباحية.. شيء ما كان يقبض على صدري ويعيدني بعنف إلى وجه أمي وابتسامتها المعلقين بالنافذة". 

The Tunisian novel
شعلة الإبداع 

عائشة أیضا عاشت نفس الحالة: "یوم جاءني الخبر، كنت أقف في زقاق الدار الكبيرة، أقلب ما يعرضه غنام، أحد الباعة من أدباش على عربته. لم يعجبني ما فوق العربة فسألته أرني ما عندك، فجذب من أحد الصناديق فستانا من الصوف أسود اللون ونشره بين يدي. نظرت إلى اللون الأسود فانقبض قلبي. فأرجعت الثوب وأنا أقول: غيره؟
فمدني بقميص من المخمل أسود، فقلت في نفسي أعوذ بالله، وسألته: أليس عندك جوارب؟ ففتح صندوقا ثالثا وأخرج منه مجموعة من الجوارب السوداء، عندها تأكدت أن اليوم لن يمر على خير. فصحت في البائع: ما لكل سلعتك سواد في سواد؟ فأعاد الأشياء إلى أماكنها بغضب، ودفع العربة أمامه بعنف، وارتفع صوته من الزقاق: حوايج نساء، حوايج صغار، كيسان".
إشراقات إبداعیة
الاشراقات الابداعية إذن هي القدرة على التخيل وإعادة خلق الصور والمشاهد ورنين الأصوات واختلاجات النفوس في فضاء مأسوي، برائحته ودلالاته (المستشفى) هي تأمل في الجمر، أو شعلة تأمل سرقت في الأساطير القديمة من الآلهة فتعرض صاحب الفعلة إلى العقاب، هي التي تبقى عالقة متوهجة تحت الرماد حين يعتقد الإنسان أن شعلة الإبداع قد خمدت فيه ولكن يكفي أن يقلب رماد اللغة لتتوهج وإن بعد حين، لم تكن سهلة مرحلة الكتابة الإبداعية فهي مرحلة تخيل ما تلقته الذات والتأمل في المشاهد عبر تخيل الأطياف والأحلام والكوابيس.
تمثل مرحلة الانفصال في العلاقات بين شخصيات الرواية / عبر السفر/ عبر مغادرة المنزل العائلي/ عبر خمود موقد الجنس/ عبر الموت .. فالجمر بقدر ما يمنحنا الحرارة والدفء والشعلة لتمثل جذوة الإبداع والإشراق بقدر ما يلتهم الأشياء من حوله ويفحمها، النار وإن تلمسنا شرارتها الإبداعية فالنفس بحاجة إلى ما يلملم انكساراتها والحنجرة بحاجة لإعلاء الصوت والتحام الحبال المتقطعة. والإبداع هو أن نأمن آثار الحرائق أن نؤمن بجدوى الحيا، وما شخصيات الرواية إلا كائنات أنثوية مائية منها تخلق الكائنات ومنها تلتحم المخلوقات عبر الرضاعة ماء الحياة، وما آمال إلا كائن أنثوي حلمي لم يعش جسدها طقوس النار ورغبات الجنس وإنما انفصلت عن الأم التي تمثل التجربة الأنثوية والانتقال إلى حالة الانفصال حيث تخیلات العشق، والحلم، الصيرورة المتحولة بسرعة التي سرعان ما خمدت لتحسسها مدى خطورتها. 
"جمر وماء" عنوان يختزل قدرة إشراقات الإبداع على التوهج بشعلة النار والتطهر بالماء، فرمزية النار الإبداعية هي منح الطاقة، تعطي للثمار مذاقا، تلون الطبيعة وقد تتحول إلى محبة إذا تحولت إلى تجربة صوفية فتشع أكثر ولا تخمد. والماء عنصر الخلق الأساسي، يصبح أكثر بريقا مع انعكاس الشمس وارتفاع درجة الحرارة، تنعكس من خلاله الروح. يعبر عن الجانب الأنثوي في الطبيعة، ورحلة الماء رمزية بين السماء والأرض، كالروح التي تبعث في المادة ثم تعلو، يطهر كل الأدران والمشاعر السلبية.