في إنتظار فظ لتشييع الضياء

الإفراط في البحث والجري وراء الحقيقة يزرع الحزن في القلب ويشعل نار الجنون والضياع في العقل، مثلما أن التقصي عن أصل الخلق والوجود والذهاب أبعد من حدود المنطق والمعقول، يضع المتقصي في حالة سوفان عقلي، أو بوصف أدق مثل سيزيف! هكذا هو يبدو لي حالياً على الأقل، رفيق عمري الشاعر كوران مريواني، ولا سيما بعد أن وجدت نفسي، رغبة ورهبة، أسير آخر قصيدتين أرسلهما لي.
قصيدة "حب" التي صُرع فيها الحب، وقصيدة "ظلام" التي شيّعوا فيها الحياة، لم أجد هناك شاعراً بقدر ما وجدت مفكراً متعباً بجر معظم صلبان الدنيا وراءه. وهو، وما بين هذا "الحب" وذاك "الظلام"، حدد مساراً شوبنهاورياً صارماً للمستقبل المجهول المحفوف بالمخاطر الذي ينتظرنا جميعاً. ولئن كانت فرانسواز ساغان قد رحبت بالحزن، وأبقت "سيمون دو بوفوار" على شيء من الأمل في رائعتها "قليل من الشمس في وعاء ماء بارد"، بيد أن مريواني تجاوز وتخطى الحزن والأمل وصار كأصحاب الأعراف، ولكن ليس بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، وإنما بين الهزيع الأخير من الإيمان بقدرة الإنسان على تغيير ما سيحدث من كارثة مهولة، وبين فناء يراه متمثلاً بالعودة إلى الأصل الذي سبق الوجود، أي الظلام، وكأن مريواني يريد أن يقول: "في البدء كان الظلام!"
في قصيدة "حب"، لجأ مريواني إلى ربط جدلي محكم بين الإنسان وبين هذا "الحب"، ولا سيما عندما يقول:
طوال الليالي انتظرته حتى الصباح،
حين مجيئه كان يجلس في صمت،
وعند ذهابه كان يحني رأسه بخشوع،
وكأنه يشكرنا،
كما لو قال: "أنا موجود لأنكم موجودون".
أنا موجود لأنكم موجودون!

علاقة قوة ترابطها الجدلي تكمن في شفافيتها المتناهية، ومنذ الأزل كانت ولازالت هذه العلاقة بإطارها الشفاف سر الاستمرارية في الحياة وسرديتها الأصيلة.
في مطلع قصيدة "حب" يقول الشاعر:
لم يشبه أي شيء مما قد رأيت،
لا الماء، لا المطر، لا الثلج كبني كايسي*
ولم يشبه ما تجرعت لهم الحزن،
وانقضت حياتهم بسرعة.

والحب كما صوره مريواني في قصيدته هذه، لم يشبه أي شيء مما رآه، ولا مما شعر به. والحب هو شعور وإحساس، لكنه يعامله كموجود مرئي، نظير الماء والمطر والثلج، ويتدارك ليقر بأن الحب لم يشبه حتى أولئك الذين فقدهم على حين غرة، تجرع من أجلهم الحزن. وهنا الحب يغدو حالة أسمى وأروع من الطبيعة بكل جمالها وذكريات الإنسان بكل أحزانها وآلامها، وكأنه يريد أن يقول بأن بقاء الحب وديمومته هو الأهم من الطبيعة ومن الذكريات.
غير أن الشاعر سرعان ما يدلف بالحالة الوجدانية لـ "الحب" إلى حالة إطار موضوعي، عندما يسترسل:
كان هو بحد ذاته،
كان يجلب الحب معه عند المجيء،
وعندما كان يذهب كان يترك عطر رفاقته،
لم يشبه أي منا،
لم تكن يده محمرة بالدماء،
ولا لسانه بالخداع،
ولا بمال قد وضع السلاح على كتفه.

وهنا يبادر الشاعر للتعبير عن "الحب" في إطار فكري ـ فلسفي أو حتى قدسي، وكما يصور الفكر وحتى الدين في دثار نظيف ناصع البياض غير قابل للتدنيس، في نفس الوقت يلفت النظر إلى أن الخطر المترصد به مننا نحن البشر الذين لم يحافظوا على جدلية وشفافية العلاقة التي تربطهم بالحب وغيروها إلى علاقة تربطهم بالمادة والغرائز التي تنهش بكل ما هو جميل وبديع في قرارة أنفسهم، حتى وصل الأمر إلى:
جاءت وولت الأيام،
خلسة في يوم ما،
قتلناه هو الآخر.

تغلب النزعات والغرائز ذات الطابع والبعد الأناني والنرجسي للإنسان على العوائل ومن بعدها على المجتمعات، وتزامن ذلك مع الاحتباس الحراري والتصحر وتلاشي الغابات والانقراض الذي صار يحدث للكثير من الموجودات من نباتات وحيوانات وحتى جمادات، جعلت الحياة تفقد معناها أو بالأحرى قلبها النابض المتمثل بالحب. ولئن كان محمد إقبال قد أكد في قصيدة "حديث الروح":
إذا الإيمان ضاع فلا أمان،
ولا دنيا لمن لم يحيي دينه.
فإن مريواني يقول بنفس السياق بأن الحب إذا تلاشى وضاع فلا أمان للإنسان!

لكن هناك ثمة ملاحظة تفرض نفسها كثيراً في القصيدتين، وهي أنهما تفتقدان لذاتية وجدانية تطرب القارئ، بل إنهما تتسمان بواقعية طبيعية وكأننا أحياناً أمام المشاهد القاسية للروائي الفرنسي أميل زولا، فهو يميل لجلد الإنسانية والتأريخ والطبيعة من خلال تماهيه في جلده لذاته، والحق إن واحداً من الأمور التي يتجاهلها أو حتى يتهرب منها كما يتراءى له، هو صرفه النظر عن التطرق للتغزل بالأنثى، وبقناعتي فإن افتقاده لهذا الأمر يجعل شعره فظاً في شكله وحاداً في مضمونه.
ظلام، أم في البدء كان الظلام!
مخاض الفكر والتعبير لن يكون ذو قيمة واعتبار ما لم يكن يحظى بمصداقية يمكن لمسها، وهذه المصداقية لن تأتي عنوة وإنما تلقائياً من خلال مسار حياة الإنسان والمجتمع أو المجتمعات التي يتعايش فيها. حيث لم يكن يتسنى للكاتب الروماني "قسطنطين جيورجيو" أن يكتب رواية "الساعة الخامسة والعشرون" المثيرة للجدل لو لم يعايش فترة الاحتلال النازي لبلاده ومن بعده فترة سيطرة الجيش الأحمر السوفياتي على رومانيا. مثلما أن الروائي الخالد دوستويفسكي لم يكن بإمكانه كتابة رائعته "ذكريات من بيت موتى"، لو لم يمضِ تلك الأعوام المرة والصعبة في السجن في سيبيريا.
لأنني عاصرت الشاعر خلال أهم وأخطر مرحلة في حياته، خلال أواسط العقد السابع من الألفية الماضية، وشهدنا معاً أحداثاً وتطورات، أتفهم وأستوعب بعمق المعاني والمضامين والمرامي التي يريد تجسيدها والتعبير عنها فيما يكتبه من شعر، والأهم أن الشاعر بنفسه يعرف هذه الحقيقة ولذلك فإنه يسألني على الدوام عن رأيي فيما يكتب، والحق إن قصيدة "ظلام" أبهرتني أكثر من أي قصيدة أخرى كتبها، لأنني وجدت فيها تطوراً ملفتاً للنظر من حيث التداخل بين الأزمنة والإنسان والطبيعة. لكنه في النتيجة والخلاصة النهائية يقوم بحشر وحصر الجميع في بوتقة الفناء بعد العودة إلى البدء، أي الظلام!
لكن الملاحظة الأهم عندي تتعلق بالشكل الذي أضفاه الشاعر على قصيدته والذي رسم توازناً إنسيابياً بينه وبين المضمون. ولئن كانت هناك وحدة في المعنى العام للقصيدة، لكنه قام بتفتيت وبعثرة الوحدة وجعلها تتشظى في اتجاهات مختلفة لكنها أشبه ما تكون بأقطاب ولن تدور حول رحى واحد. علماً بأن الصور الشعرية التي رسمها ولا سيما للطبيعة كانت قاسية جداً، وحتى يكاد المرء ينظر إليها بأنها صور تتسم بشيء من السادية، نظير "فجروا الغيوم على الطيور" و"أدموا ظهر القمر بالسوط" و"والشمس وضعوها على رمح". والملاحظ أنه كان يجمع في صوره أيضاً بين الذات والموضوع (بين الإنسان والطبيعة):
لو صدر صوت،
كانوا يخنقونه بالصراخ والضجيج،
بالركلات كانوا يغيرون على البحيرات الزرقاء،
حتى تجف.
البداية التراجيدية لقصيدة "ظلام"، تعيد إلى الأذهان واقعة مقتل هابيل على يد شقيقه قابيل. لكن، ومثلما إن مريواني يرمز للإنسانية في قوله "في البدء قتلوني"، وهو بذلك يشير إلى أكثر من قابيل! لكن هناك فارق كبير بين حادثتي القتل. فالاولى كانت محددة في شخص واحد ولم تتجاوزها، لكن في الحالة الثانية تجاوزت الحدود فالحادثة هنا لم تشتمل على قتل الإنسانية فقط، بل حتى الطبيعة، ولم يسلم من ذلك حتى الفضاء الخارجي. والصورة هنا قيامة تحدث على يد الإنسان ذاته!
في البدء قتلوني،
ثم ذبحوا الأشجار،
وعلقوا الأنهار بأمواجها،
فجروا الغيوم على الطيور،
أدموا ظهر القمر بالسوط،
والشمس وضعوها على رمح،
وكانت تتماهى لحظة بعد لحظة،
حتى فنيت، وغابت عن العين.
لو صدر صوت،
كانوا يخنقونه بالصراخ والضجيج،
بالركلات كانوا يغيرون على البحيرات الزرقاء،
حتى تجف.

الكارثة ستحل بسلب الإنسان إنسانيته وليس فقدانها، ومريواني عندما يقول في "في البدء قتلوني"، فإنه يحذر من أن بداية العد التنازلي لقيامة البشرية تبدأ بسلبه إنسانيته. وعملية السلب هذه تقوم بها آلية الأنظمة والقوانين السائدة والمتحكمة في الحياة والتي تغوص في وحل صراع وتنافس مبني على أسس وظوابط معظمها لا تستند على القيم والأخلاق، إذ يبدو واضحاً "وفق رؤية مريواني" بأن الإنسان كقيمة اعتبارية محاصر من كل جانب، ومهما بذل من جهد فإنه محكوم بالفناء.
وعلى طريقة برتولد بريشت في مسرحه الملحمي، يعود مريواني من النهاية إلى البداية، إذ إنه وبعد أكثر من 4 عقود من مغادرته لکردستان العراق، يعود إليها ليقول بأن القصة بدأت منذ ذلك الحين، أي أن ما قد جرى ويجري سلباً في العالم، لم يكن طارئاً أو مستجداً، وإنما مخططاً له، وحاصل تحصيله لابد وأن يقود إلى الفناء. والحالة الغريبة والفريدة من حيث طرحها الفكري أن مريواني يضعنا أمام الفناء في البداية والنهاية على حد سواء، حينما يقول:
أولئك، قتلة،
أعداء الخضرة، الماء والضياء،
العاطفة والمحبة،
أعدائي أنا وأصدقائي،
الإنسان والطير والهواء والحضارة.
ولما أردوني وأصدقائي عن بكرة آبائنا،
بعد أن قضوا على البحيرات والغابات،
صارت الدنيا ظلاماً.

في الخط والمسار العام للفكر والأدب، فإن الإنسان يسعى دائماً وخلال معظم الملاحم والقصص والأحداث التي يرسمها أو حتى التي توارثها، لجعل مسك ختامها النصر للخير الذي هو دائماً وبالضرورة القهرية في صالح الإنسان، وحتى إن هذه النهايات قد اكتسبت على مر التأريخ بعداً مقدساً. لكن مريواني كما يبدو ينتفض بوجه هذه النهايات وينقض من خلال المقطع التراجيدي المفرط في قسوته على كل معاني ورموز الخير والمحبة والوجود ويعلن نهاية كل شيء وليس الإنسان فقط، فأي شوبنهاور هذا الشاعر!



*أعلى جبل في السويد.