فجر الرواية العربية: أشباح جابر عصفور

كاتب 'زمن الرواية' و'زمن القص' يربط النشأة الفعلية للرواية العربية بالمرجعيات الفرانكوفونية فقط، متجاهلا تأثيرات متعددة في تشكّل السرد العربي من التراث الإسلامي والرحلات إلى الأدب الأوروبي والاحتلال.

لم تكن الحدود لدينا واضحة بين المسرح والقصة، حتى أن الدراما كانت تسمى في معظم الحالات بالقصة التمثيلية أو الرواية الحوارية. وسوف يظهر النوع الأخير في النصف الثاني من العشرينات بجانب الرواية الحديثة، ولا سيما لدى أدباء المقاومة مثل فارس زرزور، مؤلف "42 راكبًا ونصف"، و"الأشقياء والسادة"، وسوى ذلك. وسيخصص زرزور كل إمكانياته كي يغني الحوار عن بقية عناصر المسرح والرواية بآنٍ واحد، وحتى الآن يعتبر صوتًا منفردًا فيما يسمى بالرواية الحوارية.

وأذكر كل هذا الكلام لأمهد لمشكلة في نظرية القصة وشعرية السرد عند الناقد الرائد والمعلم جابر عصفور. ففي كتابيه "زمن الرواية" (1999) و"زمن القص" (2019) يرى أن فجر الرواية العربية يدين للعقل الفرانكوفوني فقط. وقدم أدلة إثبات انطلاقًا من نموذجين هما: "غابة الحق" لفرانسيس المراش، و"زينب" لمحمد حسين هيكل. ولحسن الحظ، أنه لم يذكر المنفلوطي، أحد أهم رموز التمصير عن الأدب الفرنسي، من خلال نماذجه المعروفة، وهي: "الشاعر" المقتبسة عن "سيرانو دو برجراك"، و"الفضيلة" المقتبسة عن "بول وفرجيني". ومع أن مصادر المنفلوطي واضحة، فهو بعيد تمامًا عن الفرانكوفونية بمقدار ما هي "ألف ليلة وليلة" بعيدة عن الفارسية والسنسكريتية. لأن الناقل كان ذاكرة المجتمع وثقافته، وليس النص المكتوب. فلا المنفلوطي يعرف اللغة الفرنسية وبلاغتها، ولا المجتمع الإسلامي في الفترة الأولى من العصر الوسيط يعرف شيئًا عن المكتبتين الإيرانية والهندية. ناهيك أن مصادر المنفلوطي متورطة حتمًا بإرث استعماري إنكليزي جاء إلى وادي النيل ليمحو منه رواسب حملة نابليون. وتدين الحداثة أصلًا لهذا التناحر بين ثقافات المستعمرين. ولنذكر غادة السمان (وهي من الأمثلة الرائجة بتعبير الدكتور عصفور). فقد أغنت بداياتها بتيار الشعور النسوي، الذي توزع لديها بالتساوي على فرجينيا وولف (من ناحية البنية) وفرانسواز ساغان (من ناحية الهم والمعاناة). وذكورية وتغول وولف - والامتدادات الماكينزية لاتجاهها الفني، لم يحيده غير ذهنية الجسد الاستهلاكي والمتهالك على جني المكاسب السريعة، كما تفعل ساغان وزميلتها اللدودة كوليت. وقد سهّلت هوية بيروت الليبرالية - مكان إقامة غادة السمان - هذا التآزر بين الأضداد.

وينسحب هذا الكلام على الثنائي الطهطاوي والمراش. مع أنهما كاتبان مثقفان ويعرفان الشيء الكثير عن مدينة النور - باريس، كان نتاجهما يصدر من انطباعات ومشاهدات خاصة. بتعبير آخر: لم يكن هناك مرجعية فنية، وبالأخص المراش، فعلاقته بأدب الرحلات في "غابة الحق" لا تزيد، كما لاحظت "وين جين أويان"، أستاذة الأدب المقارن في جامعة لندن، على علاقة نجيب محفوظ بأدب الرحلة في روايته "رحلة ابن فطومة". وعلى الأرجح أن الاثنين متأثران بشكل غير مباشر بكتاب "المنقذ من الضلال" للإمام الغزالي، وهو أيضًا رحلة متخيلة تقودنا من العماء والظلام إلى ما يسميه الشيخ محمد الخضري "نور اليقين". واليقين هنا بمعنى الإثبات، وليس الإيمان فقط. ويكفي أنه استعمل هذا التعبير ليدل على سلسلة حوادث نضالية مثبتة كما وردت في المراجع الصحيحة.

ولا يوجد أي فرق بين سرد الغزالي وسرد المراش، إن شئتَ الحقيقة. وكلاهما يبدأ من ذاكرة ليلية - تخترقها تصورات وأحلام، ثم ينتقلان إلى خطاب فلسفي يتخلله التنقل بين عدة محطات، كل منها ترمز لمحطة نفسية من الوعي الفردي بالمطلق. وسيكرر محفوظ هذه البنية عدة مرات في أوقات متفاوتة - كما فعل في عمله الحواري "أمام العرش"، ويستلهم فيه بنية افتراضية وضعها ابن عباس لحادثة الإسراء والمعراج. وكذلك سيكرر المراش الكتابة عن انطباعاته عن طريق حلب - باريس في كتابه "رحلة باريس"، مستلهمًا هذه المرة رحلات ابن فضلان وابن بطوطة. وهذا لا يعني أنه كاتب عروبي أو حامل لقيم الذاكرة الإسلامية والعربية في السرد، وإنما كان يعرّب. بتعبير أوضح: هاجر بثقافته وضميره الثقافي من الحاضر لإيقاظ الخلايا المعرفية النائمة في الوعي المتأخر. وربما يعود الفضل بهذه اليقظة لحملة نابليون على مصر 1798، واستلام محمد علي للسلطة 1805، وحنينه لجذوره العرقية الألبانية. ولا تزال ذاكرة الأدب الألباني محتارة وقلقة، شأنها شأن كل الأمم الصغيرة، والتي تتطور على خط الحدود بين حضارتين. وأهم مثال على ذلك مؤلفات إسماعيل قدارة، فهو كاتب يصنع شخصيات غامضة بعدة رؤوس، كما في "مدينة الحجر" و"الرجل والمدفع" وغيرها.

أما مشكلة "زينب" لهيكل، فهي بكل تأكيد عمل تقدمي مهّد الطريق لكاريزما رواية تعترف بأهمية المكان، وتفهم أعماق الشخصيات وارتباطاتها بتاريخها الاجتماعي. لكنه لم يكن الأول ولا المؤسس كما قد نفهم من الدكتور عصفور، فقد سبقه جرجي زيدان بكتابة رواية تاريخية مكتملة الأركان، وناقدة لعيوب الماضي دون تقديس وتأليه. وأشير هنا لسلسلة روايات التاريخ الإسلامي المتهمة والمفترى عليها بالدس والماسونية وسوى ذلك من التهم المألوفة. ولكن كان زيدان واضحًا بانتمائه لحوض معرفي تحكمت به إشكالات بناء ثم انحدار الدولة العربية بثوبها الإسلامي، وروحانيات المشرق بشكل عام. وربما لهذا السبب اختار اسم "الهلال" لمؤسسته الثقافية التي أنشأها في القاهرة، وهو رمز شرقي وإسلامي حاربت به الثقافة العربية رمز الصليب في الحروب الصليبية، وغطت به على الحضارات الوثنية التي ترعرعت في مصر تحت رمز الأهرام ونهر النيل وغير ذلك.

وانحياز الدكتور عصفور لهيكل ضد زيدان يعود - برأيي - لسببين: أنه تتلمذ على يد الناقد عبد المحسن طه بدر، الذي ذكر أن الرواية الفنية بدأت مع "زينب"، ونقلنا عنه هذه المسلمة دون تفكير، كما يجري مع شركات اقتصادية مشهورة، وحاليًا نحن نقول عن كل المناديل الورقية "كلينكس"، مع أن هذا الاسم يعود لاسم المنتج الأول، وليس لحقيقة ألسنية أو لغوية. ويجدر التنويه أن عصفور أهدى كتابه "زمن القص" إلى "عبد المحسن بدر الذي علّمني قراءة الروايات"، كما ورد في مطلع كتابه ص5.

ثاني سبب: أن زيدان ضيف على الثقافة المصرية، وأصوله مسيحية وشامية، وعمل مع قوات الاحتلال الإنكليزي، والمحتل مكروه في جميع الحالات، وأعتقد أنه تضافرت كل تلك العوامل لتغليب رمزية محمد حسين هيكل على مكانة جرجي زيدان.

ولكن يشكك بتغليف جابر عصفور لفن الرواية بغلاف فرانكوفوني ما تركه أحمد شوقي وخليل مطران من أعمال عربا فيها مسرحيات شكسبير، تحت عنوان عريض هو "روايات تمثيلية". وحذف هذا النشاط من شهادة ميلاد الرواية يترك فراغًا كبيرًا، بالأخص إذا وضعنا بعين الاعتبار مكانة مطران وشوقي في عصر النهضة، ومكانة شكسبير في الثقافة الأنغلو-سكسونية. وقد لعب العقل الجرماني المهاجر دورًا مؤسسًا في تحرير ثقافتنا العربية من قيود الماضي الإقطاعي واقتصاده الاستغلالي الثقيل وبطيء الحركة، والذي يعتمد على نظام الرق والسخرة، وذلك لصالح اقتصاد فردي، وأحيانًا اقتصاد مانيفاكتورة يقوده رب الأسرة، ويشارك فيها الأم والأبناء. ومن أهم الأمثلة على ذلك الشائعة الفنية التي تعتقد أن "روبنسون كروزو" لدانييل ديفو هي ترجمة غير مباشرة لكتاب ابن طفيل عن "حي بن يقظان". ومهما كانت القرائن ضعيفة، لكنها تدل على حيز مهم للأدب الإنكليزي في ذاكرة فجر القصة العربية. وتغييب هذه الحقيقة يلغي نصف الواقع الثقافي، الذي تقاسمته فعليًا مؤثرات إنكليزية وفرنسية. غير أن الفرنسيين - على ما يبدو - أتقنوا الترويج لخطهم المعرفي، ونجحوا في صناعة أساطير ستترك بصمتها على العقل العربي الحديث، مثل هيغو وروسو. حتى أن كليهما اخترق القوميين العرب بعدة أماكن، وأجرؤ على القول إنهما كانا شركاء في صياغة مبدئية ومؤثرة لما يسمى بـ"الاشتراكية العربية". وورث عنهما هذا التأثير فرانسوا ليوتار، ودريدا، وفوكو، وبارت. وساهم بتوسيع نفوذهم مرجعيات يسارية نشطت في الثمانينات والتسعينات مثل عبد الرحمن منيف، وسعد الله ونوس، وعبد الكبير الخطيبي، قبل أن تتنحى وتفسح الطريق لتفكير روحي يعيد للميتافيزيقا دورها في تعبئة الشارع. وتفرع منها الاهتمام بروايات "البوكر" البريطانية، التي شملت نماذج تحررية من الهند وجنوب إفريقيا ومصر وفلسطين.