أكتب الشعر وأنا نائم

درجة الحس في الإنسان هي ذاتها درجة الحس في الحيوان، وميزة الإنسان في أنه يعلم أنه يعلم، وبه يفوق الحيوان.
هل يمكن قول الشعر دون أن يكون هناك انفعال متصل بالقوى الخارجة / الطبيعة؟
إنّي وكل شاعر من البشر **  شيطانه أنثى وشيطاني ذكر

انشغل المفكرون قديما وحديثا بالبحث عن مصدر الشعر، وهل هو مصدر خارجي أم داخلي، وكيف تتم عملية الإدراك. وصاحب ذلك مراجعات لمفاهيم الخيال والعقل والصورة. وكان من بين الأسئلة المهمة: هل يمكن أن يفارق الشاعر الوعي وهو يكتب الشعر؟  وأحسبني أقول وقد جعلت من عنوان مقالتي إشارة إلى ادعاء بعض الشعراء أنهم يقولون الشعر نياما: أليس النوم نوعا من مفارقة الوعي؟ 
دفع التساؤل حول وعي الشعراء إثارة موضوع العلاقة بين الشعر والسحر. وأرجع بعض الباحثين هذه العلاقة إلى ثقافة الإنسان البدائي الذي كان يرى في السحر نوعا من العلم والمعرفة، يفسر به الكون كله. وقد انشغل هذا الإنسان بالجانب المادي / الطبيعة، ولكنه في مواجهة الطبيعة عجز عن تفسير بعض الظواهر، فردّ كل ما هو مادي إلى جانب خفي، ورأى أن هذا الجانب الخفي / الأرواح تمثل عالما على غرار عالمه المادي، فقسمها إلى أرواح خيرة تعينه، وأرواح شريرة. وجعل من استدعاء الأولى استدعاء للخير، ومن استدعاء الثانية استدعاء للشر، وعلى هذا ظهر ما يسمى بالسحر الأبيض/ الحلال في مقابل السحر الأسود / الحرام، وكان الفن أداته السحرية التي يستطيع من خلالها إخضاع الطبيعة، وهو في إخضاعه للطبيعة يستعين بالمحاكاة والتقليد وبقوة الصورة واللغة والحركات الإيقاعية الجماعية وما شاكل ذلك.
والناظر المدقق في تراثنا الشعري سيرى ذلك بوضوح في حديث الشعراء عن السحر وعن قرناء الجن وشياطين الشعراء الذكور منهم والإناث، وإعانة هؤلاء على قول الشعر، وقد لخصه قول أحدهم: 
إنّي وكل شاعر من البشر **  شيطانه أنثى وشيطاني ذكر

المنظوم في النوم لا يبقى، وتفسير ذلك أن القوى العاقلة التي تحوله إلى شعر غير موجودة. وكلما وقف القارئ على شيء من مثل هذه الأقوال المثيرة يجد نفسه يردد أنتم الناس أيها الشعراء

وكان طريفا جدا ومثيرا أيضا أن أقرأ ادعاء بعض الشعراء أنهم يقولون شعرا نائمين. إذ كيف نرد مصدر هذا الشعر، وقد قرأت شيئا من هذا في إحدى رسائل الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي يقول: "وكثيرا ما أنظم في حلمي شعرا، وأنساه في يقظتي، وقد أحل في نومي مشكلا لم أحله في يقظتي، وفوق هذا فإن العقل الباطن هو الذي يعينني على نظم الشعر في يقظتي فكأنه قريني من الجن يمليّ عليّ فأكتب". 
هل يمكن قول الشعر دون أن يكون هناك انفعال متصل بالقوى الخارجة / الطبيعة؟ ويكون قرين الجن هو الذي أعان على هذا القول، وإلا ما معنى أن ينظم الشاعر شعره في المنام؟ وأين يتكون الشعور في غياب الإدراك الحسي؟ 
إن البحث عن تفسير هذه الظاهرة يقتضي الإشارة إلى الرؤية المادية للشاعر الفيلسوف جميل الزهاوي. فقد ارتباط الزهاوي بواقعه الاجتماعي المادي، ووسيلة الارتباط الحواس؛ أي إنه نوع من الإدراك العقلي الحسي، وهو بخلاف التفكير العقلي. وفي ضوء هذا الإدراك الحسي يتكون الشعور، فهو لا يبعد بصاحبه عن الواقع المحسوس، ويسعى إلى الحقيقة على جناح من العقل إذا عضد بالمحسوسات. 
وإذا كان الإحساس وهو أدنى درجات العقل يتبعه ذكر وحكم واستنتاج وإرادة أو ما يسمى بالقوى العاقلة، فإن هذه القوى العاقلة ذاتها يشترك فيها الإنسان والحيوان؛ أي كلاهما صاحب منطق، والفرق بينهما يكمن في العقل. 
وكلما كان الحس مصيبا كانت الإرادة نافعة؛ لذلك أعلى الزهاوي من شأن الحواس يتقدمها البصر فالسمع، وفي ضوء ذلك قال في رسالته إن "الموجودات الخارجية تفعل بالحواس، وتنقل الحواس أفعالها إلى خلايا الحس في الدماغ بواسطة أعصاب نقالة لها، وهي لا تفعل بخلايا الحس رأسا بل تهز بواسطة أعصابها خلايا في الدماغ عملها التصوير فتنفعل هذه وتصور الصور، وينتقل انفعالها إلى خلايا الحس فتحس بها".
وهو رأي طريف يرى فيه أن العقل ينفعل بالنور الذي يأتي من المرئي الخارجي، وقد ينقطع هذا المرئي بالإغماض مثلا لكن تظل الصورة حاضرة، وفي ذلك دليل عنده على أن صور المرئيات ذهنية قاطبة، لكنه يشير إلى مصدر آخر للنور، ليس له علاقة بالمرئي الخارجي لكن مصدره مجلس البصر من الدماغ أو العصب البصري المتفرع منه فهو السبب لتصور الأشياء ولما يشاهده الحالم من الألوان والأشكال. 
ويتسلط العقل أيضا على هذا النمط من الصور، لكن عمل الإرادة هنا ضعيف، وقوة الصورة تظهر بقوة الإرادة، والصور التي يراها الحالم هي هذه الصور التي يلونها النور المنبعث من الدماغ غير أن خلايا العلم المركب غير متيقظة فلا تعلم أنه حالم، وهي صور منتزعة من صور كلية محفوظة عند خلايا الذكر؛ لذلك لا يراها الأكمه. 
وهو ما يعني أن درجة الحس هنا هي ذاتها درجة الحس في الحيوان، وميزة الإنسان في أنه يعلم أنه يعلم، وبه يفوق الحيوان، وهو لا يتحقق مع تعطل عمل القوى العاقلة، وعليه فكل هذا النظم في المنام، وإن حفظ، لا يترقى به الإنسان إلى مرتبة أعلى من الحيوان. ويتضح من النص أن المنظوم في النوم لا يبقى، وتفسير ذلك أن القوى العاقلة التي تحوله إلى شعر غير موجودة. وكلما وقف القارئ على شيء من مثل هذه الأقوال المثيرة يجد نفسه يردد أنتم الناس أيها الشعراء.