الشعر بالعلماء يجدي في 'قرية سورها الخوف'

الخبير بالشعر هو الذي يرتب جماليا ديوان الدكتور الشاعر محمود عبدالحفيظ ليبدأ بالحاضر ويختتم بالمستقبل الحلم، وما بينهما تعيد الذات اكتشاف نفسها تتوزع فيها الخيوط والألوان في جزئيات وقصائد وهو ما يعني أن الذات تتكشف أمام نفسها.

أدرك ابن قتيبة بحسه اللغوي النقي أن الأشعار التي وردت على ألسنة بعض العلماء لا ترتقي إلى مرتبة الشعر لفظا ومعنى، فنفى عنها صفة الشعر، وكان دقيقا فوضع بين أيدينا أسماء هؤلاء العلماء؛ أي إنه حصر هذه الطائفة في ثلاثة الأصمعي وابن المقفع والخليل.

وقال الإمام الشافعي أبياتا شائعة واجتزأ الناس منها جملة (والشعر بالعلماء يزري)، قالها الشافعي في معرض يحمد فيه الشعر ولا يذم، و تلقاها الناس بوصفها مثلا سائرا، وللأمثال السائرة سلطة تفوق كل سلطة إنها سلطة السيرورة التي تتلقاها جماعة من بعدها جماعة ثم يتشكل لها بمرور الوقت وعي جمعية وتضافرت مع جمل أخرى مجزأة من ابن قتيبة وغيره وقوضت كل محاولة فردية تحاول إثبات عكس ذلك.

في العصر الحديث مهدت دراسات كثيرة لدرس علاقة العلم والشعر بوصفها علاقة تفاعل تنبع من شاعر فطن، و الفطنة لون من الفكر، ولا تخلو الفطنة من إدراك يجتمع فيه العقل والقلب. ووجد النقاد في طائفة من الشعراء الكبار مادة خصبة للحديث عن صورة العالم الشاعر :أبوالعلاء المعري، ابن خفاجة، العقاد، الزهاوي.

وأنا أسوق هذه المقدمة لأضع هامشا نقديا لديوان شعري صدر منذ سنوات للشاعر الدكتور محمود عبدالحفيظ عنوانه "قرية سورها الخوف" عن سلسلة خيول أدبية تصدر عن محافظة الشرقية بالتعاون مع هيئة قصور الثقافة ٢٠١٠م (وهي تجربة مهمة تستحق أن تناقش في دراسة مستقلة).

وصاحب الديوان هو الدكتور محمود عبدالحفيظ (١٩٥١-) أستاذ للأدب العربي، وهو شاعر له حضور بارز على الأقل إقليميا، وتجربته الشعرية تجاوزت عشرة دواوين (لا أعرف العدد تحديدا)، وهي تجربة متنوعة جمعت بين شعر الفصحى وشعر العامية. وهذا ملمح يمكن أن نستبين منه كيف وجه العالم بالشعر روح الفنان إلى إدراك أن المثل الجمالية تنبع من اللغة مكتوبة أو منطوقة، فصيحة أو عامية؛ اللغة أداة تحتاج إلى من يصوغها في شكل جمالي لتحقيق غايات، وليس هناك ما يمنع أن تتضافر فيها كلمات القاموس الشعري القديم مع قاموس مصري خالص.

لا فرق بين سور المدينة وسور القرية كلاهما دال على حاجز يعريه الشاعر أمام ذاته ليعيد تقييم ما حوله

والديوان الذي بين أيدينا من شعر الفصحى، ويضم عشرين قصيدة. وحملت كل قصيدة عنوانا.

وجاء عنوان الديوان مغايرا لعناوين القصائد، وإن جاء دالا نصيا مكررا في إحدى القصائد :

القطار الذي مر.. هذا قطارك

فاخرجي.. كم تبقى من العمر..

لا يرحل الذئب عن قرية سورها الخوف ص٦١.

وليس بغريب أن يخالف عنوان الديوان عناوين القصائد، وأوضح المؤلف أن مجموع القصائد كتب في عقد من الزمن ما بين ١٩٨٥_١٩٩٥م، وليس هناك تأريخ لكل قصيدة في  الديوان، ولكن القارئ يدرك الترتيب الجمالي من القصيدة الأولى (فاتحة) التي تشير إلى البدايات المتعبات و المرفأ الآمن :

الرياح تثير سحابا.. يهدهد رحلتك المجهدة /والصباح الجميل يعانق أبوابك الموصدة/وائتلاق المواعيد ينداح/بين جوانحك الهامدة /والذي أتعبته بداياتك المتعبات/ يصير إلى مرفأ آمن.. ويد سيدة. ص٧

وينتهي الديوان بقصيدة حلم، وما أجمل الأحلام التي يبصر فيها الشاعر الراحة الكبرى بعد جسر من التعب، والراحة ليست سكونا بعد حركة، ولكنه حركة إيجابية بعد إيقاع لاهث هبوطا وصعودا في غير انتظام، لذلك يعاد كتابة تاريخ جديد.

أدق نوافذ التاريخ.. أوقظه / أعيد كتابة التاريخ.. أمحو ليلك المصلوب.. / أثبت ليلك القمرا/ ألملم ألف جرح من طريق الصبح.. أجمعها / وأنفخ نفخة فيها.   ص٧١

العالم بالشعر الخبير به هو الذي يرتب جماليا هذا الديوان ليبدأ بالحاضر (فاتحة) ويختتم بالمستقبل الحلم، وما بينهما تعيد الذات اكتشاف نفسها تتوزع فيها الخيوط والألوان في جزئيات /قصائد (حضور - غياب-ليل وخمر _قرية لم تمت بعد - الشاهد - حتى متى... إلخ). وهو ما يعني أن الذات تتكشف أمام نفسها في صور مختلفة تبدو رائية ومرئية، وهي وحدها القادرة على أن تلملم هذه القصائد في إطار تستعين بها للوصول إلى الحلم، وتكشف عن هذا الصراع بين الحلم الشعر والواقع المجهد بالبدايات:

قلت البدايات انتشاء / والشعر يصنع ما يشاء /ليل وخمر واحتلاب غد سعيد / إلا رغيفا تستدير له الوجوه الباكيات.. /وتستعيد.. / زمن العشاء. ص٤٨

في الوقت الذي تتكشف فيه الذات أمام نفسها في هذا الديوان يحاول العالم الخبير بالشعر أن يوجه القارئ إلى صراع وهمي آخر (القرية - المدينة)، ويساعد على هذا الوهم مفردات تتصل بالقرى والمدن، وقصيدة تبدو فيها مواجهة صريحة للريفي الذي يزور المدينة في قصيدة (قادم من بلاد الحياء) :

لا تنام المدينة ٠٠/لكنها حين ينتصف الليل /تخرج للبحر عارية /وأنا..،..، قادم من بلاد الحياء./من بلاد الفضيلة والعيب.. /لكنني رجل.. والرجال اشتهاء. ص٩.

وأنا أقصد تحديدا بالوهم أن قارئ الشعر الحديث الذي ألف أن يقرأ تأملات الشعراء في (المدن الحجرية) و(أشجار الأسمنت) ويراها مدنا (بلا قلب) لن يجد صيغة مماثلة لهذا الصراع في ديوان قرية سورها الخوف. الصراع هناك يبحث عن واقع اجتماعي قد يناقش أفكارا تتصل بالطبقات أو يؤرخ معه لميلاد نوع أدبي جديد مثل الرواية أو غير ذلك. أما هنا في ديوان محمود عبدالحفيظ لا يوجد غير الإنسان الذي يواجه ذاته ويتفحص ما حوله لا يريد أن يوغل بعيدا حتى يضمن استقرار المرفأ :

نشدتك الرضا.. /يا نجمني البعيدة /يا جملتي المفيدة /يا وجع القصيدة /يا كل حزن المقطع الأخير /أن تمسكي الشراع.. والإيقاع /أن تصلحي بين الحروف والنقاط /كيما يطل الحرف من رحم الكلام /وتستوي قصيدتي على شواطئ السلام.. والهدى /نشدتك الرضا.. يا جملة الختام. ص٣٤

لذلك لا فرق بين سور المدينة وسور القرية كلاهما دال على حاجز يعريه الشاعر أمام ذاته ليعيد تقييم ما حوله، ويرى مصادر الخوف الذي يرعى في قصائده، ويقف حجر عثرة أمام الفارس النبيل :

فارسا كنت وأصحاب الفضيلة يعرفونك

فارسا كنت وأشياخ القبيلة يألفونك

فارسا كنت

وها أنت على سور المدينة

يحتويك الصمت والنسيان

والدم والضغينة

مزق التاريخ أوصال الرواية والرواة/وامتطى فيك هواه /صرت نهبا للحواة/والروايات المهينة. ص١٤

الدال النصي للعنوان خدعة كبرى تلهينا بمفردة القرية ومفردة السور، ولم يبق إلا مفردة الخوف. وهو خوف متصل بإحساس الذات بمسئوليتها تجاه الآخر، وإن تعطل الحلم المنشود :

أحببتهم.. /ووهبت عمري كله للخائفين /حتى إذا ما اشتد مني العود.. والفرع استوى /قلت اهبطوا خلفي وأرض الله واسعة /قالوا الفتى يهوى البديع /لا تفلتوه.. /صدقتهم /أوقفت أحلامي.. وأجلت الفتوح /وبقيت بينهم /أقسم فيهم جسمي.. وأختصر الطموح. ص٥٠.

وهكذا تتكشف أمام الذات البدايات المتعبات لعله يتجنبها، ويصعد في سماء الوجد ل(نهبط أرضنا مطرا ص٧٢). ولكنه يبدو يوتويبا لأن للخوف أسوارا عاتية لا تنجلي كلية إلا أمام حقيقة الحقائق الموت؛ حيث السكون لا الحركة، وتكاد مفردات الموت تزاحم مفردات الخوف بل تشكلها، وتجعلها أكثر وعيا بما مضى ( على سبيل التمثيل  قصائد الديوان : شوارع المساء، حتى متى، الشاهد، العالم الجديد ). وليس من سبيل إلا أن تخفف الذات الوطء أو تحتمل.

لقد نجح العالم والشاعر في صياغة العالم الجمالي الذي نستطيع أن نرى فيه قرية سورها الخوف. وتحية للعالم الشاعر الذي نحتفل بعيد ميلاده السبعين مع عيد الأضحى المبارك.