حديث الورد للشعر

عزت الطيري يصوغ رؤيته الشعرية المتفردة على مبدأين أساسيين هما: الوضوح والعمق.
"حديث الورد" يمثل دفقة شعورية ما، ولم يكن اختيار الشاعر في أولية هذه الدفقة اختيارا عشوائيا
الإيمان بالخرافة يتم بوعي من الشاعر لكنه غير آني يتعالى عن الزمان والمكان

يصوغ عزت الطيري رؤيته الشعرية المتفردة على مبدأين أساسيين هما: الوضوح والعمق، وتتشكل فنيا في شكل دفقات شعورية يصعب أن نطلق عليها قصيدة أو مقطوعة أو نتفة أو غير ذلك من مصطلحات الشعر، فهي دفقات شعورية تعبر عن صاحبها في مطالب شتى قد تتفق في الموضوع أو تختلف، قد تطول أو تقصر، ولكنها في كل ذلك تعبر عن موقف صاحبها من العالم المحيط  به. 
نشر عزت الطيري مجموعة شعرية جديدة تحمل عنوان "حدّث الورد قال" عن "دار الرّبى للنشر والتوزيع" بالقاهرة 2021 في حلة قشيبة وإخراج متميز، وهو عنوان لافت للنظر فهو يحيل دلاليا إلى عالم خارجي يتمتع بسند ومتن "حدّث – قال" ، ولا يخلو من بعد ديني يتصل اتصالا مباشرا بالمصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي وهو السنة النبوية، ويمكن أن نضيف بعدا أدبيا راسخا في السرديات القديمة ممثلة في المقامات وفي السرديات الحديثة ممثلة في رواية محمود المسعدي "حدث أبوهريرة قال". 
وعنوان المجموعة الشعرية هو عنوان أولى القصائد؛ أي إنّه يمثل دفقة شعورية ما، ولم يكن اختيار الشاعر في أولية هذه الدفقة اختيارا عشوائيا؛ بل هو اختيار مقصود كاشف عن هويّة هذا الورد الذي يتجسد ليحدث ويقول في فضاء متسع: 

وكل حديث للورد هو حديث زينب، وكل قول يتصل بالورد هو قول زينب؛ لأن الوجد المتصل بينهما أساسه الورد والريحان

وللورد حكمته المصطفاة     
وحنكته 
حين قال 
-    تعالت أحاديثه 
في الحدائق -
إن الفضاء "الذي يسرح الغيم فيه 
بلا رادع أو رقيب 
وتزعجه الطائرات الغبية 
والنسر والصقر"
ملك لهذي الشجيرات 
حين تطول .. تطلّ 
تطاول ما لا يطال. (ص8-9)
وما كان لهذا الورد أن يملك حكمة وتعلو طبقة أحاديثه لولا أنه أتقن صنعته، وتقدم في صنعته مبتكرا لا مقلدا، ولأنها صناعة تتصل اتصالا مباشرا بالحواس، فبدهي أن تكون وسيلة التعرف إليها هي الإدراك الحسي لا الإدراك العقلي، ومثل هذا التعرف الجمالي يتعلق بالداخل لا الخارج؛ أي يتصل بعالم الشاعر الداخلي لا الخارجي: 
وللورد حرفته 
في ابتكار الأريج 
وصنع الخرافة 
لما يشم الفتى 
في المساء 
عبيرا له 
ويقارنه 
بارتجاف الحبيبة 
حين ترش على شارع 
-    سوف تمشي بأندائه – 
عطرها البابليّ  (ص7)
الإيمان بالخرافة يتم بوعي من الشاعر لكنه غير آني يتعالى عن الزمان والمكان، ويرتبط بلحظة الاتصال بالفتى (يشم الفتى) وبفعل المقارنة الذي يحدث عن طريقه هو (ويقارنه بارتجاف الحبيبة). هل نقول إن الذوات الرائية متغيرة أمام ثبات صور الطبيعة. ومن ثمّ تتباين هذه الذوات في استقبال هذه الصور، وفي قدرتها على مقارنة هذه الصور بصور ذاتية خالصة كصورة ارتجاف الحبيبة.  
لم يكن غريبا أن يدرك "حديث الورد وأقواله" من يملك أسرار الصنعة، وصاحب الأسرار وحده من يملك شفرة الحديث. وهو ما يجعل هذه الأحاديث تتصل بالفردي / العالم الداخلي بالشاعر، وتنفصل عن المقدس (العالم الخارجي) الذي غلّف العنوان، وأن يعلن صاحب الأسرار صراحة: 
لم أطر 
دون أجنحة 
لم أفسر 
ولم أستمع 
لغة الطير..., 
لا ينبع الماء 
من تحت أقدامي اللاهثات 
ولا أستوي 
فوق عرش 
لبلقيس 
لم أشف حوراء 
فاتنة 
فقدت ضوء عينين 
نرجستين. (ص166).
وفي الوقت الذي ينفصل فيه عن عالم المقدس يؤسس لعالمه المتخيل الخاص بوصفه صاحب الأسرار الذي يدرك لغة الورد، وطرق روايته ومراتب الرواة فيه فهو (صاحب المعجزات) المتخيلة: 
 ولكنني 
حين أدنو 
دنوّ الفراشات 
من عطرك السوسني 
الذي فاح 
باح 
سأغدو ملاكا 
وسربا من الأولياء 
لهم ْ
ألف معجزة 
ويزيد.  (ص167)
وهو ما يجعل رؤيته الخاصة تفارق رؤية الآخرين في الموضوع الواحد، وما يراه الآخر مألوفا عاديا لا يراه هو كذلك (انظر دفقته: حرّ ص 104)، وتظل كل دفقة شعورية حالة خاصة متفردة، وإن جمعها رابط شكلي (مجموعة شعرية) أو رابط فني (الاتصال بالذات الرائية)، وهو ما جعل الشاعر يحرص على انفصال الدفقات الشعرية التي تحمل عنوانا واحدا مثل (وشم)، وهي ثلاث دفقات ميّز كل واحدة برقم (وشم1 – وشم 2 – وشم 3)، وكما في دفقتيه (مصعد – مصعد ثان). 
في الدفقة الأولى: مصعد يتجه مباشرة نحو التجسيد ليعيد ترتيب العالم لصالح ما يعرفه هو فيقدم ما يدركه مباشرة من أسرار الورد على ما يقدمه العالم الخارجي من صناعات نافعة: 

كنا في المصعد
فتعطل، خافت، قالت يا ربي 
وانثال عبير قرنفلها يهمي 
من أنفاس هاربة، من زهر الجنة 
فتحرّك ذاتيا، وانفتح الباب لتخرج 
لأظل أنا مأسورا بروائحها أتساءل 
كيف تكون الأنفاس بديلا 
عن كهربة مصعدنا 
يا علماء الطاقة والفيزياء. (ص64)
أما في دفقته الأخرى: مصعد ثان فهو يتحدث عن حالة وجدانية أخرى يشعر فيها بالتوقف لا الحركة كما في الدفقة الأولى، يشعر فيها بعالمين منفصلين وليسا متصلين بفعل أنفاس عبير المحبوب، يقول : 
كمصعد معطل، ما بين طابق وطابق 
والكهرباء لن تعود إلا بعد ساعة 
وحارس البناية الأمين نائم 
وهاتفي نسيته 
والبنت عند الباب في انتظار موعد مؤجل. (ص65)
وتمايزه عن الآخر لا يعني أكثر من ارتباطه الواعي بالعالم المحيط وفقا لاحتياجاته الخاصة؛ فالآخر قد يرى في الوردة نبات يقطف وسرعان ما يذبل، وهو يراه قلبا ينبض: 
ويلقي لها 
وردة 
في الطريق 
تدوس عليها 
وتمضي 
كأن لم يكن 
في دواخل وردته 
قلب صبٍّ
ذوى 
واحترق. (ص90)
يكتب الشاعر عزت الطيري دفقاته الشعرية بهذا العمق والوضوح، ويعيد ترتيب العالم الخارجي المحيط به الذي يستمد مادته منه، والطبيعة جوهر هذا العالم، ويشارك الطبيعة التاريخُ فهو يمثّل رافدا ثانيا في هذه المجموعة، وهو رافد تجلّى من اختيار عنوان المجموعة، وفي تناصاته مع أزمنة وأعلام يذكرهم المسيح وعمر بن الخطاب وبيكاسو وموزارت وفيروز ونجاة الصغيرة. وكلها روافد تؤكد حضور الذات وغلبة الحاضر، وتعبر عن حالة التوافق التام عندما تتحد الذات مع الطبيعة، وتنعكس الطبيعة في صورة مرآوية للذات الرائية: 
هربت 
سيدة سامقة العطر 
كزهرة رمان 
دخلت 
مجموعتي الشعرية 
واختبأت بين قصيدة سحر 
وقصيدة جمر 
أسميت المجموعة 
ش
ا
هي
تبتكر الكون. (ص165)
ولكن اللحظة الحاضرة لا تنبئ دوما عن هذا التوافق، بل يشيع في الدفقات الشعورية كلمات الفقد والعجز والانفصال: 
ألقت بكتابي 
في البحر 
ومسحت 
بقصائدي البكر 
زجاج المائدة 
وقرأت فنجاني. (ص14)
وهو ما سيدفع الشاعر إلى مسارين: مسار يتجه به إلى السخرية من الواقع المرير مثل: وحدة ص30، وكفن ص48، وهو مسار يمتلك الشاعر أدواته جيدا، ويجيد فيه لعبة المفارقة. ومسار آخر يعيد فيه ترتيب عالمه الداخلي وتتقدم فيه ذاكرة مشبعة بالوصل، ويعيد وفقا لهذه الذاكرة أحاديث الورد سندا ومتنا، وأعلى مراتب الحديث ما كان مشاهدة ورؤية دون وسيط مادي أو بشري؛ لذلك تتقدم صورة البنت زينب التي تتكرر أربع مرات في المجموعة الشعرية (انظر دفقاته الشعرية: أصيص – تسكع – زينب – هل). ولم يكن غريبا أن تكون مصدر البهجة، وأن يشعل ذاكرة ضيّع مفتاحها، وأن يردد اسمها بعد تمنع، فقد خبّأها في خزانته: 
خبأت اسمك 
وملامحك الموشومة بحنين الحناء 
بداخل ذاكرتي 
أغلقت الباب 
وضيعت المفتاح. (ص85)
ولم يكن له من سبيل لإعادة بناء عالمه الخاص أن يفرج عن اسمها، وإن أخبر بحجة واهية قوامها اللهو والتسكع: 
تسكعت في شارع الذكريات 
بلا هدف 
واضح أو سبب
لعلي أرى زينبا 
كالقطيفة 
مغسولة بالندى 
ومدججة بعبير الأنوثة 
وتمرق كالحلم 
مثل الشهاب 
فتظلمني بالهجير المبيد 
وتحرقني بالتقاء العيون 
وتقتلني باهتزاز العناقيد 
في داليات العنب 
وليس بمقدور قلبي الملام 
وليس به قدرة للعتب 
تبّ قلبي وتبْ. (ص21-22)
ويفصح الشاعر عن ملامح خاصة لها، فهي (ذات الخالين على الخد الواحد ص56 - وتميس كما الغزالة ص146)، ولأنها تمتلك ما يجعله مستسلما وراضيا فهو يصفها بتراكيب لا تشبه أحدا، فقد تشترك معها الآخريات في الوصف بالقمر الأبيض، ولكن من يشاركها في الوصف بــ (صهيل التقاح وحمحمة الموز ص82). 
وزينب بما تملكه من صفات نادرة وملامح خاصة تعد أعلى مراتب الإسناد وأصدق ما قيل في المتن، وما يتفرع منها يحمل شيئا من قسماتها، وتغدو أصل كل الأصول؛ لذلك ينفرد بالرواية عنها الشاعر ثلاثة أعوام متصلة: 
أتزوجها في الحلم ثلاثة أعوام 
وأطلقها طلقات بائنة 
كي لا ترجع أبدا 
وأسميها الولادة بنت المستكفي 
أحيانا عبلة 
أحيانا لبنى 
وأناديها في متن قصائدي الخمسين 
بزينب. (ص82).
وكل حديث للورد هو حديث زينب، وكل قول يتصل بالورد هو قول زينب؛ لأن الوجد المتصل بينهما أساسه الورد والريحان: 
في الثانوية 
أحببت البنت زينب 
حبا عذريا 
في وجد صوفي 
كهديل الورد 
وأحلام الريحان. (ص56)
وكما ولدت زينب حديث الولادة وعبلة ولبنى، فقد كوفئ بحبه العذري: 
فكافأني الله 
بعشق ثلاث بنات 
في أول سنوات الكلية 
كالأقمار 
ويغدو الحلم في ديوان الشاعر، ومادته وفيرة وغنية، صورة من صور زينب يحاول أن يصل به حديث الورد ويدرك أقواله. فهل ينجح الشاعر؟