في رثاء الصديق

شعرنا العربي الذي قُرئ آلاف المرات بحاجة إلى أن يُقرأ مرات أخرى بعيدا عن الأحكام الجاهزة والأفكار المسبقة التي تضيع علينا تأمل جمالياته.
ولقد لقيت الموتَ يوم لقيته ** متسربلا والسيف لم يتسربل 
هل هناك ما هو أجمل من ارتباط الشعر بالحياة؟

الرثاء فن شعري للعرب فيه نصيب وافر، والأستاذ العقاد يرى أوجه اختلاف كبير بينه وبين أشعار الأمم الأخرى: "وإن كان الموت قضاء على الأحياء في كل أمة وكل لسان." ومرد ذلك في تفسير العقاد أن شعر الرثاء - والشعر العربي عموما -  يتجاوز الحدث الفردي الذي يرتبط بشخص ما، ويبقى خالدا تردده الأجيال جيلا بعد جيل. ويبدو أن الشعراء القدامى قد أدركوا ما أدركه العقاد فأشاروا إلى القوافي الباقيات، وهو الشعر الذي يتحقق له فعل السيرورة (وبعض الشعر أملي بالخلود) كما يقول البحتري. 
واستدعاء هذه القصائد الخوالد هو استدعاء للقيمة؛ أي للنموذج المثال الذي يمكن القياس عليه، وهي مهمة من مهمات النقد، ما أحوجنا إليها في ظل طوفان الدواوين التي تدفع بها المطابع أو القصائد التي تنشر في الجرائد والمجلات ووسائل التواصل الاجتماعي.
والحق أن كلام العقاد عن قلة المشابهة بين المراثي العربية وغيرها من المراثي يبدو لافتا للنظر من جهة السيرورة، ومن جهة التنوع أيضا. وإذا تجاوزنا هذه الكتب المدرسية التي لا ترى فرقا بين شعر الرثاء وشعر المدح إلا من جهة أن الأول يقال في الموتى والثاني يقال في الأحياء؛ بل إذا تجاوزنا فكرة الأغراض الشعرية برمتها التي ضيعت علينا الاستمتاع بكثير من الشعر إلا في ضوء منظار ضيق الأفق. أقول إذا تجاوزنا هذا كله، واستبقينا هذه الخاصية التي لازمت شعر الرثاء فترة طويلة، وهي تنزيهه عن البدء بالمقدمات الغزلية أو النسيب عموما منذ بدأ المهلهل (الزير سالم) يقصد القصائد في رثاء أخيه كليب: 

كلام العقاد عن قلة المشابهة بين المراثي العربية وغيرها من المراثي يبدو لافتا للنظر من جهة السيرورة

كليب لا خير في الدنيا ومن فيها ** إن أنت خليتها فيمن يخليها 
فمن المؤكد أن المرء يعجب من صور الرثاء المتنوعة. وكيف لا يتعجب المرء وهو يقرأ وصف  الشاعر صاحبه المقتول بأنه (خير الناس)، ووجه العجب أن الشاعر الراثي هو القاتل: 
تعلّم أن خير الناس ميت ** على جفر الهباءة لا يريم 
ولولا ظلمه مازلت أبكي ** عليه الدهر ما طلع النجوم
إنّ الصديق (حمل بن بدر) قد ظلم، والظلم مرتعه وخيم، وقتله – في سياق الأعراف الاجتماعية آنذاك – هو شفاء للنفس وانتصار لقيم الجماعة، ولكن فاجعة الموت وفقدان الصاحب موت آخر للقاتل (قيس بن زهير)، يمكن لنا أن نتبينه في البيت المثبت في حماسة أبي تمام: 
فَإِن أَكُ قَد بَرَدتُ بِهِم غَليلي **  فَلَم أَقطَع بِهِم إِلّا بَناني
هذا لون من ألوان الرثاء يستحق التدبر. ولون آخر شاع في العربية حتى شكل ظاهرة قائمة بذاتها وهو رثاء الذات، وهو وإن كان لونا واحدا فقد تعددت صوره، وكشفت هذه الصور عن القلق الوجودي الذي يصاحب الإنسان في مواجهة الموت، وإحساس الإنسان بدنو الأجل. ربما وجدنا من الشعراء من يحاول أن يقارع الموت بسيفه: 
ولقد لقيت الموتَ يوم لقيته ** متسربلا والسيف لم يتسربل 
لكن عشرات القصائد تقف عاجزة في انتظار ما لم يأت بعد، ولا مفر من الانتظار. وفلسفة الانتظار تقوم دوما على العلاقة بين الطرفين فالأعلى مكانة / سطوة / قوة هو الذي يُنتظر، والطرف الآخر لا يملك إلا الانتظار. 
وقد كتب الدكتور محمد زامل دراسة مهمة تستحق الإشادة والتنويه عن (رثاء الذات في الشعر الجاهلي) لكنني في ضوء ما اخترت من العنوان سأميل إلى ما يرتبط بالصديق؛ لذلك سأتوقف، وأنا أتحدث عن رثاء الذات، عند نصين الأول لشاعر بني تميم (حريث بن سلمة)، وقد أدرك أن أصحابه من سادات بني تميم قد رحلوا واحدا تلو الآخر، وليس أمامه إلا الانتظار أو أن يرد:
ألم تر أني بعد عمرو ومالك **وعروة وابن الهول لست بخالدِ 
وكانوا بني ساداتنا فكأنما ** تساقوا على لوح دماء الأساود 
وما نحن إلا مثلهم غير أننا ** كمنتظر ضمأ وآخر وارد 
يحفل أهل البلاغة بالبيت التالي الذي يصف فيه الشاعر سادات بني تميم بأنهم (ساعد الدهر)، ولكنهم يغفلون عن الإشارة إلى فلسفة الانتظار. إنّ الشاعر لا يعدد محاسن سادات بني تميم لكنه يرثي نفسه أمام ما لا يجيء. وقريب من هذا النص نص آخر للشاعر حافظ إبراهيم، وهو يرتبط بقصة طريفة وعجيبة ترويها كتب الأدب، وهي قصة وفاة الإمام محمد عبده، فقد وقف على قبره أصحاب المراثي من الشعراء وغيرهم، وهم بالترتيب (الشيخ أحمد أبوخطوة، حسن عاصم، حسن عبدالرازق، قاسم أمين، حفني ناصف، حافظ إبراهيم). واتفق أنه مات الأربعة الأولون على ترتيب وقوفهم في الرثاء؛ فانتبه لهذا حفني ناصف فأرسل لحافظ إبراهيم يشير إلى ذلك، ويقول: 

فلا تخش هلكا ما حييتُ وإن أمت ** فما أنت إلا خائف تترقب
وشاءت إرادة الله أن يموت حفني ناصف، فكتب حافظ رثاءه لنفسه:
آذنت شمس حياتي بمغيب ** ودنا المنهل يا نفس فطيبي
أمّا اللون الذي يتجه مباشرة إلى رثاء الصديق، فإنني أستعيد معه مقولة العقاد أنّ القيمة الكبرى لشعر الرثاء في أننا "ننسى أسماء الموتى المبكين في دواوين شعرائنا الأقدمين ثم نخرج منها بالفائدة الأدبية والفائدة الاجتماعية التي تستفاد من كلام جدير بالاطلاع عليه كيفما كان". 
أقول هذا، وفي ذهني ما قرأته قبل أيام على هذا الموقع من رثاء الكاتب الكبير مصطفى عبدالله لصديقه الروائي المرموق صلاح الدين بوجاه، وهو يستعيد معه الموت والميلاد والمتعة والألم. أقول هذا، وفي ذهني هذا اللقاء الذي جمعني بصديقي الحبيب الدكتور وليد عبدالباقي أستاذ النحو والصرف بجامعة القصيم، وصاحب الكتاب المهم "الأحكام النحوية بين الثبات والتحول" الذي فقدته قبل أسابيع، وهو ينبهني إلى قصة حفني ناصف وحافظ إبراهيم التي سقتها إليك أيها القارئ الكريم، وهو يخط بقلمه معلقا عليها "سبحان الملك" في كتاب ذكرى الشاعرين، وما جال بخاطري. 
أما الإحساس بفقد الصديق هو ما أشار إليه الأستاذ العقاد فقد جلست أردد ناعيا  قول أبي تمام: 
وقلت أخي، قالوا أخ ذو قرابة؟ ** فقلت ولكن الشكول أقارب
نسيبي في عزم ورأي ومذهب ** وإن باعدتنا في الأصول المناسب 
مضى صاحبي واستخلف البث والأسى ** عليّ فلي من ذا وهاذاك صاحب 
عجبت لصبري بعده وهو ميت ** وكنت امرءا أبكي دما وهو غائب 
 من يستطيع أن يدّعي أن أبا تمام يرثي شخصا اسمه غالب السعدي، وكل واحد فينا يرى أن هذا الشعر هو صاحبه، وهو المعبر عن لسان حاله. 
إنّ شعرنا العربي الذي قُرئ آلاف المرات بحاجة إلى أن يُقرأ مرات أخرى بعيدا عن الأحكام الجاهزة والأفكار المسبقة التي تضيع علينا تأمل جمالياته، وهل هناك ما هو أجمل من ارتباط الشعر بالحياة. 
إنها دعوة للقراءة الجادة بعيدا عن كثير من المضحكات المبكيات التي تبثها المطابع أو يتشدق بها المتشدقون تدعو إلى قطيعة مع تراثنا العربي: 
على أنها الأيام قد صرن كلها ** عجائب حتى ليس فيها عجائب